العمارة تأصيل للهوية وصرح شامخ للثقافة الإنسانية – مصدر24

العمارة تأصيل للهوية وصرح شامخ للثقافة الإنسانية

إسطنبول – رغم مرور 433 عاما على وفاته، ما يزال المعماري الشهير سنان باشا حلقة من حلقات الهندسة المعمارية الخالدة التي تركت بصمتها في تاريخ فن العمارة، واستفاد من عبقريته التي تخطت حدود عصره مهندسون من كل العالم في نحت بصمتهم في هذا الميدان الذي يشبه العملة ذات الوجهين، وجه للفن وآخر للعلم، فالحضارة  تطورت بفضل تراكم التجارب الإنسانية التي لا تعرف الفصل بين الحدود الجغرافية ولا الديانات ولا حتى الجنسيات.

وإذا كانت الهندسة المعمارية تأصيلا للهوية، فإنها وجه من وجوه الحضارة الإنسانية التي شاركت في بنائها الشعوب بمختلف جنسياتها على مر العصور، وإذا مر إنسان بدولة غير دولته ووجد صرحا معماريا ببصمة لواحد من أهل بلده، فسيفتخر حتما بما يراه وسيجعله يفخر لا بما أنجزه ابن أو بنت بلده فقط، بل سيتيقن أن ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية اليوم ليس إلا ثمرة جهد بشري.

حلقات من تاريخ العمارة

المتمعن في الصروح المعمارية الشهيرة سيجد فيها خطوطا من التاريخ وإرثا واسعا من الفلسفة والثقافة، لذلك لا يفتخر العراق اليوم ولا حتى العرب وحدهم بزهاء حديد، بل تفخر بها الصين أيضا والولايات المتحدة بما أنجزته لهما من بنايات لن يمحوها تقادم الزمن، لذلك لقبها العالم بملكة المنحنيات.

والأمر ينطبق على المعماري الكندي فرانك جاري الذي عرف بقدرته على خلق المساحات التي تعالج السطوح غير المستوية. ومنحت البرتغال أيضا  البشرية مهندسا معماريا عبقريا والمعروف عالميّا باسم الفارو سيزا، والذي تقوم فلسفته على تحويل الواقع إلى أشكال متغيرة في ظل رؤية ثورية، حتى اعتبرته لجنة تحكيم جائزة بريكتلز أنه من أوائل المجددين في مجال الهندسة المعمارية في العالم.

ويعتبر البعض فرانك رايت أهم معماري على مر العصور، رغم أنه قام بتعليم نفسه أهم أسس الهندسة المعمارية، وتعتبر أعماله جزءا من الطبيعة المحيطة بها حيث يؤمن رايت بدمج التأثيرات العضوية للحصول على لوحة فنية يتناغم فيها المعمار مع الطبيعة.

والمهندس الصيني ليو مينع بي الذي درس الهندسة في الولايات المتحدة وقام بتصميم بعض أهم المباني الحكومية في العالم وأهمها مركز أبحاث الغلاف الجوي بكولورادو حيث يعد واحدا من أهم المباني ذات الطراز الفريد في العالم.

هذه أمثلة قليلة جدا على أن المهندس المعماري حرف من حروف مجلد هندسة البناء في تاريخ البشرية، وهي أمثلة لأسماء معاصرة لكنها حتما استفادت ممن سبقها من المهندسين الذين مروا حتما على إنجازات المهندس التركي سنان باشا الذي آن الأوان للأتراك لأن يفتخروا به لما تركه من آثار معمارية لم تقتصر على تركيا بل امتدت لتشمل كثيرا من أنحاء الدولة العثمانية، فشيد جامع محمد باشا البوسني في صوفيا عاصمة بلغاريا، وجامع خسرو باشا في حلب وجامع السلطان سليمان ومطعم السلطان الخيري في دمشق، إلى جانب أعمال معمارية في البصرة والقدس والمدينة المنورة.

سنان باشا ترك وراءه 365 أثرا معماريا في تركيا وخارجها، تمثّلت في مساجد ومدارس وقصور وجسور وممرات مائية

ولد يوسف بن خضر بك بن جلال الدين الحنفي الرومي المشهور بسنان باشا في إحدى قرى ولاية قيصري وسط تركيا عام 1490 لأسرة مسيحية، انتقلت في ما بعد إلى إسطنبول، ثم اعتنق سنان الإسلام في عهد السلطان العثماني سليم الأول.

وأكمل دراسته في “الأوجاق” المعماري الخاص، والأوجاق هو مدرسة العمارة التي تربى فيها كبار المعماريين من أمثال داود أغا وغيره ممن شيدوا أعظم الآثار في تاريخ العمارة العثمانية والعالمية.

والتحق سنان بحملة السلطان ياوز سليم إلى مصر، وتعرف فيها جيدا على البيئة المعمارية، وشهد الآثار الباقية منذ عهد الدولة السلجوقية وآثار الصفويين واكتسب خبرة كبيرة في مجال العلاقة بين طبيعة المدينة والمعمار، فكانت القاهرة درسه الأول في الهندسة المعمارية المختلفة.

والتحق بقوات الانكشارية في عهد السلطان سليمان القانوني، وساهم في حروب على بلاد فارس والشام والعراق، كما زار دول البلقان والمجر وجنوب فرنسا.

وتفتحت عيناه في الأناضول على رؤية العمارة السلجوقية التي لا يخلو موقع في مناطق الأناضول من وجودها.

وبما أن سنان قد صحب السلطان القانوني في فتوحاته الأوروبية بمنطقة البلقان، باعتباره مهندسا عسكريا، فقد توفرت له فرصة الاطلاع على العمائر الأوروبية التي عرف عنها تميزها بالضخامة والاهتمام بالزينة والزخارف.

وهناك أيضا مؤثر معماري آخر لسنان، وهو كنيسة آيا صوفيا في إسطنبول، التي تحوّلت إلى جامع إسلامي، ومن آيا صوفيا أخذ سنان فكرة العمل المعماري الديني الضخم الذي ترسخ في ذهنه بتمعنه ونظراته الطويلة لآيا صوفيا.

إذن تطور فكر سنان الهندسي بفضل روافد ثلاثة هي السلجوقية، وأوروبية، وبيزنطية، ليرتقي ويذيع صيته ببصمته في عالم الهندسة المعمارية ليس في تركيا فقط بل في عالم الهندسة المعمارية والحضارة البشرية.

اهتم سنان طيلة حياته بكل فروع الفن في عصره وعكسها في آثاره التي انتشرت في جميع أرجاء الأراضي التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية، وله ثلاثة أعمال تمثل مراحل حياته المهنية، وقال هو عنها إن الأول يمثله صبيا يتعلم، والثاني معماريا متمكنا، والثالث أستاذا، وهذه الصروح هي جامع شاه زاده بإسطنبول عام 1548، وجامع ومجمع السليمانية الذي بدأ بناءه عام 1551 وأتمه عام 1557، وجامع السليمية في أدرنة الذي تم تشييده من 1568 إلى 1574.

مرحلة النضج

فكر سنان باشا الهندسي تطور بفضل ثلاثة روافد هي السلجوقية والأوروبية والبيزنطية، ومن خلال زياراته إلى دول أخرى
فكر سنان باشا الهندسي تطور بفضل ثلاثة روافد هي السلجوقية والأوروبية والبيزنطية، ومن خلال زياراته إلى دول أخرى

يصف سنان عمارة مسجد شاه زاده بأنه وليد تجربته الأساسية في الولوج إلى طريق تصميمي خاص به في تعامله مع الفضاءات المقبّبة؛ وإذ يعتبر عمارة مسجد السليمية في أدرنة بمثابة رائعته التصميمية، فإنه يشير إلى عمارة مجمع السليمانية كونها مرحلة تتسم بنضوجه المهني في تعاطيه مع عمارة القباب والفضاءات المقبّبـة.

وأنشئ الجامع على شكل مربع تعلوه قبة كبيرة تحيط بها أربعة أنصاف قباب. وترتكز كل القباب على أربع ركائز ضخمة.

وللمسجد صحن خارجي كبير له ستة أبواب وله مئذنتان لكل منهما شرفتان. وإلى جانب الجامع يضم المجمع مدرسة ودارا لإطعام الفقراء وأخرى للاستراحة وعدة أضرحة.

يعد جامع ومجمع السليمانية الذي يمثل مرحلة النضج في مسار سنان المعماري، من أهم الجوامع في إسطنبول وفي العمارة الإسلامية، ما يزال يزوره السياح والمختصون في فن العمارة، فهو معلم شيده أحد أجدادهم، ويقدمه اليوم درسا تطبيقيا لنادي المعماريين الذي يتكون من أول من شيد بالطوب أو الطابوق إلى المهندسة العربية العراقية زهاء حديد التي طبعت بصمتها أشهر عواصم ومدن العالم.

وجاء هذا المسجد تحفة هندسية ونتيجة لخبرة طويلة بعد دراسة سنان لمخطط آيا صوفيا ومعرفة سر وعظمة قبتها، وكشف مكامن الضعف فيها التي عرضتها للتشقق أثناء تعرضها للزلازل.

واختار سنان موقعا متميزا لبناء المسجد، يُظهر مدى خبرته في التخطيط العمراني إضافة إلى براعته في العمارة، إذ اختار الموقع على تلة مرتفعة تطل على كل أرجاء المدينة.

وشُيد الجامع من الحجر وتبلغ مساحة القسم الداخلي له 1620 مترا مربعا بينما تبلغ المساحة الكلية بالصحن 2475 مترا.

وللجامع أربع مآذن بأطوال مختلفة في زوايا الصحن. اثنتان في طرفي واجهة الجبهة الأمامية بارتفاع 56 مترا ولكل منهما شرفتان. أما المئذنتان الأخريان فتقعان في الواجهة الخلفية، ويبلغ ارتفاع كل منهما 76 مترا وبكل منهما ثلاث شرفات.

وتحتوي رقبة القبة على 32 نافذة صغيرة لتوفير إضاءة جيدة.

وصحن الجامع عبارة عن مساحة مستطيلة يتوسطها شادِروان للوضوء ويحيط به 28 رواقا.

مهندس مبدع

بصمات في الديكور
بصمات في الديكور

 يعتبر جامع السليمية، الذي يتوسط مدينة أدرنة، حجر الأساس لفن العمارة الإسلامية، ومرحلة الأستاذية ويعتبر تحفة فنية تزين المدينة ومن أبرز الآثار المعمارية في كل  العالم.

واختار سنان موقعا متميزا لبناء المسجد، يُظهر مدى خبرته في التخطيط العمراني إضافة إلى براعته في العمارة، إذ اختار الموقع على تلة مرتفعة تطل على كل أرجاء المدينة.

وشُيد الجامع من الحجر وتبلغ مساحة القسم الداخلي له 1620 مترا مربعا بينما تبلغ المساحة الكلية بالصحن 2475 مترا.

وغطى سنان المكان كله في الجامع بقبة واحدة قطرها 31.25 متر دون اللجوء إلى أنصاف القباب التي كان قد استخدمها من قبل في جامع شاه زاده والسليمانية.

وترتكز القبة على 6 ركائز ضخمة، كما تدعم القبة أربعة أنصاف قباب بالزوايا ونصف قبة فوق المحراب.

وللجامع أربع مآذن تتخذ شكل أقلام يبلغ ارتفاعها 85 مترا، وهي ثاني أعلى مآذن العالم ارتفاعا بعد مئذنة “قطب منار” في نيودلهي بالهند.

وتقع كل مئذنة في زاوية من زوايا الجامع الأربع، وكل منها ذات ثلاث شرفات، وتتميز المئذنتان الواقعتان ناحية الباب الرئيسي بأن لكل شرفة من شرفاتها الثلاث سلالم مستقلة، أما المئذنتان الأخريان فلكل منها سلم واحد.

ويخطف الجامع الذي كتب خطوط زينته المولوي حسن بن قره حصاري عقول الزوار بالخزف الملون الذي يزينه، ومنبره المغطى بالرخام ومقصورة السلطان.

ويقول سنان عن دواعي إبداعه في هذا المسجد “إن المعماريين الآخرين يقولون إننا متفوقون على المسلمين لأن عالم الإسلام يخلو من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا، وإن بناء مثل هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة، وكان لكلامهم هذا تأثيره المؤلم في قلب هذا العبد العاجز (يقصد نفسه)، لذلك بذلت الهمة العالية في بناء هذا الجامع، وبعون الله ثم بتشجيع السلطان سليم خان قمت بإظهار المقدرة، وأقمت قبة هذا الجامع أعلى من قبة آيا صوفيا بست أذرع وأعمق بأربع أذرع”.

توفي المعمار سنان عام 1588، مخلفا وراءه 365 أثرا معماريا في تركيا وخارجها، تمثّلت في 92 جامعا كبيرا و52 مسجدا صغيرا و55 مدرسة عثمانية و7 دور لتحفيظ القرآن الكريم و20 ضريحا و17 دارا لإطعام وإيواء الفقراء و3 مستشفيات، و6 ممرات مائية و10 جسور و20 خانا و36 قصرا و8 مخازن و48 حماما.

'