استكمال الوثيقة الدستورية رهن تفاهمات شركاء الثورة في السودان – مصدر24

استكمال الوثيقة الدستورية رهن تفاهمات شركاء الثورة في السودان

استكمال الوثيقة الدستورية رهن تفاهمات شركاء الثورة في السودان

لم يتحقق السلام في السودان بعد رغم مرور قرابة ثمانية أشهر على العمل بالوثيقة الدستورية التي حددت خطوط المرحلة الانتقالية والتي تعرضت إلى انتقادات واسعة بسبب المشاكل التي ترجمتها إخفاقات القوى الرئيسة الموقعة عليها. سلام منشود زاد في لخبطة مستقبله الأزمة الاقتصادية ومحاولات فلول البشير القفز ثانية للعب دور في المشهد الجديد، علاوة على تعطّل ما اتفق عليه بشأن تعيين الولاة وجعلهم من المدنيين بدل العسكريين وهو مأزق مازال يراوح مكانه.

القاهرة – تواجه الوثيقة الدستورية التي حددت معالم المرحلة الانتقالية في السودان مشاكل سياسية عدة، في ظل إخفاق القوى الرئيسية في عبور الكثير من المطبات، فقد مضى أكثر من ثمانية أشهر على العمل بها ولم يتحقق السلام الشامل.

كما لم تتراجع حدة الأزمات الاقتصادية، أو يتم تقويض أركان النظام السابق، ولا تزال قضية تعيين ولاة مدنيين بدلا من العسكريين تراوح مكانها، وتعرضت لتجاذبات وانتكاسات جعلتها واحدة من القضايا الخلافية التي يساهم تجاوزها في تقريب المسافات بين القوى المسؤولة عن إدارة هذه المرحلة وتخفيف حدة الاحتقانات.

تمثل موافقة الجبهة الثورية الثلاثاء على مقترح الحكومة السودانية لتعيين الولاة المدنيين، مع تكوين آلية محددة لاختيار حكام مؤقتين للولايات واحدة من التطورات المهمة، والتي يمكن أن تفتح الباب لتخطي جملة من العقبات، وتسهيل عملية التقارب في ملفات أخرى معلقة.

مأزق الولاة

تعتبر دوائر رسمية أن عدم تعيين حكام للولايات حتى الآن منغصا أضر كثيرا بحزمة من القضايا الداخلية، للدرجة التي أصبح معها سكان الولايات لا يشعرون بفوائد الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير، فوجود قادة عسكريين على رأس غالبية الولايات يوحي بعدم التغيير، ويقلل من قدرة مجلس السيادة والحكومة على التعامل مع فلول النظام البائد.

ووجهت الجبهة الثورية التي تضم ثمانية من الحركات والتنظيمات السياسية والفصائل المسلحة، رسالة إلى رئيس مجلس السيادة ونائبه، ورئيس مجلس الوزراء، جاء فيها “نزولا عند رغبة الشعب في تفكيك دولة التمكين وتعيين حكام مدنيين مؤقتين لأداء هذه المهمة نطرح مقترحات مباشرة لاختيار الحكام إلى حين الوصول إلى اتفاق سلام”.

تضييق الهوة بين الجبهة الثورية والسلطة الحاكمة يحل الكثير من القضايا المتعثرة التي أصبحت رهينة لإرادة الطرفين

اقترحت الجبهة تكوين آلية رباعية، تضمها ومجلس السيادة والحكومة وقوى الحرية والتغيير، على أن يكون الأعضاء من ذوي الخبرة الإدارية ويتمتعون بالكفاءة وغير منتمين لأحزاب وقبول من سكان الولايات التي تدور فيها الحروب، مع تمثيل منصف للنساء.

وتأتي هذه الموافقة كخطوة نوعية لتشجيع عملية التغيير، وإزالة الفيتو السابق الذي وضعته الجبهة الثورية واشتراط التوصل إلى السلام الشامل أولا قبل التعيين، وتمهد في جوهرها إلى إمكانية تسريع خطوات التفاهم بين القوى المؤيدة للثورة بعد أن نخرت في أجسامها خلافات مكنت قوى الثورة المضادة من ممارسة ضغوط وعرة على السلطة الانتقالية.

لكن الجبهة الثورية تمسكت برفض قيام المجلس التشريعي المزمع إعلان الحكومة عنه السبت المقبل، مستندة إلى أن مجلسي السيادة والوزراء يؤديان مهامه لحين التوصل إلى اتفاق سلام يمكن الجبهة من المشاركة، حيث نصت الوثيقة الدستورية في أغسطس على منح سُلطات المجلس التشريعي إلى اجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء إلى حين قيامه.

ويؤدي تضييق الهوة بين الجبهة الثورية والسلطة الحاكمة، بفرعيها المدني والعسكري، في الخرطوم إلى حل الكثير من القضايا المتعثرة التي أصبحت رهينة لإرادة الطرفين، وما يعتمل داخل مكونات كلاهما من تباينات سياسية تسببت في تعكير صفو علاقة زادت معالمها الإيجابية مع الأيام الأولى للإطاحة بنظام البشير.

وتجد قوى الثورة، المشاركة في الحكم مباشرة أو بصورة غير مباشرة، نفسها الآن أمام تحديات متعاظمة، فمع تصاعد تطلعات الجماهير وانخفاض مستوى الأداء السياسي، باتت جميع الأطياف عُرضة لمزيد من الأزمات، فالمواطن المطحون لا تهمه الجهة التي تنتمي إليها الأحزاب والفصائل، بقدر ما تهمه قدرتها على تجاوز المشكلات الحياتية وتوفير الغذاء.

طول مدد التسوية

إن الاستغراق في تفاصيل القضايا والتوصل إلى تسويات ناجعة لها ومستقرة من الأمور الجيدة، غير أن طول مدد التسوية بدأ ينعكس سلبا على القوى التي شاركت في الثورة، فالسعي إلى تحقيق السلام بالشروط التي وضعتها الحركات المسلحة قد يصبح عملية صعبة، ولا تستطيع الحكومة الوفاء باستحقاقاتها عمليا.

ويقود فرض رؤية أحادية من قبل قوى تحالف الحرية والتغيير إلى النتيجة نفسها، ولذلك فلا مناص من الالتفاف حول رؤية واضحة محددة، تتكفل برفع المعاناة عن كاهل قطاع كبير من السودانيين الذين يهمهم تحقيق أحلامهم كاملة، لكن خطورة التشبث بأفكار خاصة يمكن أن تحولها إلى كابوس سياسي، يخسر فيه المواطنون والسلطة والقوى المتحالفة معها.

وحرقت قوى الثورة في السودان مبكرا الكثير من المراحل عندما اعتقدت أنها قادرة على تخطي الأزمات التي ورثتها من نظام البشير سريعا، ومضت في طريق مظلم عندما لجأت إلى تجزئة قضايا الهامش والأطراف قبل أن تتولى تمتين وضع السلطة المركزية في مواجهة معارضة تملك إمكانيات مادية كبيرة تؤهلها للحفاظ على أنصارها، وكسب أنصار جدد.

عاش شركاء الثورة هذه الأزمة بكل تفاصيلها وتجلياتها خلال الأشهر الماضية، لأنهم لم يقدموا التنازلات الوافية للتعامل مع الأوضاع الحرجة، وفضّل البعض تغليب مصالحهم الشخصية على الوطنية، والمناطقية على القومية، والفئوية على السياسية، في محاولة ترمي إلى تأسيس واقع يمكن أن يستمر فترة طويلة، فمع العثرات التي تواجهها المرحلة الانتقالية يمكن أن يتجاوز عمرها الـ38 شهرا التي حددتها الوثيقة الدستورية، ويفقد الشركاء واحدة من قوة الدفع التي حصدوها في الداخل والخارج.

قوة متكاتفة بعد الإطاحة بالبشير
قوة متكاتفة بعد الإطاحة بالبشير

حصلت الأطياف التي شاركت في الثورة على تعاطف لافت بعد نجاحها في إسقاط نظام البشير، وتضاعف التعاطف مع صمودها في مواجهة تداعيات الحدث الكبير، وتفويت الفرصة على الحركة الإسلامية والأحزاب التي اعتمد عليها النظام السابق في السيطرة على الشارع.

ما لم تتمكن قوى الثورة من العودة إلى التلاحم ووقف المعارك السياسية سوف تجد نفسها أمام واقع قاتم، ظهرت ملامحه في تكلس يعتمل في قمة السلطة ويتسع في مكوناتها التي تستند على تفعيل مبدأ المحاصصة، وعجز فاضح في الالتزام بالترتيبات المعلنة، والأخطر انسداد وعدم تطور علاقات الخرطوم الخارجية، بكل ما تحمله من وعود اقتصادية براقة.

وتفضي ثلاثية التكلس والعجز والانسداد إلى رسم صورة غامضة للفترة الانتقالية، توحي بأن تجاوزها يحتاج إلى معجزة تفرض التعامل مع الأوضاع الحالية بمزيد من الشفافية قبل أن تتفاقم الأزمات التي تعد بيئة مناسبة لقفز المتربصين من عناصر النظام السابق على السلطة مرة أخرى، ومحاولة توجيه الشارع إلى الناحية التي تمثل منغصا قويا للسلطة الانتقالية، ما يجبر الأخيرة على تبني تصورات مزعجة للمواطنين والمراقبين للحفاظ على مكتسبات الثورة.

ما لم تحدد القوى الفاعلة أجندة بألوياتها العاجلة سوف تصطدم بمعوقات تحول دون التحرك خطوة إلى الأمام، خاصة أن شريحة من المواطنين بدأت تشعر وكأن القوى المؤيدة للثورة ترتاح لإطالة أمد المرحلة الانتقالية خوفا من المجهول الذي تحمله الفترة الدائمة، فلم تتمكن الثورة من إفراز أحزاب أو تكتلات قوية، فتحالف الحرية والتغيير يكابد لإعادة هيكلة قواه التي تكشفت مع قيام حزب الأمة القومي بتجميد نشاطه إلى حين التوصل لعقد اجتماعي جديد.

قد تتمكن الحكومة والجبهة الثورية من تخطي نفق تعيين الولاة المدنيين على قاعدة (مؤقتة) من القواسم المشتركة، غير أن امتداد ذلك لجميع القضايا الملحة بحاجة إلى رغبة وإرادة وعزيمة وقدرة على تقديم مبادرات توقف زحف المكايدة، وتوقف مبدأ تسجيل النقاط، فالحفاظ على منجزات الثورة لن يتم دون تفاهمات وتضحيات من جميع القوى الوطنية.

'