أنا و”عبدالرحمن” و”سي الحبيب” – مصدر24

أنا و”عبدالرحمن” و”سي الحبيب”

يصادف اليوم، الثلاثاء 9 مارس، ذكرى يوم ميلادي وقد بلغت العشرين مرتين ونيف، دون أن أدخل التاريخ أو أخرج منه.. ظللت أحوم حول بوابته مثل مدان في مسرح الجريمة.

يُخيّل لي أن بوابة التاريخ هذه تشبه باب قبر جحا في شرقنا الحائر. أراد الملاّ نصرالدين خوجة، الملقّب بـ”جحا” أن يكون ساخرا في حياته وفي مماته، فأوصى بأن يشيّد عند قبره باب محكم الإغلاق، ولكن دون سور أو أي حائط يتصل به.

تبدو “بوابة التاريخ” منيعة الأسوار لبعضهم، ومستباحة لبعضهم الآخر، وذلك بحسب النظر إلى المفتاح أو تجاهله، وبحسب الزاوية التي يرى فيها المرء نفسه، وكذلك يراه الآخرون من خلالها. ومهما يكن من أمر، فإن التاريخ لا يعترف إلا بـ”الصالح جدا” أو “الطالح جدا” أما الفاتر فيتقيؤه مثل لقمة طعام عديم النكهة.

أباطرة المغول وقادتهم من أمثال جنكيز خان وتيمورلنك، خلدتهم أقوامهم وصنعت لهم التماثيل كأبطال، ولعنتهم شعوب أخرى قدموا إليها كغزاة.. وهكذا تفتح بوابة التاريخ مصراعيها للأخيار والأشرار على حد سواء، لكنها تتجاهل الوسطيين والمعتدلين وشتى أصناف “الشبه شبه” ممن يصعب تصنيفهم.

وجدت حلاّ لمن يحومون حول البوابة من أمثالي فلا هم دخلوها ولا خرجوا منها: أن ننظّم أنفسنا في تجمع نطلق عليه “الذين لم يفعلوا شيئا للتاريخ ويشككون في وجوده”.. وهكذا يعترف بنا التاريخ غصبا عنه.

مهلا، أليس في الأمر شيء من الغش والانفصام والتناقض؟ إننا بذلك نكذب على التاريخ ونبتزه ككائن مغفّل يمكن للواحد أن ينال رضاه وسخطه في وقت واحد.. يا لهذه المتاهة المربكة.. ما لي وللتاريخ وتدويناته في ذكرى يوم ميلادي الذي يعج بأسماء معلومة وأخرى مجهولة منذ ما قبل التاريخ ثم أن “التاريخ” نفسه ليس له تاريخ.

كل ما في الأمر أني جئت بمحض المصادفة والمزاج، فلو تأخر والداي على الموعد، وعزّ عليهما اللقاء لجئت في غير وقت وغير برج تحدده الأفلاك والنجوم أو أني لم آت أصلا.. ساعتها أكون قد أرحت نفسي والتاريخ من التحدث في التاريخ.

وعلى ذكر التاريخ، فلا يسع المرء إلاّ أن يتحدث عن جديد واحد من صناعه والمتحدثين فيه.. إنه عبدالرحمن ابن خلدون الذي نفضت بلدية مدينة تونس الغبار أخيرا، عن تمثاله، وهيأت له ساحة تليق بقامته التي تحط فوقها الحمائم، ويترجل عند بداية شارع بورقيبة.. تمثال “سي الحبيب” الذي يمتطي جواده البرونزي، يدير ظهره للبحر، وتمثال “عبدالرحمن” وهو يدير ظهره للمدينة القديمة ويحتضن كتابه “المقدمة”، وبينهما محسوبكم وهو يمشي تائها في الزحام.

ألم يقل ابن خلدون “التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق”. 

'