أية منظومة قيم عربية – مصدر24

أية منظومة قيم عربية

تجد المنطقة العربية نفسها اليوم في مهب التيارات المختلفة التي تتنافس على التأثير في منظومات القيم التي تحدد توجهات وسلوكيات مجتمعاتها في الحاضر والمستقبل.

وما يعمّق الأزمة هو أن معظم البلدان العربية لا تخطط لمستقبلها الثقافي ولا تستشرف آفاق تطور مجتمعاتها.

ليست هناك رؤية واضحة للمجتمعات التي نريد بناءها أو تلك التي تطمح إليها الأجيال الصاعدة.

مازالت آليات قياس الرأي ووسائل استطلاع التوجهات العامة في المجتمع غائبة أو قليلة جدا، وكأن الجميع خائف مما قد يكتشف من خلالها.

من الاستثناءات القليلة والمفيدة الاستطلاع السنوي “أصداء بي سي دبليو لرأي الشباب العربي” الذي صدرت آخر نسخه مؤخرا.

احتوت نتائج الاستطلاع على إشارات إلى ما يخالج صدور الشباب في المنطقة من هواجس وما يعتمل في أنفسهم من قيم.

نتائج الاستطلاعات قابلة دوما للتأويل في مختلف الاتجاهات. هناك في الغرب مَن تحرك بسرعة للاستشهاد بالاستطلاع  الأخير كبرهان ساطع على تمسك الأجيال الجديدة في المنطقة بالدين وسائر القيم التقليدية مما يتناقض من هذا المنظور مع الأفكار الإصلاحية والحداثية التي تدعو إليها بعض القيادات العربية المجددة خاصة في بلدان الخليج.

ولكن الواقع العربي أكثر تعقيدا من هذه الخلاصة وكذلك نتائج الاستطلاع نفسه ليست بعيدة عن لُبس الواقع وتناقضاته.

 المستقبل يقرع على الأبواب بإلحاح. وتنعكس رياحه القوية على محتوى المنصات الإلكترونية ومطالبات الأجيال الصاعدة بجرعة من الهواء المنعش قد يضطر الكثيرون إلى البحث عنها في الخارج إن هم منعوا منها في الداخل

صحيح أن أغلبية المستجوبين ترى أن الدين هو “أهم عنصر في التعبير عن الهوية” وأن “الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية أهم من بناء مجتمع أكثر تسامحا وتحررا وعولمة”. ولكن التعلق بالقيم الدينية لا يمثل موقفا ضد الإصلاح أو مساندة للتشدد ضمن هذه الأغلبية؛ إذ أن معظم المستجوبين في الاستطلاع ذاته يرون أن الدين “يلعب دورا أكثر مما ينبغي” وهم يدعون “لإصلاح المؤسسات الدينية”.

معظم استطلاعات الرأي -وخاصة منها الاستطلاعات التي تجريها مؤسسات أجنبية- كثيرا ما تسقط في اللبس وسوء التأويل عندما تتعرض للقضايا الدينية وذلك نظرا إلى صعوبة الإجابة على أسئلة مقتضبة توضح علاقة المواطن العربي بالدين. هل ينتظر من شاب عربي أن يقول إن لا علاقة له بالدين؟ وهل تصريحه بالتمسك بالشريعة لدى المواطن العادي له نفس المعنى لدى المتطرف ذي الرؤية المتشددة؟    

والانشغال بـ”الهوية” لا يعني بالضرورة رفضا للآخر. ثنائية الأصالة والتفتح كانت دوما إحدى ركائز التفكير الإصلاحي. ولكنها أحيانا كذلك انعكاس لتناقضات لا تنتهي في المنطقة. فكل بلدان المنطقة تنشد الانفتاح على الخارج ولكنها تريده حسب مواصفاتها، دون أن تكون لها القدرة في الواقع على منع تسرب أية تيارات أو قيم من الخارج.

تعرب بعض البلدان العربية من حين إلى آخر عن تنديدها ببث شركات وأستوديوهات هوليوود مواد تلفزيونية تصفها هذه البلدان بأنها “معادية للقيم والتقاليد العربية والإسلامية”.

ولا يبدو أن هذه الاحتجاجات حول الإنتاجات السينمائية الأجنبية في العالم العربي ستنتهي قريبا. وهي احتجاجات معدة في معظمها للاستهلاك المحلي.

هوليوود وأخواتها لا تستشير أحدا، ولن نستطيع تغيير أجنداتها. يزحف إنتاجها كل يوم كالتسونامي عبر التلفزيون والسينما والإنترنت؛ عبر نتفليكس و”ايتش بي أو” وغيرها. وحتى الجمهور الذي يمتعض من بعض هذه الإنتاجات يسعى في الآن نفسه للاشتراك في الباقات التلفزيونية الأجنبية الحاملة لها، سواء بالوسائل القانونية أو المقرصنة.

اللافت أن الكثير من النخب العربية نفسها تعيش حالة من التناقض بين قناعاتها والسياسات التي تزكيها. تناقضات مواقفها تجعلها في موقف صعب تجاه الداخل والخارج. هناك صدع لا بد من رأبه. لا تعرف كيف تتعامل مع التابوهات التي يصر الغرب الليبرالي على إثارتها سواء كانت هي مستعدة لنقاشها أم لا. وبمجرد تعبيرها عن الحرج سوف يصر مشاغبوها في الغرب بكل تأكيد على وضع المجهر على المسكوت عنه بغرض زعزعة الاستقرار القائم.

في الأثناء، لا تتوقف الماكينة الهوليوودية الضخمة عن محاولة تغيير وجه الواقع الثقافي والسلوكي في المنطقة وفي العالم بما يعكس توجهات منتجي المحتوى  وكبار المؤثرين لديها. ولهؤلاء هامش كبير من خلال هيمنتهم على وسائل إنتاج وتوزيع المواد الترفيهية المعولمة.

ليس هناك في الواقع استهداف مباشر للمنطقة العربية بالذات، وليست هناك مؤامرة استعمارية، وإنما هناك آليات لإنتاج المحتوى تتحكم فيها نخبة مثقفة في هوليوود وغيرها من المراكز المؤثرة في الإنتاج السينمائي والترفيهي في العالم وفي الغرب تحديدا، لمجرد أن تلك هي قناعات النخبة الليبرالية فيها وتلك هي القيم التي تدافع عنها في مجتمعاتها ذاتها.

هناك بالطبع نخبة محافظة في الغرب. ولكن مواقف هذه النخبة وإن كانت تناهض منظومة القيم الليبرالية التي تزعج العرب والمسلمين فهي كثيرا ما تزخر بالقوالب النمطية التي تشوه صورة العرب والمسلمين وتتوجس من الأجانب عموما.

بين النخبتين المحافظة والليبرالية في الغرب حرب ثقافية وسياسية بلا هوادة. ولكنها حرب ليس للعرب فيها ناقة ولا جمل.

حتى وإن وجد العرب في مواقف المحافظين ما قد يبدو متوائما مع اتجاهاتهم التقليدية فلن يجدوا في كل حال من الأحوال الكثير من الإنتاجات الثقافية العالمية التي تحمل البصمة المحافظة؛ فتأثير الليبراليين كان ولا يزال أكبر بكثير-عالميا- على الفنانين والمبدعين من تأثير المحافظين.

 

◙ لا يمكن للغموض والتناقض أن يبنيا المستقبل على أساس صحيح
 لا يمكن للغموض والتناقض أن يبنيا المستقبل على أساس صحيح

 

ولكن لسائل أن يسأل من فوّض النخب الغربية بكافة ألوانها كي تنشر قيمها في بقية المعمورة؟ ومن أهّلها لتحديد منظومة القيم المجتمعية التي ينبغي لبقية بلدان العالم -ومن بينها البلدان العربية- أن تتبعها؟

الجواب هو أن القدرة على الإنتاج والتوزيع سوف تبقى المحدد الأول لمصير الحروب الثقافية والصراع على القيم.

كانت المجتمعات العربية ولا تزال في موقع المتلقي والمستهلك لمواد التسلية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني العالمي، وإن كانت هناك محاولات لتطوير منصات إقليمية للإنتاج التلفزيوني والسينمائي. والبعض من هذه المنصات بدأ يحقق نجاحات لافتة ولكنها لا تكفي لتحقيق التوازن بين القوى المؤثرة في أذهان وأفئدة المتفرجين في المنطقة العربية. 

كان “الربيع العربي” محاولة لصهر المنظومة السياسية القائمة في المنطقة في نطاق البوتقة العالمية السائدة. كلتا النخبتين الليبرالية والمحافظة في الغرب دفعتا بدرجات وأساليب مختلفة نحو فرض منظومة القيم السياسية الجديدة التي بشر بها ذلك “الربيع”، ولكن موجة التغييرات السياسية بقيت إلى حد كبير على  مستوى الشعارات فقط.

يظهر الاستطلاع الأخير أن المفاهيم التي سعى “الربيع العربي” إلى نشرها لم تترسخ في أذهان شباب المنطقة.

اللافت في استطلاع “الشباب العربي 2022” أن الأغلبية من المستجوبين والمستجوبات تصرح بأنها تفضل الاستقرار على الديمقراطية، كما ترى أن “الديمقراطية لن تنجح في الشرق الأوسط”.  

القيم الثقافية هي الهدف من صراع مواز ذي ارتباط بالصراع السياسي. اليوم هناك من يعتقد بين القوى المؤثرة في العالم أن الوقت قد حان لإعادة الهندسة المجتمعية والثقافية في كل بلدان العالم (ومن بينها البلدان العربية والإسلامية) من أجل صياغة منظومة قيم معولمة حسب أفكار ومناظير محددة.

انتهى الحرص على تنسيب الثقافات وحلت محله رغبة في صهرها جميعا في قالب واحد، في إطار سعي دائم يقوده أساسا الجناح الليبرالي للنخب الغربية. هذه النخب ترى نفسها في معركة ثقافية وجودية مع اليمين تتمخض عنها الأنماط السلوكية في أي مجتمع ومن بينها هويته وأنماط إنتاجه واستهلاكه. لكنها مواجهة خارجة عن نطاق المنطقة العربية وإن كانت تنعكس عليها في نهاية المطاف.

 تشمل الرؤى الليبرالية فهما محددا للحرية الفردية بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي تنشد نسقا للتغير لا يقبل بالاستثناءات أو بالتمهل.

اليوم من حق المجتمعات العربية أن تدافع عن معتقداتها وقيمها وتقاليدها وأن ترفض ما تراه غريبا عنها أو مفروضا عليها. تستطيع محاولة عدم الانخراط في القوالب الثقافية الجاهزة إن شاءت. ولكن ضغط القوى الناعمة رهيب.

يعمل لفائدة هذه القوى ميل فطري لدى أية مجتمعات إلى الحرية ومن بينها الحرية في اكتشاف الآخر. قد لا يكون هناك حماس كبير لدى الشباب في المنطقة للمسارات الديمقراطية التي تبشر بها النخب السياسية في الداخل والخارج. ولكن تعلقها بالحرية راسخ لا يتزعزع.

يقول المستجوبون في استطلاع الشباب إنهم منشغلون بتدخل الحكومات في شؤونهم وإن أولوياتهم تتوجه للتشغيل والتعليم وربما الهجرة إلى الخارج.

وتعرف النخب العربية الماسكة بمقاليد السلطة أنها لن تستطيع غلق سماء الإنتاج الثقافي العالمي أو تجفيف أنهار الإبداع في الداخل بمجرد منع بعض الأفلام أو إصدار البيانات المنددة أو اتخاذ الإجراءات الزجرية ضد المبادرات العفوية للمواطنين، مثل معاقبة إحدى الدول العربية مؤخرا لأستاذة جامعية بالمنع من التدريس لمجرد أنها تجرأت على بث تسجيل فيديو يظهرها على الشبكات الاجتماعية وهي ترقص…

وفي الواقع لا يمكنك أن تغبط أي وزير إعلام أو ثقافة اليوم في العالم العربي على المسؤوليات التي يتحملها وعلى التناقضات التي يراد منه أن يوفق بينها في قراراته.

 مازالت آليات قياس الرأي ووسائل استطلاع التوجهات العامة في المجتمع غائبة أو قليلة جدا، وكأن الجميع خائف مما قد يكتشف من خلالها

سوف تحاول النخب الحاكمة اليوم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التوازنات القديمة. ولكنها تلهث وراء السراب إذا اعتقدت أنها مازالت تتحكم في كل القرارات أو أن بمقدورها تقييد أذهان الأجيال الشابة المنفتحة بقوة على الخارج.

أمام الأمواج المتناقضة من القيم تحاول السلطات تهدئة أعصاب المتزمتين والمستنيرين على حد السواء. ليس هناك رؤية واضحة تحدد المسار. وتسعى فقط لتأجيل المحطات القادمة على عجل.

 لكن المستقبل يقرع على الأبواب بإلحاح. وتنعكس رياحه القوية على محتوى المنصات الإلكترونية ومطالبات الأجيال الصاعدة بجرعة من الهواء المنعش قد يضطر الكثيرون إلى البحث عنها في الخارج إن هم منعوا منها في الداخل.

سوف تتطلب مواجهة التحديات القائمة خيالا واسعا وصدرا رحبا خاصة من الرسميين الذين تعودوا أن تشمل سيطرتهم على الحدود سيطرة لا تقل نجاعة على القيم وأنماط السلوك في الداخل. 

ومع استحالة تلك السيطرة ربما حان الوقت لفتح الباب لمناقشة كل شيء بما في ذلك المسلّمات السابقة…

وقد حان الوقت بالخصوص لتحديد ملامح المجتمع الذي نريد. لا يمكن للغموض والتناقض أن يبنيا المستقبل على أساس صحيح.

'