ازدواجية المذهب الديني والسياسة أسقطت ثورة الصدر – مصدر24

ازدواجية المذهب الديني والسياسة أسقطت ثورة الصدر

بالمقاييس السياسية، ليست الدينية والمذهبية المحلية، كانت معالم الثورة على النظام القائم ببغداد ومظاهرها قد تكثفت منذ الاحتجاجات والاعتصامات في المحافظات العراقية الغربية عامي 2011 و2012، والتي ذاق أهلها في وقت مبكر – منذ احتلال 2003 – مرارة قتل وتغييب عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء لأنهم أبناء الطائفة العربية السنية المتهمة بأنها حكمت العراق لمئات السنين.

جاءت ثورة أكتوبر الشبابية 2019 في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية لتعطي مصداقية لما قبلها في المناطق الغربية، رغم عدم الربط والتواصل الشكلي المباشر لأسباب كثيرة. ثورة أكتوبر أحرجت الأحزاب الشيعية الحاكمة لأنها من ذات المذهب الذي ترفعه كذباً ودجلاً وخداعاً للناس البسطاء، فالشيعة العراقيون كشفوا عن هويتهم الوطنية العالية لا المذهبية المتخلفة.

ثورة مقتدى الصدر، خصوصاً بعد فوزه بانتخابات 2021 وما تلاها من أحداث، لخّصت أغلب ما رفعه ثوار أكتوبر من مطالب تغيير النظام القائم وأزلامه الفاسدين المتورطين بدماء أبناء العراق، لكن خشية أغلب الثوار من خارج أنصار الصدر وغيرهم من الوطنيين في الداخل والخارج عدم ثبات الصدر على تلك الشعارات والمواقف حتى خلال عمليات اقتحام المنطقة الخضراء.

◙ قيام أو التحضير لقيام دولة ذات منهج مذهبي شيعي في العراق يصطدم داخلياً بقصة صراع الحوزات التاريخي الذي ظل لعقود داخل دوائر الاجتهاد

كانت تحضيرات الصدر السياسية والإعلامية قبيل اقتحام المنطقة الخضراء تشير إلى عمل جدّي على الأرض للتغيير، هذه ليست فرضية اجتهاد سياسي، هي آليات معروفة مُطبّقة في عالم الثورات الشعبية الحديثة خصوصاً في منطقتنا العربية. وضع اقتحام جمهور الصدر لقصري رئاسة الجمهورية والحكومة بعد مقر البرلمان يوم الاثنين 29 آب -أغسطس أركان النظام وأزلامه في حالة البحث عن ملاجئ سريعة مُرَتَبة للهزيمة، شاهد أهل بغداد عملية إجلائهم إلى أماكن آمنة على طائرات الهليكوبتر الأميركية في تأكيد عملي على حماية واشنطن لهم من ثورة الشعب.

تسربت الكثير من أصوات بعض الصدريين بعد دقائق من فشل ساعة صفر الثورة من تحقيق هدفها المُنتظر بإعلان انتصارها وإقامة النظام البديل، تحدثوا خلالها عن الإحباط المرير من عدم إعلان انتصار “الثورة الشعبانية” حسب ما أطلق عليها الصدر من تسمية. أحدهم قال: كانت الساعات ما بين الخامسة والثانية عشرة مساء الاثنين 29 أغسطس عصيبة علينا نحن الثوار، لكن الصدمة والخيبة الكبرى كانت أوامر الصدر بإيقاف تنفيذ مراحل إعلان نجاح الثورة وإنهائها.

ماذا حصل؟ ولماذا توقف مقتدى الصدر بصورة مفاجئة وغريبة؟

لم يُعَطل الصدر قيام الثورة فحسب، بل ذهب إلى ما هو أكثر غرابة في إعلانه انتهاء ثورته، ورفع يده عن جمهوره الذي انتشرت صور تظهر درجة حماسته بالانتصار داخل المنطقة الخضراء وأروقة القصر الجمهوري، حيث يتمتع الثوار بمواقع رؤوس ورمز الطغمة الحاكمة، وهي أحداث شبيهة بالاقتحامات الشعبية الأخيرة لقصور الحكام في إندونيسيا أو أفغانستان.

الأكثر حرارة في المشهد هي التطورات الميدانية في الصدامات العسكرية التي حصلت بين أنصار الصدر من ميليشيا سرايا السلام وميليشيات الإطار، بعد ساعات من إعلان تعطيل وإنهاء ثورته، ونجم عنها وقوع أكثر من 22 قتيلا قال عنهم الصدر “القاتل والمقتول في النار”، في لحظة الإحباط والهزيمة والتخلي عن جميع مواصفات الصدر التي وضعته في المكانة التي أصبح عليها قبل إعلانه نهاية ثورته، أراد لنفسه أن يكون مقتدى ابن محمد الصدر فقط، غسل يديه من كل الذي حصل، طوعاً وإرضاء للمرجعية الشيعية.

 

 تحضيرات الصدر السياسية والإعلامية قبيل اقتحام المنطقة الخضراء كانت تشير إلى عمل جدّي على الأرض للتغيير

هناك أكثر من تسريب لما حصل ساعة الصفر في تلك الليلة، أكثرها قرباً للتصديق ما قيل “إن مرجعية السيستاني بواسطة ابنه محمد رضا أمره بإيقاف ثورته وتعطيلها”، لم يتمكن من رفض الأمر والتمرّد على قرار وليّ المذهب في النجف وهو الذي أعلن طاعته له. ارتبط ذلك بمناخ أعدته طهران بخبث ومكر عن طريق مرجع الصدر كاظم الحائري الذي أعلن تخليه وتقاعده وإحالة جميع أتباعه من ضمنهم الصدر إلى ولي الفقيه الإيراني علي خامنئي وكأنهم قطيع من الأغنام.

هذا التطور الدراماتيكي أثار الكثير من علامات الاستفهام؛ لماذا وصل مقتدى الصدر وأوصل جمهوره المليوني إلى حالة الخيبة الكبرى والإحباط الكبير الذي فاق جميع حالات التراجع والاعتكاف السياسية الفردية السابقة التي ساعدت على تعزيز الأوصاف التقليدية ضد الصدر “بأنه رجل لا يمكن الاعتماد على مواقفه، وأنه ابن العملية السياسية، وأن الثورة الحقيقية هي ثورة أكتوبر 2019 التي تصاعدت فعالياتها الميدانية في الاعتصامات والمظاهرات بعد تاريخ نهاية ثورة الصدر”.

مع كل الذي حصل والاعتراف بحقيقة نهاية ثورة الصدر إلى حد اللحظة، لكن بعض الكتابات العراقية الوطنية المُنصفة “لحالة الصدر” الاستثنائية تحاول إنصافه في جزئية تعطيله المؤقت للصدام الدموي “الشيعي – الشيعي” الذي حصلت بداياته المُفزعة للكثيرين على أبواب المنطقة الخضراء وفي محافظة الناصرية معقل الصدريين. لكن ذلك لا يبرر موقف الصدر المفاجئ في أدق لحظة تغيير مُنتظرة.

قراءتنا للنكسة الصدرية التي لا نعرف هل ستنهي حياته السياسية أم أنه سيعود ثانية تحت تبريرات معينة لاحقة، هي أن كل ما حصل من نتائج ومعطيات سياسية مهدّت الطريق لهيمنة موالي إيران على سلطة العراق مجدداً، هو المزج ما بين الدين والمذهب والسياسة.

ازدواجية الدين والعملية السياسية عام 2003 كانت واحدة من المعايير الرئيسة التي قدمها قادة الأحزاب الشيعية للحاكم المدني للاحتلال الأميركي بول بريمر ووافق عليها، أمثلتها الأولية كثيرة من أهمها تدخل المرجع الشيعي بالنجف علي السيستاني الذي أفتى إلى جانب علي خامنئي بطهران بعدم المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي. لكن السيستاني بعد أربعة عشر عاماً أفتى بالجهاد ضد مجموعة عصابات “سنية” متطرفة تحت اسم داعش، التي رغم حجمها العددي المتواضع احتلت مدينة الموصل بتواطؤ حكومي مما مهد لتداعيات قيام ميليشيات مسلحة خربت العراق وأهله تحت ظل “قدسية تلك الفتوى” رغم انتهاء زمنها بتحرير العراق من داعش.

الجانب الآخر في تدخل السيستاني قراره المسموع من ممثلية الأم المتحدة في العراق أوائل عام 2004، وحتى من بول بريمر، بضرورة الإسراع بسن دستور عراقي جديد لم تكن ظروف قيامه سياسيا ناضجة بعد في ظل بلد محتل عسكريا من الولايات المتحدة ذات الولاية العليا في العراق. هذا أدى إلى الشلل والفوضى المقصودة بعدم قيام دولة جديدة تحمي مصالح شعب العراق.

الأزمة السياسية الكبيرة التي حصلت في العراق أكبر وأخطر في النوع والحجم من مشكلة تداخل الدين بالسياسة على خطورتها في منع قيام دولة المؤسسات، إنها الغموض المقصود في تداخل المذهب الشيعي الموالي لإيران بالسياسة العراقية، هذا الغموض سمح لمافيات الفساد في أعلى مراتب الأحزاب الحاكمة، وفي مقدمتها حزب الدعوة ومجلس الحكيم وغيرهما، باللعب في رواية الحكم المطلق للشيعة للعملية السياسية وتوزيع المسؤوليات ورميها على الآخرين من شركائهم الكرد وتابعيهم من السنة.

 

 ثورة مقتدى الصدر، خصوصاً بعد فوزه بانتخابات 2021 وما تلاها من أحداث، لخّصت أغلب ما رفعه ثوار أكتوبر من مطالب تغيير النظام القائم وأزلامه الفاسدين

هل خدم هذا الغموض المُدبّر في استمرار فعالية ازدواجية الدين والمذهب بالسياسة وعدم إنهائه لصالح دولة شيعية؟ الجواب نعم لسببين:

أولا، الغموض خدم جميع مستثمري الحكم للبقاء دائماً في المنطقة الضبابية المحميّة، هذا الذي حصل خلال العشرين سنة الماضية.

ثانياً، قيام أو التحضير لقيام دولة ذات منهج مذهبي شيعي في العراق يصطدم داخلياً بقصة صراع الحوزات التاريخي الذي ظل لعقود داخل دوائر الاجتهاد وصراعها ما بين المرجعيتين العربية في النجف والفارسية في قُم، وتبلور في مواقف الراحل محمد والد مقتدى الصدر، لكنه لم يُحسم لأن من تسلموا هذا الموقع من بعده لم يسيروا على هذا الخط، وبعضهم انحرف عن خط محمد الصدر مثل الموصى به كاظم الحائري الذي استسلم وسلّم رايته الحوزوية برخص وخباثة لعلي خامنئي وريث سلطة الخميني في طهران 1979 التي قدمت النموذج الرّث للحكم الأوتوقراطي الدكتاتوري للسلطة الإثني عشرية الصفوية، التي سعت وتسعى لاستقطاب عراق ما بعد 2003 وضمه إليها، وهذا ما حصل فعلياً.

لذلك لم تتعد نشاطات مقتدى السياسية بعد عام 2003 الظاهرة السياسية لأنه لم يكن مؤهلاً للتصدي للمعركة داخل مسرح المرجعيات الشبيه بالمافيات الكبيرة. لكن وضعه الشخصي فرض عليه هذه الازدواجية ما بين المذهب والدين والسياسة التي أسقطته في فشله عن إتمام مشروعه الثوري، وهو ما عوّق أيّ توجهات لقيام حكم شيعي عراقي بعيد عن هيمنة ولاية الفقيه الإيراني، وهذه إحدى المشكلات المباشرة لتعطيل مسيرة الصدر المذهبية ونهاية شوطها الثوري، لم يُسمح له ولا يسمح بخيار قيام حكم شيعي عراقي مستقل.

'