أخطاء اتصالية وإعلامية عن مرض الرئيس التونسي وموته – مصدر24

أخطاء اتصالية وإعلامية عن مرض الرئيس التونسي وموته

انتظر التونسيون أن يتم التعامل إعلاميا مع أخبار مرض الرئيس التونسي محمد الباجي قائد السبسي بشفافية بعد الفوضى وانتشار الشائعات عند دخوله المستشفى في 27 يونيو الماضي، وهو ما حصل جزئيا بإعلان الوفاة في 25 يوليو، لكن هناك مآخذ على الإعلام وعلى مؤسسات الدولة، اتصاليا، وجب العمل على تلافيها.

يبدو أن قول الشافعي “جزى الله الشدائد كلَّ خير” ينطبق على التونسيين الذين لمسوا مرة أخرى عمق دور الإعلام والاتصال في حياة الناس نتيجة لمرض رئيسهم محمد الباجي قائد السبسي، ثم موته في وضع شحت الأخبار فيه.

لقد ضجت الشبكات الإلكترونية بالدعوات إلى الشفافية في التعامل إعلاميا مع دخول الرئيس المستشفى يوم 24 يوليو، وهي دعوات تترجم عن حاجة الناس الملحة إلى مؤسسات اتصالية وإعلامية شفافة وفعالة تساعدهم على التأقلم مع محيطهم.

تحسن أداء الصحافيين مقارنة بتغطية شدائد أخرى مرت بها تونس مثل دخول الرئيس المستشفى أو العمليات الإرهابية، في 27 يونيو، وإعلان البعض عن وفاته قبل وفاته، غير أن هناك مآخذ على الإعلام وعلى مؤسسات الدولة، اتصاليا، وجب العمل على تلافيها. ويمكن تلخيص ذلك في عشرة مآخذ أساسية.

ما كان ينبغي لرئاسة الجمهورية أولا أن تكتفي بتدوينة على فيسبوك، غير ممضاة وبلا ذكر مصدر، للإعلان عن وفاة رئيس الجمهورية خاصة إذا كنا نعلم أن هناك من النواب ومن الأحزاب ومن غيرهم أناسا صرحوا بشكوكهم حول سلامة الرئيس بعد مغادرته المستشفى في الأول من يوليو، وهي شكوك تعاظمت بعد الإعلان عن رفض الرئيس ختم مشروع قانون الانتخابات. لقد أخفقت الرئاسة مرة أخرى في الإخبار كما أخفقت قبلها في 27 يونيو.

وزادت الريبة يوم 22 يوليو، وذلك المأخذ الثاني وهو اتصالي، عندما نشرت فيديو عن لقاء الرئيس بوزير الدفاع لتبديد الشكوك فطفِق السياسيون يتحدثون علنا عن إمكانية احتجاز الرئيس في القصر بالنظر إلى هيئته التي اعتبروها غير مطمئنة. كان من البديهي أن تدرك الرئاسة أن الذي يتهمها باحتجاز الرئيس لن يصدق لا تدوينة مبهمة للإعلان عن وفاته ولا فيديو كان وجه الرئيس يبدو فيها شاحبا وجسمه منهكا.

وثالث المآخذ هو صمت السلطة الطبية والمهنية المعنية بمعالجة الرئيس. وإن لم يكن هناك ما يلزم الأطباء بالإفصاح عن حالة الرئيس فإن المنطق يقتضي أن يُفتح نقاش عبر نقابتهم بالتعاون مع السلطة التشريعية لتقنين المسألة لأن الأطباء لا يعالجون مريضا عاديا يتكتمون على سره الطبي، مراعاة لقسم أبقراط أو قانون حماية المعطيات الشخصية، بل يعالجون رئيس دولة لصحته علاقة وطيدة بأمن البلاد أحيانا.

وهناك سببان وجيهان يدعوان إلى التشريع في شأن صحة الرئيس وهما أولا أن المسألة اختلطت فعلا بالسياسة عندما استقال طبيب، من الأطباء المعالجين للرئيس، من حزب التيار الديمقراطي حتى “لا يستغل البعض معلومة لم أنشرها لتشويه الرئيس” كما قال هو بنفسه، وثانيا أن رئيس البرلمان ذكر في موكب القسم أنه تلقى شهادة طبية تثبت وفاة الرئيس. فإذا كان الأطباء يخبرون السلطة السياسية فلمَ لا يخبرون الناس؟ إن تلك مسألة من صميم الحياة الديمقراطية كما هو معمول به في بلدان كثيرة.

ورابع المآخذ هو صمت الرئاسة والأطباء معا عن طبيعة مرض الرئيس منذ “الوعكة” الأولى التي أصابته مطلع يونيو. كان الإفصاح عن مرضه الحقيقي ييسر الكثير من الأمور لأن أمراضا بعينها توحي أحيانا بما يجب اتخاذه من تدابير احتياطية. وإن بقي المرض سرا إلى الآن فإن الأطباء يعلمون مثلا أن الاحتشاء قاتل في المرة الثالثة وأن الإفصاح عن ذلك كان يترتب عليه الاستعداد للوفاة منذ مساء الأربعاء أو حتى منذ الوعكة الثانية أو أن الخرف مثلا كان يقتضي وضع الجميع أمام مسؤولياتهم للتعجيل بالمحكمة الدستورية لنقل السلطة في حالة الشغور المؤقت.

وخامس المآخذ في مجال الاتصال هو تعثر الهيئة المستقلة للانتخابات التي تبين من حديث رئيسها إلى الإعلام يوم وفاة قائد السبسي أنها لم تستعد إلى الموت والحال أن الوضع كان ينبئ باقتراب أجل الرئيس. وكان بإمكان الهيئة أن تضع خطة مبنية على احتمال وفاته في أي يوم لتجد نفسها مسلحة بخطة عملية تعرضها على الناس يوم الميعاد.

إن تصريح رئيسها بالإعلان عن موعد الانتخابات الجمعة ثم نشره مساء الخميس دليل على التردد. فالاتصال الفعال يكسب الهيئة مصداقية فقدت الكثير منها بإقحام نفسها في جدل سياسي حول قانون الانتخابات كانت في غنى عنه.

أما إعلاميا، وذاك المأخذ السادس، فهو خوض بعض القنوات مجددا في قضية المحكمة الدستورية وهي قضية، على وجاهتها قبل وفاة الرئيس، أصبحت مفرغة من معناها أمام استحالة إحداثها بين عشية وضحاها لإقرار الشغور. كان على الإعلام أن يعتبر يومها من صمته أكثر من ثلاث سنوات على خرق البرلمان للدستور بتغييب المحكمة ثم أن يثير خرق الدستور مجددا لما أقحم البرلمان هيئة مراقبة دستورية القوانين دون وجه في مسار تسليم السلطة.

وسائل إعلام كثيرة قدمت معطيات خاطئة بخصوص شغور منصب الرئيس
وسائل إعلام كثيرة قدمت معطيات خاطئة بخصوص شغور منصب الرئيس

وقد عبر عدد من التونسيين، وهو سابع المآخذ، بعد الإعلان عن وفاة الرئيس عن غضبهم من اكتفاء القنوات التلفزيونية ببث تراتيل قرآنية مدة ساعتين أو تزيد والحال أنهم يتابعون أخبار وفاة رئيسهم في الفضائيات العربية غير التونسية. صحيح أن القناة الوطنية، وقبلها نسمة وحنبعل، تداركت الأمر غير أنه كان يفضل، بعد إعلان الوفاة رأسا، أن تفتح البلاتوه للحديث عن مسائل عاجلة أثارتها مثل صلاحيات القائم بمهام الرئيس (الرئيس المؤقت) وأخرى بقيت عالقة مثل نيابة رئيس البرلمان أو نيابة القائم بمهام الرئيس في حالة عجزه المؤقت أو الدائم.

وثامن المآخذ تسارع بعض المواقع الإخبارية إلى إعلان وفاة الرئيس بصيغة فيها نظر. فقبل تدوينة رئاسة الجمهورية بساعة نشر موقع “حقائق أون لاين” خبر الوفاة باعتماد صيغة “علمت حقائق أون لاين، من مصادر مطلعة وموثوق بها” بوفاة الرئيس. ولئن كانت الصيغة مقبولة إعلاميا عندما يقتضي الأمر التكتم عن المصدر فإنه لا داعي لذلك في الإعلان عن وفاة الرئيس. إخفاء المصدر يزيد الأمور توترا ويرسخ الريبة بأن في القصر من يدبر الأمور ومن يحابي صحافيين وينبذ آخرين. لا يُقبل أن يكون الإعلان عن وفاة الرئيس موضوع سبق صحافي ولا حكرا على أناس دون آخرين وهنا ندرك أثر تقصير الرئاسة في تعاطيها مع المسألة.

وتاسعها هو ذكر وسائل إعلام كثيرة على ألسنة ضيوفها، أو صحافييها أحيانا، لمعطيات خاطئة عما يتصل بشغور منصب الرئيس وهي أخطاء تعطل فهم الناس مثل الحديث عن الآجال (60 أو 90 يوما كأجل أقصى لانتخاب الرئيس الجديد) والمراحل (كان غائبا عن أذهان البعض أن الانتخاب يكون بدورتيه في الآجال المسموح بها) أو لما يبدو صدقا ساذجا مثل تكرار القول إن الرئيس فضل التداوي في تونس عن السفر إلى الخارج دون التساؤل عما إذا كانت صحته تسمح له بذلك لو أراد السفر فعلا.

إن تباهي عدد من التونسيين بذلك قابله سخط لدى بعضهم على قنوات عربية، وهو آخر المآخذ، اعتبروها مسيئة في تغطيتها بسؤال مراسليها المتكرر أو ضيوفها عما إذا كان الوضع هادئا في تونس. من حق أولئك أن يسألوا، في ظرف مثل ذلك، غير أن في الإلحاح إساءة شعر بها من سخط ومن حقه ذلك أيضا. وبصرف النظر عن الأمر فقد كان واضحا في بعض القنوات عدم الإحاطة بالمعطيات التونسية منها أن المذيع يتحدث مثل ضيوفه التونسيين عن إمكانية الإبقاء على انتخاب الرئيس الجديد يوم 17 نوفمبر والحال أن ذلك مستحيل دستوريا لأن آخر الآجال هو يوم 25 أكتوبر.

وليست تلك المآخذ للتقليل من شأن الإعلام التونسي بل للتشديد على دوره في هذه المرحلة الدقيقة من الانتقال. وقديما قال الشاعر “قل للذي بصروف الدهر عيرنا*** هل حارب الدهرُ إلا من له خطرُ”.

'