أحلام وزير مصري تتحقق مع تصاعد أزمة روسيا وأوكرانيا – مصدر24

أحلام وزير مصري تتحقق مع تصاعد أزمة روسيا وأوكرانيا

ينطبق المثل المصري الشهير “مصائب قوم عند قوم فوائد” على ما يحدث في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتداعياتها الإقليمية والدولية، خاصة في مجال تصدير الغاز الطبيعي من روسيا إلى عدد من الدول الأوروبية، إذ يمكن أن يؤدي التوتر إلى التفكير جديا في الاستفادة بصورة كبيرة من مشروعات الغاز الجديدة في المنطقة.

وظهرت مفردات حول هذه القضية في أحد خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا، تارة للتهديد والردع، وأخرى كنوع من الإغراء والتحفيز لمنع التحرش عسكريا بروسيا، فتصاعد حدة الأزمة الراهنة يمكن أن يقفز بأسعار الغاز إلى أرقام فلكية تستفيد منها دول شقت طريقها في سلعة تتجاوز أهميتها الاستخدامات المعلنة.

وكان وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق المُلا أحد الذين لعبوا دورا في هندسة مشروع القاهرة كي تتحول إلى مركز للطاقة، فمنذ توليه لمنصبه عام 2015 في حكومة شريف إسماعيل وحتى الآن مع حكومة مصطفى مدبولي، وهو بمثابة دينامو يتحرك بلا ضجيج على أكثر من مستوى لضمان أن تصبح بلاده من مصدري الغاز الطبيعي بعد الإعلان عن اكتشافات مُبشرة في شرق البحر المتوسط، ظهرت تجلياتها مع تقديرات مرتفعة في الاحتياطي يحويها حقر “ظُهر”.

رقم في معادلة الغاز

المُلا أحد الذين لعبوا دورا في هندسة مشروع تحول مصر مركزا للطاقة، وهو بمثابة دينامو يتحرك بلا ضجيج
المُلا أحد الذين لعبوا دورا في هندسة مشروع تحول مصر مركزا للطاقة، وهو بمثابة دينامو يتحرك بلا ضجيج

استفاد المُلا من عمله الطويل في قطاع البترول وعرف كل كبيرة وصغيرة عن جغرافيا الغاز في البر والبحر بمصر، وهذه واحدة من المزايا التي جعلت الرئيس عبدالفتاح السيسي يختاره لوزارة لم يكن يوليها المواطنون اهتماما في السابق باعتبار أن بلدهم لم يعرف علانية أنه يقع ضمن نطاق الدول الغنية بالثروات الطبيعية في مجالي النفط والغاز، بل هو من أكبر المستوردين لهما.

يتمتع المُلا بحس سياسي ودراية هندسية ولباقة ثقافية ورصانة وهدوء شخصي، وقد مكنته هذه السمات من معرفة ما يقال وما لا يقال عن وزارته ودورها، ومع أنه وزير تقني، غير أن وعيه العام ساعده على أن يصبح رقما مهما في معادلة الغاز التي بدأت تصعد ملامحها في مصر والمنطقة برمتها، وهو من الذين راهنوا على أن هناك اكتشافات واعدة سوف توفر للقاهرة فرصا كبيرة للتأثير على توازنات هذه السلعة على النطاقين الإقليمي والدولي في المستقبل.

ولم تستمر توقعاته المتفائلة طويلا، وبات الرجل جزءا في كثير من الاتفاقيات التي وقعتها مصر مع دول شرق البحر المتوسط أو غيرها، فقد تحولت وزارته إلى محور مهم في كثير من التحركات الاقتصادية والسياسية، والخطط الاستراتيجية، بعد أن تزايدت أهمية التفكير في مسارات جديدة للغاز بعد اندلاع الأزمة بين موسكو وكييف.

وتحولت الأنظار إلى دول أخرى بعيدا عن روسيا، من بينها مصر ومدى ما يمكن أن تقدمه حاليا أو لاحقا، ما ينذر بأن هناك جهودا ستبذل في المرحلة المقبلة في هذا الفضاء.

ولم يكن تفكير وزير البترول والثروة المعندية منفصلا عن هذا النوع من المقاربات الدقيقة منذ أن فكرت مصر في تنويع علاقاتها في مشروعات الغاز التي وضعت الكثير من رهاناتها عليها مبكرا، والمتعلقة بغاز شرق المتوسط وامتداداته المختلفة.

حس الملا السياسي وخبرته الكبيرة تمتزجان مع رصانته وهدوئه الشخصي، وقد مكنته هذه السمات من معرفة ما يقال وما لا يقال عن وزارته ودورها

وشملت أوجه التعاون دولا منتجة ومصدرة ومستوردة وشركات مهمومة بهذه السلعة، علاوة على القيام بمهام تتعلق بتسييل الغاز، كعملية فنية استفادت منها مصر بحكم ما تمتلكه من بنية تحتية جيدة خاصة بمحطات تسييل عملاقة على البحر المتوسط في منطقتي إدكو ودمياط، الأمر الذي تحتاج إليه بقوة بعض الدول المنتجة.

وعندما تفشل الدول في استثمار أدواتها سوف تصبح رقعة شطرنج في يد آخرين ويحركونها كيفما شاؤوا، وعندما يحدث العكس تتحول إلى لاعب كبر دوره أم صغر لكن يمكن أن يكون مؤثرا إذا أحسن الاستفادة مما يملكه من موارد طبيعية، وهكذا هو حال مصر مع الغاز الذي تحول عقب تولي المُلا لمنصبه إلى سلعة استراتيجية لم يسمع عنها أحد في مصر سابقا.

قد تكون الصدفة لعبت دورا أو الخبرة أو كلتاهما، فالمهم أن المُلا هو رأس الحربة الظاهر في مجال الثروة الغازية بمصر في الوقت الراهن، بالطبع هناك جهات اقتصادية وعسكرية وسياسية تفكر وتخطط وتنفذ أيضا من وراء ستار، لكن يظل دوره هو البارز في كثير من المؤتمرات والمنتديات والاجتماعات التي عقدت ولها علاقة مباشرة بالغاز الطبيعي على المستويين الداخلي والخارجي.

وعلى المستوى الأول يُحسب له أنه المهندس الذي أسهم بدور معتبر في مجال رفع الدعم عن جميع المحروقات في مصر بلا عواقب أو تداعيات مجتمعية خطيرة، وهي السلعة التي كان يخشى الاقتراب منها كل نظام مصري، ومن أوائل من يتحملون تبعاتها وزير البترول والثروة المعدنية، لأن هناك اعتقادا شائعا بين الناس أنه الشخص الذي يتحكم في صنابير جميع أنواع المحروقات في البلاد.

وجاء هذا الاعتقاد مما ذاع صيته خلال عهد الرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك حول الاكتشافات المتتالية للبترول وكل مشتقاته، وكانت وسائل الإعلام في ذلك الوقت تعلن باستمرار عن اكتشاف حقل في صحراء مصرية، وبعد بضعة أيام تعلن عن اكتشاف جديد في مكان آخر، حتى بدأ البعض يشعر بوجود ما يشبه التدوير للأماكن اعتمادا على أن ذاكرة المواطنين يمكن أن تتداخل عليها الصحاري وتنسى ما سبق إعلانه من أرقام.

الوزير الملا يُحسب له أنه هو الذي أسهم بقوة في مجال رفع الدعم عن جميع المحروقات في مصر بلا عواقب أو تداعيات مجتمعية خطيرة، وهي السلعة التي كان يخشى الاقتراب منها كل نظام مصري

بدأت هذه العملية تفقد بريقها الإعلامي والسياسي والاقتصادي بسبب عدم وجود مردودات لها، لا في زيادة الصادرات أو في قلة الواردات، إلى أن أخذت المسألة تتغير في عهد الرئيس السيسي ومعه الوزير المفضل طارق المُلا، حيث انعكست اكتشافات الغاز في أرقام محددة الآن، على الرغم من أن أسعار المحروقات شهدت زيادات كبيرة في السنوات الماضية ولم يشعر أحد بتأثيراتها الإيجابية.

المكاسب السياسية أولا

من يراقبون عن كثب التطورات الحاصلة في ملف الغاز المصري يمكن أن يتوقعوا ما جنته مصر من مكاسب سياسية منه وتجنيبها بعض الضغوط والأزمات، ناهيك عن فوائد بدأت تظهر في الدخل القومي، ويمكن أن تتضاعف في المستقبل، فالحروب الدائرة بشأن الغاز في العالم نابعة من أهميته الحيوية، والتي تسعى مصر للاستفادة منها إذا تمكنت من توظيف ما يجري على الساحة الدولية لصالحها.

واللافت للانتباه أن الغاز زادت أهميته كسلعة استراتيجية بامتياز، وورقة يمكن استثمارها في تعظيم مصالح الدولة المصرية، لذلك لا يتوانى المُلا عن التناغم مع هذا الهدف، وفي كل مرة يحاول بعض الصحافيين استدراجه واقتناص سبق منه أو الحصول على معلومة يفشلون وكأن أجندته مكتوب فيها بوضوح المسموح والممنوع الحديث عنه.

وتتجاوز مهام المُلا غيره من زملائه الوزراء في حكومة مدبولي، لأن الدور الذي يقوم به يختلف عنهم، فقد تحول من مسؤول عن حقيبة تقنية هامشية في الحكومة إلى مسؤول عن وزارة سيادية لما يقوم به من أدوار مهمة في المنطقة.

وأكد في مؤتمر صحافي عقده عقب انعقاد الدورة السادسة لمنتدى الدول المصدرة للغاز في الدوحة الثلاثاء الماضي أن إنتاج مصر من الغاز يستطيع الوفاء بكامل احتياجات السوق المحلية ووجود فائض للتصدير، وأن بلاده تعمل على تعظيم مساهماتها ومشاركاتها في مجال الغاز كاختيار أول للوقود حاليا في ظل تمتع مصر بثروات غازية يمكن استغلالها بصورة جيدة، وتبعث هذه الإشارة بتطمينات بأن ما يعاني منه المصريون الآن من ارتفاع في أسعار المحروقات يمكن تغييره إلى الأفضل.

هدف مصري في الصميم

الغاز تتزايد أهميته عالمياً كسلعة استراتيجية بامتياز، وورقة يمكن استثمارها في تعظيم مصالح الدولة المصرية
الغاز تتزايد أهميته عالمياً كسلعة استراتيجية بامتياز، وورقة يمكن استثمارها في تعظيم مصالح الدولة المصرية

ويثير منتدى الدول المصدرة للغاز لغطا مع منتدى غاز شرق المتوسط الذي لعبت مصر دورا في تأسيسه خلال الأعوام الماضية، ولذلك حرص المُلا على التفرقة بينهما، قائلا إن “المنتديين لديهما أهداف واحدة تقريبا، غير أن أعضاء المنتدى الأول من الدول المنتجة للغاز يمارسون نشاط تصدير الغاز الطبيعى، بينما منتدى غاز شرق المتوسط يضم دولا منتجة ودولا مستهلكة ودول عبور”.

وبلغت صادرات الغاز المسال المصرية خلال العام الماضي نحو 6.5 مليون طن مقابل 1.5 مليون طن في العام السابق عليه، بمعدل نمو سنوي بلغ 385 في المئة، وهي نسبة النمو الأعلى عالميًا مقارنة بباقي الدول المصدرة للغاز المسال العام الماضي.

وأشار تقرير حول تطورات الغاز الطبيعي المسال والهيدروجين خلال الربع الأخير من العام الماضي، وحالة الصناعة إلى نجاح القاهرة في تصدير نحو 2.1 مليون طن في الربع الأخير من عام 2021، مقارنة بمليون طن في المدة نفسها من العام السابق.

حولت مصر الغاز من سلعة اقتصادية إلى أداة سياسية ناجزة، حيث مكنها من الدخول في شراكات متعددة أبرزها مع اليونان وقبرص، وساعدها على تقويض محاولات تركيا الرامية إلى ممارسة ضغوط عنيفة على القاهرة، وكان إحدى الأدوات التي دفتعها إلى إعادة النظر في مشروعها الخاص بالتمدد الإقليمي وكسر إرادتها في المنطقة.

الغاز تتزايد أهميته عالمياً كسلعة استراتيجية بامتياز، وورقة يمكن استثمارها في تعظيم مصالح الدولة المصرية

ويدرك المُلا أبعاد جميع أنواع المناورات التي يقوم بها البعض للضغط على مصر، وزاد في الإمعان بقوله قبل أيام إنه “تم إعداد استراتيجية شاملة لتطوير قطاع الطاقة حتى عام 2035 للوصول إلى المزيج الأمثل لطاقة أكثر استدامة”، وهو ما يعني أن القضية لها أبعاد خاصة بالمستقبل والاحتياجات المطلوبة في هذا الفضاء.

وكما كان الغاز وسيلة لتحجيم طموحات تركيا ومناكفاتها، أصبح أيضا مدخلا لتطوير العلاقات مع إسرائيل بناء على رؤية مصرية تريد ربط مصالح إسرائيل الاقتصادية بها، الأمر الذي يفيد سياسيا

وأمنيا في لحظات معينة، ويمكن أن يردعها إذا أمعنت في الإضرار بالقاهرة في أي من المناطق الحيوية بالنسبة إليها.

وشهد تولي المُلا لوزارة البترول المصرية تطورات نوعية في العلاقة مع إسرائيل في مجال الغاز، حيث بدأت ضخ الغاز الطبيعي إلى مصر لأول مرة في التاسع عشر من فبراير 2019 بعد اتفاق بين الجانبين بلغت قيمته 15 مليار دولار لتكريره في محطتي إدكو ودمياط ثم إعادة تصديره إلى أوروبا، وهو ما اعتبرته الحكومة السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو صفقة “تاريخية” و”يوم عيد”، وسوف يعزز هذا التعاون اقتصاد إسرائيل ويقوي علاقاتها الإقليمية.

وهي الخطوة التي قال عنها الرئيس السيسي ذات يوم “احنا جبنا جون (أحرزنا هدفا) يا مصريين في موضوع الغاز، ولو معملناش كده (لو لم نفعل ذلك)، كانت راحت لدولة تانية”، في إشارة إلى تركيا التي كانت وقتها العلاقات بينها وبين مصر متوترة للغاية، وتخطيطه لتحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، ومن هنا أصبح المُلا الوزير “المدلل” لدى السيسي.

'