أين أخطأت حسابات بوتين؟ – مصدر24

أين أخطأت حسابات بوتين؟

لا شك اليوم أن فلاديمير بوتين قد أخطأ في حساباته لقرار الحرب ضد أوكرانيا، وأن تلك الأخطاء كبيرة وعميقة لدرجة أنها أوصلت روسيا إلى مخاطر تمس مستقبلها لفترة طويلة في المستقبل. من بين تلك الأخطاء، الخطأ في تقدير استجابة الشعب الروسي للحرب.

فبوتين الذي يقترب من السبعين عاما فشل كما يبدو في فهم التطورات التي طرأت على الشعب الروسي منذ الحرب العالمية الثانية وصولا إلى اليوم.

أحد المؤشرات هو ما صرح به أكثر من مرة من اعتباره تفكك الاتحاد السوفييتي أكبر كارثة حصلت في تاريخ روسيا الحديث، وتلميحه مرارا لذات الأفكار التي عبر عنها بوضوح المفكر الروسي ألكسندر دوغين بأنه يجب العودة إلى وضع جيوسياسي لروسيا يقارب وضع الاتحاد السوفييتي في نقطتين. أولا: استعادة أراض كانت ضمن روسيا القيصرية وترتبط بروسيا تاريخيا وثقافيا مثل أوكرانيا وبيلاروسيا. وثانيا: استعادة هيمنة روسيا على باقي الأراضي والبلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي ويشمل ذلك جمهوريات آسيا الوسطى مثل كازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان وأذربيجان وطاجاكستان وأرمينيا وجورجيا، باعتبار أن كل تلك الدول مجال حيوي لروسيا لا ينبغي أن يبتعد عن سيطرتها العسكرية والسياسية، وبصورة أكثر وضوحا فما هو مسموح به لتلك الدول هو إدارة شؤونها الداخلية كما تدار البلديات، أما القرارات المصيرية فيجب أن تمر في موسكو وهناك تجري الموافقة عليها أو رفضها، ومن أجل ذلك لا بد من وجود عسكري واستخباراتي روسي في كل من تلك الدول لضمان خضوعها لنظام الهيمنة الروسية.

 فلاديمير بوتين عاش دائما آلام تفكك الاتحاد السوفييتي وكانت أحلامه تتماهى مع مجد روسيا القيصرية ويختزن النقمة على الغرب الذي لم يتح لروسيا أن تأخذ حجمها وحصتها في النظام العالمي

مثل ذلك التفكير يهمل بصورة مزرية التطورات التاريخية التي لا سبيل للعودة عنها. فتفكك الاتحاد السوفييتي لم يأت بسبب مؤامرة شريرة غربية، ولا بسبب خيانة ميخائيل غورباتشوف، بل بسبب أن النظام السوفييتي لم يعد مقنعا للشعب الروسي بمقارنته مع الأنظمة السياسية الأخرى في الدول المتقدمة.

لم يعد مقنعا من حيث تأمين الرفاهية الاقتصادية التي يعيشها الغرب، ولم يعد مقنعا من حيث سجنه للشعب ضمن جدران ثقافية لم تعد قادرة على منعه من التواصل مع الشعوب الأخرى، ولم يعد مقنعا أيضا لتفشي الفساد في قمة الدولة. وكذلك استفحال الأزمات الاقتصادية، ثم هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.

 لقد أصبح نداء الحرية وضرورة التغيير أقوى من أن تتجاهله الدولة السوفييتية أو تحتال عليه.

هذا التحول التاريخي في وعي الشعب الروسي وتسربه نحو قمة الدولة هو العامل الأكبر في تفكك الاتحاد السوفييتي.

أما غورباتشوف ومؤامرات الغرب فهي لا تعدو أن تكون المعاول في هدم بناء آيل للسقوط.

 بوتين في مشاعره وأحلامه الشخصية أسقط بوعي أو دون وعي ما فعله التطور التاريخي من تغير في وعي الشعب الروسي

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، سار التاريخ باتجاه تعميق استقلال الدول الخارجة منه إلى غير ما رجعة، وبدأت المخاوف المختزنة في ذاكرة شعوب الدول المستقلة تعبر عن نفسها بالابتعاد عن روسيا أكثر فأكثر.

كان على روسيا لتكسب صداقة تلك الدول أن تظهر الاحترام التام لإرادتها المستقلة، وأن تعيد نسج علاقتها معها على هذا الأساس وتستثمر في المشتركات الثقافية الموروثة عن الحقبة السوفييتية.

على أيّ حال، ما يهمنا هنا هو ذلك السياق التاريخي الذي أنتج حقائق جيوسياسية ووعيا لدى شعوب الاتحاد السوفييتي السابق مختلفا كليا عما كان عليه الحال قبل ثلاثة وثلاثين عاما.

أما الشعب الروسي فرغم معاناته بداية تفكك الاتحاد السوفييتي، إلا أنه لم يعد يفكر بالرجوع نحو الوراء باستثناء قلة من الجيل السابق لا وزن لها ضمن الرأي العام الروسي.

جاءت ثورة الاتصالات والإنترنت لتعمق الجسور بين روسيا والعالم الخارجي خاصة الدول المتقدمة في الغرب، وأحدثت بلا شك نقلة في وعي الشعب الروسي حين أتاحت له طرقا واسعة مفتوحة لفهم ما يجري حول العالم دون المرور ببوابات التصفية التي كان يقيمها النظام السوفييتي البائد.

كما أحدث التطور الكبير في مستوى معيشة الفرد الروسي أثره في اقتراب الروس من ثقافة الغرب ونمط حياته مبتعدين عن الثقافة القديمة للمجتمع السوفييتي.

بعد كل تلك المتغيرات العميقة تفاجأ الروس بأن قيادتهم التي كانت بنظرهم عرابة لملمة الدولة الروسية ورفع مستوى الحياة والمعيشة واستعادة كرامة روسيا الدولية، هذه القيادة التي يمثلها بوتين أصبحت فجأة غارقة في أحلام الماضي البعيد، بل ومستعدة لسحب روسيا للمخاطر في سبيل أهداف لم تعد مفهومة لديهم.

لا يمكن تفسير توجهات روسيا الأخيرة نحو الفتوحات واستعادة الحدود الجيوسياسية لروسيا القيصرية دون التأثيرات الشخصية لبوتين.

 لا شك اليوم أن فلاديمير بوتين قد أخطأ في حساباته لقرار الحرب ضد أوكرانيا، وأن تلك الأخطاء كبيرة وعميقة لدرجة أنها أوصلت روسيا إلى مخاطر تمس مستقبلها

فبوتين الذي كان يعيش دائما آلام تفكك الاتحاد السوفييتي، وتتماهى أحلامه مع مجد روسيا القيصرية، ويختزن النقمة على الغرب الذي لم يتح لروسيا أن تأخذ حجمها وحصتها في النظام العالمي، بل وصار يعمل على محاصرتها حين شعر بنهوضها واستعادتها القوة العسكرية والاقتصادية.

باختصار، بوتين في مشاعره وأحلامه الشخصية أسقط بوعي أو دون وعي ما فعله التطور التاريخي من تغير في وعي الشعب الروسي ووعي شعوب الدول التي استقلت عنه.

ومن آثار تلك التحولات الهامة والعميقة مدى الاستجابة الممكنة للشعب الروسي لنداء الحرب من أجل الفتوحات واستعادة أمجاد روسيا القيصرية.

أما بروباغندا الدفاع عن روسيا المهددة فلا تبدو مقنعة لأحد، لا داخل روسيا ولا خارجها.

الشعب الروسي لم يعد أولئك الفلاحين البسطاء الذين يمكن بسهولة تعبئتهم وزجهم في حرب ذات أهداف غير مقنعة ليموتوا تحت القصف أو في كمائن الغابات الأوكرانية.

لقد تغير الروسي، والأجيال الجديدة تريد الحياة والحرية والتفاعل مع شعوب العالم، ولن تقاد بسهولة إلى محرقة حرب لا ضرورة لها، وليست لها نهاية في الأفق.

'