استحضار عبد الناصر، التاريخ ليس منقذا دائما – مصدر24

استحضار عبد الناصر، التاريخ ليس منقذا دائما

أعادت التطورات التي تمر بها مصر حاليا بعث قيم ومبادئ ظهرت خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، ومضى عليها نصف قرن منذ رحيله. واستدعت أزمات آنية تواجه البلاد سياسات سابقة له لتبدو لدى البعض بمثابة طروحات للتعامل مع التحدّيات الراهنة. وظهرت عدة شواهد أقامها الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي منذ توليه الحكم تدّل على اهتمامه بفكرة بناء علاقات عربية قوية مع العمل على استعادة مفهوم القومية بشكل يتماشى مع العصر الحديث.

القاهرة – استدعت مواجهة الدولة المصرية للإرهاب الديني، تجربة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الذي قاد ثورة 23 يوليو 1952 لتهميش وتحجيم دور التيار الديني في الشارع، بعد معركة قوية نجح خلالها في تفتيت جماعة الإخوان المسلمين وإيقاف تمددها وتأثيرها السياسي، فضلا عن الحاجة الماسة إلى استلهام قيم العدالة الاجتماعية المحققة لها في ظل ارتفاع عدد الفقراء.

كما لفتت أزمة سد النهضة وما يكتنفها من مخاوف بتأثر حصة القاهرة من المياه، انتباه الكثيرين لأهمية العلاقات المصرية-الأفريقية التي شهدت ذروة تمددها في عهد عبدالناصر.

ومع حلول الذكرى الخمسين لوفاة عبدالناصر، والتي تصادف يوم 28 سبتمبر الجاري، باتت مصر كأنها قريبة لاستدعاء جوانب من نهجه السياسي، رغم عدم وجود كيان حزبي وسياسي يعبر عن مبادئ الناصرية.

وحاول التيار الناصري في مصر تشكيل حزب واحد يعبر عن أفكار عبدالناصر، غير أن المنتسبين إليه فشلوا وشكلوا أحزابا عدة، لم ينجح أحدها في أن يترك بصمة سياسية، إلا من خلال الخلافات والتجاذبات، التي أصبحت أعلى صوتا من ميراث رجل تتجاوز قيمته في نظر الكثيرين، الأحزاب التقليدية أو حصره في فئة محددة.

ولكل زمان رجاله وتطوراته، التي تؤثر في اتخاذ القرار، ولا يمكن نزول النهر مرتين، فالمتغيرات التي حدثت جعلت تكرار نموذج أو التشبه به عملية عصيّة سياسيا.

قيم قابلة للاستدعاء

السيسي يحاول الرجل استعادة مفهوم القومية العربية بصورة عصرية
السيسي يحاول الرجل استعادة مفهوم القومية العربية بصورة عصرية

رأى مفكرون وأساتذة تاريخ وعلوم سياسية أن تغيّر الظروف لم يحل دون الاستفادة من تجربة عبدالناصر، فالكثير من التصورات والإجراءات الحالية للنظام المصري تقترب مما كانت عليه خلال العهد الناصري.

وأشار هؤلاء إلى أن قيم ومبادئ وسياسات عبدالناصر، رغم ما يعتبره البعض من فشل للمشروع الناصري، أثّرت في أجيال عديدة من القادة، ومثلت جانبا مخططا ومنظما لمشروع وطني قابل للتطوير والتعديل.

ويؤكد أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الزمن تغير كثيرا، كما تبدلت الظروف الدولية والإقليمية، لكن هناك توجهات قابلة للاستدعاء مع إجراء بعض التعديلات التي تناسب ما حدث من تغيرات.

وقال أحمد لـ”العرب”، إن “سياسات عبدالناصر على المستوى الداخلي أو الخارجي، جاءت في إطار مشروع متكامل، بغض النظر عن مستوى نجاحه، كانت تحكمه رؤية استراتيجية لها أبعاد ومكونات متعددة”.

ولوحظ أن عصر الرئيس الراحل أنور السادات (1970 ـ 1981) مثّل خروجا تاما عن عهد عبدالناصر وتصرفاته، حيث طبق ناصر نظاما اشتراكيا قائما على العدالة الاجتماعية، واعتمد على تنظيم سياسي واحد، وضيّق الخناق على المشروع الديني وقيّد حركته.

أحمد يوسف أحمد: التأثير المصري إقليميا استعاد قدرا كبيرا من قسماته في عهد السيسي

وفي المقابل قدم السادات نموذجا جديدا للانفتاح الاقتصادي، وسمح بتعددية حزبية، ثم فتح الباب تماما أمام جماعة الإخوان المسلمين، وشجع على تأسيس الجماعات الدينية، وانتهى الأمر في النهاية إلى قيامها باغتياله.

ومضى السادات على خطى عبدالناصر ذاتها على مستوى السياسة الخارجية حتى حرب أكتوبر 1973، ثم تحول بعدها مفضلا التسوية المنفردة مع إسرائيل، والتوافق التام مع الأميركيين، ما أحدث صدعا في العلاقات المصرية العربية.

وذكر أحمد، أن الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي جاء خلفا للسادات، استطاع إصلاح بعض الأخطاء في السياسة الخارجية لمصر من خلال استعادة العلاقات مع العالم العربي، وحافظ على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وأقام علاقة متوازنة مع كل من روسيا والصين، لكنه خسر حضور مصر على الساحة الأفريقية، ولم يحدث تغييرا على الصعيد الداخلي في ما يخص النسيج الاجتماعي.

ويبدو عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي الأقرب شبها بعبدالناصر، فهناك علاقات عربية نشطة وقوية، ويحاول الرجل استعادة مفهوم القومية العربية بصورة عصرية.

وأوضح المحلل السياسي أحمد، أن التأثير المصري على المستوى الإقليمي ليس كما كان في عهد عبدالناصر، لكن نظام السيسي استعاد قدرا كبيرا من قسماته، وتأكد موقف القاهرة الداعم للدول العربية الوطنية، مثلما يحصل في ليبيا وسوريا واليمن، وعادت مصر إلى الساحة الأفريقية ونسج علاقات قوية مع معظم دول القارة.

وإن كان السيسي ليس خطيبا مفوها مثل عبدالناصر، غير أن مشروعه التنموي للبلد فيه الكثير من أوجه التشابه، وإذا كان الرئيس الأسبق حدد انحيازاته الخارجية في الكتلة الشرقية، فإن الرئيس الحالي طور علاقاته وجمع بين الكتلتين الشرقية والغربية في سلة واحدة.

وتحافظ مصر حاليا على علاقات متوازنة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، والكثير من بلدان العالم، ووصلت إلى معادلة متوازنة في تنويع تسليح الجيش.

ويهتم السيسي باستعادة دور الدولة في الاقتصاد، مع السماح ببقاء القطاع الخاص، وتضع العدالة الاجتماعية في مقدمة جدول الأعمال عبر برامج دعم جديدة، ورفع مستوى القطاع الصحي، والدخول في مواجهة حاسمة مع المشروع الديني، وما تمثله جماعة الإخوان من خطر على الاستقرار، مثلما كان الأمر في الحقبة الناصرية.

وقال جمال شقرا، أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس في القاهرة لـ”العرب”، إن “أفكار عبدالناصر عاشت وصالحة للاستدعاء والاستلهام، فلم تولد من فراغ، وتشكلت من طموحات المصريين وتطلعاتهم”.

واكتشف شقرا عندما كتب دراسة بعنوان “مصادر التكوين الفكري لعبدالناصر”، أن الرجل اعتمد في نهجه على ثلاثة مصادر قرأها ودرسها بعناية، هي الجغرافيا والتاريخ وشخصية مصر، وقد لاقت في ظل كاريزما شخصية تميّز بها احتفاء من قبل الجماهير، وصارت تمثل نموذجا دائما لطموحاتهم.

وشدّد شقرا، على أن استلهام بعض جوانب تجربة عبدالناصر مسألة ممكنة ومفيدة، لكن مع إدخال بعض التعديلات، التي تأخذ في اعتبارها التغيرات الدولية، ومن بينها أنه لم تعد هناك كتلة شرقية، وأن الاتحاد السوفييتي سقط تماما، كما أن مشكلات وظروف المجتمع تغيرت وفرضت تحديات جديدة نفسها على الواقع.

جماهيرية خالدة

مصر وصلت إلى معادلة متوازنة في تنويع تسليح الجيش
مصر وصلت إلى معادلة متوازنة في تنويع تسليح الجيش

استفاد السيسي من تجربة ناصر في مواجهته لإرهاب الإخوان والتيارات الدينية، من خلال تبنيه مشروعات اجتماعية تقطع الطريق على مزايدات المتطرفين، وتحقق درجة من العدالة المرضية للمواطنين.

ويقول شقرا إن هناك رؤية استراتيجية واضحة لدى الدولة المصرية نابعة من تحديات الجغرافيا تُشير إلى ضرورة وجود تحالف عربي عربي في مواجهة أطماع كل من تركيا وإيران، وهو ما كان قائما في تصورات عبدالناصر، وقام بطرد السفير التركي بالقاهرة فور توليه السلطة بسبب طروحات دعت إلى هيمنة تركيا على المنطقة.

جمال شقرا: أفكار عبدالناصر لم تأت من فراع وهي صالحة للاستدعاء والاستلهام

وتبقى فكرة الإحالة إلى مشروع جمال عبدالناصر طرحا متواصلا، ولا يقتصر على الدولة ودوائر السياسة والنخبة المثقفة في مصر، إنما يمتد إلى العامة.

وبدا ذلك من خلال شواهد عديدة، كان منها قيام المتظاهرين في احتجاجات 25 يناير 2011 برفع صور عبدالناصر في ميدان التحرير بوسط القاهرة، وهو ما تكرر بعدها بشكل عفوي في ثورة يونيو 2013 ضد حكم الإخوان المسلمين.

ورأى البعض أن قطاعا كبيرا من الناس لا يزال يرى عهد عبدالناصر الأكثر قربا من الطبقة الوسطى، التي تمثل الشريحة الكبرى، ويقع على عاتقها التغيير في غالبية المجتمعات.

وذكر شريف عارف الباحث المتخصص في التاريخ، أن الأوضاع الداخلية والخارجية هي التي تدفع إلى استدعاء عبدالناصر فكرا وسياسة وتطبيقا، ففي ظل الإرهاب المتصاعد من جانب جماعة الإخوان وذيولها يتذكر الناس كيف نجح مشروع ناصر في فضح خطابها والتغلب عليها.

وربما يتذكر الكثيرون العلاقات مع موسكو القوية في الستينات من القرن الماضي، كلما تكررت أنباء عن زيارات مكوكية ومتبادلة مع روسيا حاليا.

ويعود الناس إلى التأثير السياسي لعبدالناصر في أفريقيا كلما وجدوا مشكلة ما. ومن الصعب تكرار السياسات ككل، وإنما يمكن استدعاء بعضها والاستفادة منها، وقال عارف “شئنا أم أبينا واتفقنا أم اختلفنا، فعبدالناصر صاحب مشروع وطني، ومع وجود أخطاء عديدة، فإنه بقي رمزا لمناصرة الفقراء والبسطاء”.

سياسات عامة

الرئيس المصري يهتم باستعادة دور الدولة في الاقتصاد
الرئيس المصري يهتم باستعادة دور الدولة في الاقتصاد

هناك مَن يرى أن ما يعرف بمبادئ الناصرية ليست سوى سياسات عامة عرفتها مصر قبل عبدالناصر، واختبرتها وبشّرت بها النخبة السياسة قبل ثورة يوليو، وأن فكرة القومية العربية انتشرت قبل ظهور ناصر، حتى أن جامعة الدول العربية أسست كتطور طبيعي لشيوع الفكر القومي.

وبدأ تطبيق سياسات العدالة الاجتماعية والاشتراكية ومساندة الفقراء ومجانية التعليم في مصر خلال الأربعينات، ما يعني أنه لا يمكن اعتبار ما يُسمى بالناصرية حاضنة لتلك السياسات، وأن السيسي يعيد إنتاجها. كما أن توجهات الدولة المصرية حاليا لا تقتفي عمدا أثر سياسات ناصر، إنما تعتمد على تجارب رائدة لبعض الدول التي حققت خطوات جيدة في التنمية.

ويعتقد الخبير في الشؤون الإقليمية عبدالمنعم سعيد، أن هناك تصورا قاصرا مبنيا على أن السياسات الماضية يتم استدعاؤها لتطبيقها في الوقت الحاضر.

وقال سعيد لـ”العرب”، إن طبيعة التطور تعني أنه لا توجد قطيعة بين مرحلة آنية وأخرى سابقة، ولا يمكن القول إن بعض سياسات عبدالناصر نهج خاص به وتقتصر عليه، ففكرة عدم الانحياز مثلا لم تكن وليدة عصر عبدالناصر، وسبق أن طرحت في مصر خلال الحرب العالمية الثانية.

عبدالمنعم سعيد: السياسات الحالية للقاهرة تجاوزت تماما توجهات عبدالناصر وفترته

وفي تصور سعيد، وهو ممن يدعمون الأفكار الليبرالية، أن سياسات مصر الحالية تجاوزت تماما توجهات عبدالناصر وفترته، وضرب المثل بالمشروعات التنموية، من طرق وكباري وقناة السويس الجديدة ومدن تفوق بالمعنى الكمي للإنفاق والتشغيل المشروع التنموي الوحيد لعبدالناصر وهو السد العالي.

ويستشهد محبو عبدالناصر بهذا المشروع حاليا عندما ينظرون إلى ما فعلته السيول والفيضانات في السودان، حيث عصم السد العالي مصر من هذا الخطر، ويعتبرونه إنجازا لا يضاهيه كل ما يجري على الأرض من تطورات.

ويرى سعيد أن الدولة المصرية تسير على نهج الدول البازغة، والتي ظهرت نهاية التسعينات في جنوب شرق آسيا، على رأسها كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والفلبين، وفيها تعود الدولة إلى عمليات التنمية بمشاركة القوات المسلحة، لكن ذلك يتم بتنفيذ من القطاع الخاص، ونتاج تلك المشروعات يستفيد منها الجميع، وكل هذا مغاير تماما لما عرف باعتباره حكرا لعبدالناصر.

ونبّه إلى أن القوات المسلحة في كوريا الجنوبية قامت بدور رائد وعظيم في التنمية، بدءا من الخمسينات وحتى التسعينات، ما جعلها نموذجا جاهزا للعولمة والديمقراطية.

وتعني التنمية صناعة الثروة، بينما كان نظام جمال عبدالناصر يعتمد على ما يعرف بإدارة الفقر وانتهت السياسات إلى تحقيق خسائر مادية ومعنوية ضخمة، وفق سعيد، الذي قال إن “التعليم تم توفيره بصورة مجانية للجميع، لكن النتيجة أن مستواه انحدر للغاية حتى أصبحت مصر عاجزة عن تخريج كوادر على درجة عالية من العلم لنحو عقدين، واضطرت الجامعات الحكومية للعودة إلى عمل تعليم حقيقي بمصروفات خاصة”.

وأبدى الباحث السياسي سيد جبيل، تحفظه على المقارنة أو التشبيه بين نظام السيسي وعبدالناصر، “لأنها تشبه المقارنة بين التفاح والبرتقال”، وطرحها يتم عادة إما بغرض النقد وإما المجاملة، فتغير الظروف الزمنية كفيل بدحضها.

وأوضح جبيل لـ”العرب” أن الاتحاد السوفييتي كان قوة كبرى في زمن عبدالناصر، ومصر مدت جسور علاقات معه لمواجهة القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، لكن الآن لا يوجد كيان اسمه الاتحاد السوفييتي كما أن المواجهة مع إسرائيل لم تعد ذات أولوية بالنسبة إلى مصر.

وخرجت مصر تماما من عهد عبدالناصر على المستوى الداخلي والخارجي، وإذا كان بعض العامة لديهم الحنين لناصر وزمانه، ذلك لاستشعارهم أنه كان نصيرا للفقراء، بغض النظر عن مدى تحقق ذلك فعليا.

'