أين تقف مصر في أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا – مصدر24

أين تقف مصر في أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا

يشعر البعض من المتابعين بأن مصر جزء أصيل في الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا، حيث تروّج وسائل إعلام محليّة في أديس أبابا لوجود طرف ثالث يحركها ويستفيد من سخونتها، ولم تتورّع عن الإشارة إلى القاهرة صراحة. وأشاد بعض المسؤولين عمدا بكتاب (كاتبات) سودانيين درجوا على توجيه انتقادات لمجمل التصورات المصرية حيال الخرطوم، وتضخيمها وتحميلها أكثر مما تحتمل.

القاهرة – أصبحت مصر على رادار إثيوبيا في كل عثرة كبيرة أو صغيرة تواجهها، وعنصرا أساسيا في الأزمات التي تلاحقها منذ تصاعد الخلاف بينهما بسبب سد النهضة، بل وتحميلها مسؤولية الإخفاقات التي لا تتوقف عن الدوران. ومع تطور الأحداث يحاول البعض معرفة تموقع القاهرة في أزمة الحدود السودانية – الإثيوبية.

عندما اندلعت مظاهرات في أديس أبابا الصيف الماضي، قيل إن القاهرة حرّكتها وتقف خلفها، وبعد أن احتدم الصراع في إقليم تيغراي، أذاع إثيوبيون أن مصر تقف وراء التمرد، حتى وصل الأمر إلى تفجر النزاع الحدودي بين الخرطوم وأديس وأبابا.

وتعززت التكهنات والتخمينات الإثيوبية مع وصول وفد سوداني رفيع المستوى للقاهرة، الخميس الماضي، وعقده لقاء علنيا مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للتباحث حول القضايا المشتركة بين البلدين، فراجت توقعات بأن غرض الزيارة الترتيب لشكل الدعم اللوجيستي الذي سيقدم للخرطوم لتتمكن من الصمود أمام أي عدوان محتمل.

وتجاهلت أديس أبابا المهمة الرئيسية لزيارة الوفد، وهي شرح موقف الخرطوم، كما حدث من قبل مع كل من إريتريا وتشاد وقد يحدث مع غيرهما، ونفخت في البعد العسكري بما يوحي بأن الجيش المصري على وشك القتال بجانب نظيره السوداني.

مغادرة مربع الحياد

التوتر سيد الموقف
التوتر سيد الموقف

تعمّدت دوائر محسوبة على الحكومة الإثيوبية نكأ الأزمة الحدودية المكتومة بين مصر والسودان الخاصة بمثلث حلايب وشلاتين، رغبة في حرف الانتباه بعيدا عن أديس أبابا وتوجيه الأنظار نحو القاهرة التي تسيطر على منطقة متنازع عليها مع الخرطوم منذ سنوات طويلة، أملا في العزف على وتر حساس قد يفجر خلافا سياسيا بين الطرفين، تستفيد منه في تهدئة التوتر مع السودان، غير أن رهان إثيوبيا بات خاسرا مع كل تقدم جديد تحرزه العلاقات بين البلدين.

وتكرر إثيوبيا الدعاية السوداء في كل مقاربة إيجابية تتبناها القاهرة مع أي من الدول المجاورة لها. فقد حدث ذلك عندما زارت وفود رفيعة المستوى كلا من الصومال وإريتريا والكونغو الديمقراطية، أو استقبلت مصر مسؤولين من هذه الدول، فضلا عن زيارة السيسي نفسه لجوبا في نوفمبر الماضي، والتي ضاعفت هواجس أديس أبابا.

وأدت الحركة المصرية باتجاه دول حوض النيل، والقارة الأفريقية عموما، إلى تغيير الصورة الذهنية السلبية التي استقرت لدى دوائر كثيرة، ولامس التغيير وجدان الدولة الإثيوبية التي استفادت من العزوف المصري طوال نحو عقدين.

وقد ساعدت هذه الأجواء أديس أبابا على تدشين مشروع سد النهضة، واعتمدت فيه على سياسة الأمر الواقع، وكلما زادت عليها الضغوط السياسية اختلقت ذرائع تتهم القاهرة بفرض إملاءات عليها وحرمانها من التنمية وخفض منسوب الفقر في البلاد.

وشيّدت أديس أبابا حساباتها في التعامل مع مصر، وفي ملف سد النهضة تحديدا، على استمرار علاقتها الوثيقة مع الخرطوم، التي ازدهرت في عهد نظام الرئيس السابق عمر البشير، وعقب سقوطه أعادت السلطة الانتقالية تقييم رؤيتها حيال السد وإثيوبيا، مما أفضى في النهاية إلى التيقن من وجود تأثيرات سلبية له على السودان.

وقادت الممارسات المراوغة التي اتبعها المفاوض الإثيوبي في أزمة السد إلى فتور في العلاقة مع الخرطوم، اتسعت رقعتها مع تجدد النزاع الحدودي بينهما، والذي فاجأ فيه الجيش السوداني حكومة أديس أبابا، ولجأ إلى تفضيل الخيارات الخشنة، بعد تشككه في نتائج الجلوس على طاولة المفاوضات لحل أزمة عمرها نحو 25 عاما.

منهجية إثيوبية قاتمة

تعنت إثيوبي
تعنت إثيوبي

تلخص حالتا سد النهضة والحدود، المنهجية القاتمة للحكومة الإثيوبية في التعامل مع الأزمات الداخلية والإقليمية، فهي لا تميل إلى التسويات المباشرة، ووجدت في الهروب إلى الأمام أداة تستمد منها قوتها المعنوية لتخفيف وطأة التحديات المتراكمة.

وفضلت إثيوبيا المرور عبر خطوط متعرّجة، وتحميل طرف آخر (ثالث) المسؤولية في الأزمات التي تواجهها، هروبا من المسؤولية المباشرة، وخوفا من تقديم تنازلات قد تكون مرعبة سياسيا، حيث عجزت الحكومة عن تبني خطة إصلاحية شاملة تستجيب لطموحات مواطنين عولوا عليها ليتبوأ بلدهم مكانته اللائقة في المنطقة.

وجدت أديس أبابا في القاهرة خصما جاهزا في أزمة الحدود مع الخرطوم، تضع على كاهله الفشل الذي تعرضت له العلاقة مع السودان، خاصة أن هناك انطباعات تاريخية راسخة في العقلين الإثيوبي والسوداني مستعدة لتقبل الانتقادات وتصديق الاتهامات التي توجه لمصر، بشكل يسهل مهمة الدعاية السوداء التي جعلت القاهرة هدفا مركزيا لها في الآونة الأخيرة.

وانتبهت مصر لهذه التصورات والتصرفات، وحرصت على التمسك بالانضباط لأقصى درجة في التعامل مع إثيوبيا، ولم تبارح مسار المفاوضات وهي ترى جولاتها تنفض واحدة بعد الأخرى بلا تقدم ملموس، وسد النهضة يشق طريقه نحو التشغيل، والاتهامات تلاحقها بالتجهيز لعمل مسلح، ولم تفلح محاولات النفي في أن تبعد هذا الخيار عن ذهن إثيوبيا، بل اخترعت مقاطع كثيرة لتدعم مخاوفها العسكرية.

وأخفقت تقديرات إثيوبيا في قراءة التطورات جيدا، وبالغت في قدرتها الذاتية على فرض الأمر الواقع، ولم تنتبه لحجم الأزمات الداخلية التي تكبّلها، أو عمق التناقضات مع السودان، في وقت شهد فيه هذا البلد تحولات لافتة في بنيته الاستراتيجية.

إثيوبيا رهانها بات خاسرا مع كل تقدم جديد تحرزه العلاقات المصرية السودانية، ويتضح ذلك في محاولتها توجيه الأنظار نحو القاهرة لإثارة قضية حلايب وشلاتين بعيدا عن مشكلتها المتعلقة بأزمة الحدود مع الخرطوم

وتسعى مصر إلى الاستفادة من هذه المتغيرات وجعلتها تبدو رشيدة، واستوعب نظامها الاتهامات التي لاحقته ووصلت حد وصفه بـ”المتخاذل” جراء عدم حل أزمة سد النهضة بالطرق الدبلوماسية أو العسكرية، والقبول بما يشبه “الابتزازات” الإثيوبية البغيضة، في ظل الانتقال من محطة تفاوضية إلى أخرى بلا جدوى أو فاعلية.

ولعبت الخبرة دورا لفهم المعطيات الإقليمية والدولية، وتمكن النظام المصري من تضييق دوائر الخناق السياسية حول رقبة الحكومة الإثيوبية التي تريد الاستمرار في مشروع سد النهضة بلا اتفاق ملزم، وتعمل على فرض السيطرة على الأراضي السودانية المعلومة والموثقة دوليا بلا استعداد واضح للحل.

ووصلت التطورات بين الدول الثلاث إلى مربع حاسم الآن، فإثيوبيا ترفض التنازل في الأزمتين وتقف وحيدة تقريبا، والسلطة في السودان مصمّمة على عدم التفريط في الأزمة الحدودية الحالية، ومصر تهيّئ المجتمع الدولي لتحمل نتائج صمته على ممارسات أديس أبابا، وأعلنت وقوفها الصريح بجانب الخرطوم ودعمها في الدفاع عن أراضي السودان، دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع إثيوبيا.

وتقود هذه الحلقة الضيقة إلى وضع كل طرف أمام مسؤوليته السياسية، لأن المجتمع الدولي لن يتقبل حربا جديدة في منطقة تتكون من موزاييك عرقي غاية في الخطورة، تزايد في أوساطه عبث تنظيمات متطرفة طموحة، ولا أحد يضمن تطويق تداعيات ذلك إقليميا، ومن مصلحة القاهرة منع انفجار الأزمات الكامنة في إثيوبيا، لأن روافدها تضر بمصالحها، وترى أن الحل لا يزال ممكنا في التسويات الرضائية.

'