آيا صوفيا.. صرح تاريخي يحوله أردوغان إلى صراع ديني – مصدر24

آيا صوفيا.. صرح تاريخي يحوله أردوغان إلى صراع ديني

آيا صوفيا.. صرح تاريخي يحوله أردوغان إلى صراع ديني

تغاضى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن كل التحذيرات الداخلية والخارجية بعد مضيّه قدما في إجراءات تحويل متحف آيا صوفيا التاريخي إلى مسجد، في خطوة تعزز من سطوته الدينية على بلد يعيش تراجعا حادا في اقتصاده ويشهد تقويضا ممنهجا للحريات الفردية والدينية التي انتعشت منذ تأسيس تركيا الحديثة.

أنقرة – روج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده “يمكنها الآن تجاوز لعنة الله والأنبياء والملائكة” بعد قرار لأعلى محكمة إدارية في تركيا بشأن البت في وضعية صرح آيا صوفيا التاريخي الذي يمثل هويتين دينيتين وتاريخا طويلا يمتد على مدار 1500 عام.

ويستند أردوغان في تصريحاته التي أدلى بها أثناء خطاب الاحتفاء بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد على “اللعنة” التي حذّر منها السلطان العثماني محمد الثاني الملقب بالفاتح بأنها “ستحل على من يحوله من مسجد”. سعى الرئيس التركي من خلال هذه التصريحات إلى الإيحاء بأن “اللعنات” انتهت الآن في تركيا بعد الخطوة المثيرة للجدل والحساسيات في الداخل والخارج.

ولم يكن كلام أردوغان صدفة أو مجرد خطاب عابر في مناسبة الاحتفاء بقرار المحكمة. فهذا الخطاب جاء بعد عملية واسعة لتهيئة الرأي العام الداخلي قبل نحو 15 عاما لإعادة آيا صوفيا لتصبح مسجدا بعد أن تم تحويل هذا الصرح التاريخي إلى متحف بقرار من مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك في العام 1934.

ويأخذ أردوغان تركيا في طريقه لـ”أسلمة” المجتمع بعيدا عن دستورها العلماني الذي حافظ على كيان الدولة لعقود قبل أن تشهد تجاذبات وخلافات وتعقيدات سياسية واقتصادية جراء سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم طوال السنوات الماضية.

ويتمسك الرئيس التركي بحلمه لاستعادة “أمجاد” الإمبراطورية العثمانية سواء في سياساته الداخلية أو التدخلات العسكرية الخارجية التي عمقت من التوترات التركية مع دول مختلفة حول العالم.

88  ألفا و537 مسجدا في تركيا تعود لمختلف العصور الإسلامية وإسطنبول لوحدها فيها 3190 مسجدا

واستغل أردوغان قضية كنيسة آيا صوفيا، التي تعتبر عجيبة الدنيا الثامنة وهي رمز لمدينة إسطنبول ويزورها سنويا الملايين من السياح، لأهداف سياسية لتحريك مشاعر الأتراك المتدينين الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات المحلية العام الماضي.

وخلص استطلاع أجراء مركز استطلاعات الرأي التركي «متروبول» إلى أن 44 في المئة ممن شملهم يعتقدون أن آيا صوفيا وضع على جدول الأعمال لصرف انتباه الناخبين عن المشاكل الاقتصادية في تركيا.

وانسجم قرار المحكمة التركية الأخير بشأن إبطال مرسوم صدر في الثلاثينات يقضي بتحويل جامع آيا صوفيا إلى متحف مع طموحات أردوغان الذي سارع على الفور إلى إصدار مرسوم رئاسي لإعادة المتحف إلى وضعه كمسجد وحدد يوم الـ24 من يوليو الجاري لتأدية أول صلاة جمعة.

والقرار الذي صدر يوم الجمعة هو تتويج لعملية قضائية طويلة. ففي العام 2018، رفضت المحكمة الدستورية طلب جمعية تركية إعادة فتح آيا صوفيا للمسلمين. لكن الجدل الحالي يأتي في سياق محاولة أردوغان بكل الوسائل الممكنة حشد قاعدته الشعبية المحافظة التي تخلى جزء منها عنه خلال الانتخابات البلدية التي فازت فيها المعارضة العام الماضي في إسطنبول وأنقرة.

ويتهم أكبر أحزاب المعارضة حزب الشعب الجمهوري (اشتراكي ديمقراطي) الرئيس التركي باستغلال آيا صوفيا لجعل الناس ينسون الوضع الاقتصادي المتدهور حاليا.

وقالت توغبا تانييري إرديمير الباحثة في جامعة بيتسبورغ “يبدو أن أردوغان يتصدى لانخفاض شعبيته التي قد تعود أسبابها إلى الصعوبات الاقتصادية” المرتبطة بوباء كوفيد – 19.

هوية متغيرة

للصلاة فقط بأمر أردوغانللصلاة فقط بأمر أردوغان

يمتد تاريخ مبنى آيا صوفيا لقرابة 1500 عام. وللمبنى شأن كبير في الإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية واحتل موقعا مرموقا كمكان عبادة للمسيحيين وللمسلمين من بعهدهم، لذلك فإن أيّ تغيير يخصه سيكون له أثر بالغ على أتباع الديانتين. علاوة على ذلك، فإن المبنى مدرج على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).

وعكست إجراءات الرئيس التركي التالية بعيد حسم محكمة تركية وضعية متحف آيا صوفيا إصراره على اللعب على وتر الدين في تحريك مشاعر الأتراك حيث خسر أردوغان جزءا كبيرا منهم جراء سياساته الاقتصادية وتداعيات الأزمات المتلاحقة وتدخلاته الخارجية وآخرها انتشار وباء كورونا.

وبدا أردوغان ينظر إلى مسألة حسم هوية المبنى الضخم في إسطنبول كأنها مسألة “حياة أو موت” بالنسبة إليه، بعد أن قال إن “آيا صوفيا رمز عزمنا للحفاظ على أمانات شهدائنا ولو كان الثمن أرواحنا». كما أنه لعب على وتر العثمانية و”أمجادها” التي يسعى لاستعادتها سواء في المخيلة التركية أو في سياساته وتدخلاته الخارجية سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو أماكن أخرى. ويقول أردوغان إن “آيا صوفيا عاد مسجدا على النحو الذي أراده له فاتح إسطنبول».

ويضيف أردوغان إن “هناك أكثر من 453 كنيسة وكنيسا في تركيا، وهذا المشهد يعد تجليا لإدراكنا بأن اختلافاتنا تزيدنا ثراء”، لكن هذا الثراء لا يخفي سياسات متواصلة منذ نحو 17 عاما من أجل “أسلمة” المجتمع التركي الذي يعيش على دستور علماني منذ تأسيس دولته الحديثة.ويظهر في معطيات نشرتها رئاسة الشؤون الدينية أن تركيا تضم  88537 مسجدا تعود لمختلف العصور الإسلامية حيث تستأثر مدينة إسطنبول وحدها بـ3190 مسجدا منها. ويبدو أن قدر آيا صوفيا أن يبقى محل جدل ونزاع سياسي واجتماعي وديني في كل مرحلة من مراحل التغيير في تركيا. فالمعركة لم تكن جديدة حيث مع صعود حزب أردوغان إلى الحكم انتشرت أحاديث عن نيته إعادة المتحف الواقع في منطقة تزخر بالمعالم الإسلامية إلى مسجد لأنه يرمز إلى فتح القسطنطينية على يد العثمانيين.

وتقول الباحثة توغبا تانييري إرديمير إن حال كنيسة آيا صوفيا في طرابزون (شمال شرق تركيا) التي حولت إلى مسجد في العام 2013، تدعو إلى التفكير حيث أن هذا القرار السابق كانت له انعكاسات سلبية على السكان الذين تشكل السياحة مصدر رزقهم.

وأوضحت إرديمير “انخفض عدد الزوار بشكل كبير خصوصا بعد تحويلها (…)،لأنهم لم يعودوا قادرين على رؤية اللوحات الجدارية الشهيرة للكنيسة».

وكانت آيا صوفيا كنيسة وتحولت إلى مسجد ثم أصبحت متحفا في رحلة زاخرة بالكثير من التحولات والتغيرات، فاكتمل بناء آيا صوفيا التي تعني “الحكمة الإلهية” في اللغة اليونانية، سنة 537 في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان.

ويطل المبنى الضخم على ميناء القرن الذهبي ومدخل البوسفور امتدادا من قلب القسطنطينية. كان المبنى مركزا للأرثوذكسية وظل أكبر كنيسة في العالم على مدى قرون.

وظل المبنى تحت السيطرة البيزنطية، باستثناء فترة وجيزة في قبضة الصليبيين في القرن الثالث عشر، حتى فرضت قوات المسلمين بقيادة السلطان العثماني محمد الفاتح سيطرتها عليه وحولته إلى مسجد. وبنى العثمانيون أربع مآذن وغطوا رموزا مسيحية وقطع فسيفساء مذهبة، ووضعوا لوحات ضخمة تتزين بأسماء الله الحسنى واسم النبي محمد والخلفاء الراشدين المسلمين بالأحرف العربية.

وفي عام 1934، أقام مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس لتركيا، جمهورية علمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المهزومة، وحوّل آيا صوفيا إلى متحف، يزوره الآن الملايين من السياح كل عام.

غضب خارجي

أكبر أحزاب المعارضة التركية يتهم أردوغان باستغلال قضية آيا صوفيا لجعل الناس ينسون الوضع الاقتصادي المتدهورأكبر أحزاب المعارضة التركية يتهم أردوغان باستغلال قضية آيا صوفيا لجعل الناس ينسون الوضع الاقتصادي المتدهور

على الرغم من أن الرئيس التركي تحدث عن الإبقاء على أبواب آيا صوفيا “مفتوحة للجميع” إلا أنه لم يتمكن من تخفيف حدة الانتقادات وموجة الغضب الخارجية على قراره المضي قدما في تحويل المتحف إلى مسجد. كما اعتبر وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو أن القرار يتعلق بالسيادة التركية.

وأثارت الإجراءات التركية القلق بين مسؤولين من الولايات المتحدة وروسيا واليونان وزعماء الكنائس المسيحية، حيث دفعت تلك الإجراءات بالبطريرك المسكوني بارثولوميو، وهو الزعيم الروحي لنحو 300 مليون مسيحي أرثوذكسي في العالم إلى اعتبار أيّ تغيير في وضع آيا صوفيا سيتسبب في شرخ بين الشرق والغرب، كما رفضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تحويل المبنى إلى مسجد. وأثارت الخطوة أيضا ردود فعل أوروبية وأميركية حيث اعتبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أيّ تغيير سيقلل من قدرة المبنى “على خدمة الإنسانية باعتباره جسرا تشتد الحاجة إليه بين أصحاب التقاليد والثقافات الدينية المختلفة»

كما قال جوزيف بوريل كبير مسؤولي السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إن “حكم مجلس الدولة التركي بإبطال أحد القرارات التاريخية لتركيا الحديثة وقرار الرئيس أردوغان بوضع هذا الأثر تحت إدارة رئاسة الشؤون الدينية مؤسفان».

وترى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) أن قرار تحويل المتحف إلى مسجد من المرجح أن “يقوض القيمة العالمية” لهذا النصب التذكاري العالمي.

أما بالنسبة إلى الجارة اليونان والتي يشكل الأرثوذكس الغالبية العظمى من سكانها، فقد رأت أن تركيا تخاطر بالتسبب في “فجوة وجدانية ضخمة” مع الدول المسيحية بتحويل مبنى كان محوريا للإمبراطورية البيزنطية الناطقة باللغة اليونانية وللكنيسة الأرثوذكسية.

وندد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس “بأشد العبارات” بقرار تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد.

ولا يبدو أن سياسات الرئيس التركي اليوم تسير نحو التهدئة الداخلية للتخفيف من حدة التداعيات السلبية على الاقتصاد الوطني أو سياسته الأمنية القاسية التي طالت شتى مناحي الحياة في الداخل أو أنه سيعمل على تحسين العلاقات التركية الخارجية المتوترة، خاصة في ظل إصراره على تنفيذ أجندته المرتبطة بحزبه الإسلامي العدالة والتنمية والتي تسير نحو “أسلمة” المجتمع.

'