افتقار احتجاجات السودان للظهير السياسي يضعها على أعتاب الانفراط – مصدر24

افتقار احتجاجات السودان للظهير السياسي يضعها على أعتاب الانفراط

افتقار احتجاجات السودان للظهير السياسي يضعها على أعتاب الانفراط

النظام السوداني قفز من معظم المحكات السابقة واستطاع تجاوز العراقيل بأقلّ خسائر، غير أن الأزمة الأخيرة لها قسمات تضعها في زاوية مركبة، ذات بعد اقتصادي واضح.

يعيش السودان حالة من الغموض بشأن مصير التظاهرات في الشارع، والنظام الحاكم في الخرطوم، ولا أحد يستطيع القطع بنجاح حركة الاحتجاجات في الإصلاح والتغيير، ولا توجد جهة تؤكد أن الرئيس عمر حسن البشير تجاوز الأزمة بالأدوات الدبلوماسية أو الخشونة الأمنية، كما أن تطويع الشارع من قبل الأحزاب والقوى السياسية تواجهه تحديات تعوق الوصول إلى تفاهمات بين الفريقين، لأن المسافة لا تزال متباعدة، وحتى الجهات النافذة في الحكم التي تريد تجاوز الأزمة ولو بالتضحية بالرئيس، لم تعد معصومة من الخلافات البينية.

جرى ترشيح السودان مبكرا ليكون من الدول التي قد تصيبها عدوى الثورات العربية، لكنه تخطى هذا المصير، ربما لأن المستفيدين من الانتفاضات ومن قفزوا عليها ينتمون إلى التيار الإسلامي، وهو التيار المهيمن على الحكم في الخرطوم منذ ثلاثة عقود.

لا يندرج هذا الحديث ضمن نظرية المؤامرة السائدة والمطاطة، غير أنه توصيف لحال من آلت إليهم بعض مقاليد الأمور في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وحاولوا جني ثمار الثورات، بتشجيع ودعم وتواطؤ من آخرين، وقصر نظر من الطبقة المدنية في هذه الدول.

انطلقت شرارة الثورات فجأة، وفي وقت لم تكن غالبية الأحزاب والقوى السياسية مهيّأة للتعامل مع المستجدّات، التي أفضت إلى انهيار بعض الأنظمة العربية، واندفعت الحشود إلى الشوارع والميادين تحت ضغط أزمات اقتصادية وتلبية حاجات سياسية معقّدة، وكان التيار الإسلامي الأكثر تنظيما وولعا، وقامت فروعه المتباينة بالسطو على السلطة ولفت الانتباه.

تؤكد مكوّنات الأزمة في السودان أنها أشد تعقيدا من المعادلات العربية السابقة، فلا نفوذ كبيرا للأطراف المدنية المسيّسة، وهناك فقر في عوامل الدفع الخارجي، كما أنّ حضور الإسلاميين في دولاب الحكم جعل الشارع السوداني بلا ظهير جاهز، أو فريق يمكن بلورة أفكاره مع التطورات المقبلة.

تحاول بعض الجهات توظيف التظاهرات في السودان لصالحها، الناجمة أساسا عن احتدام الأزمة الاقتصادية وفشل احتوائها بالليونة والخشونة، وتسعى بعض التنظيمات، فرادى وجماعات، نحو اللحاق بحركة الشارع المتسارعة، وضبط الترمومتر على مقاسها، لكن جميع الجهود التي بُذلت لم تصادف نجاحا، ما يطيل عمر المأزق الذي يواجهه النظام السوداني، ويضعف الصدى الإيجابي للتحركات التي تقوم بها قوى المعارضة.

تظل الخطوات التلقائية للشارع السوداني، تسير بخطى سريعة، لأن الحكومة لن تتمكن من تقديم حلول عاجلة تطفئ بها ظمأ الجوعى، وتمنح قطاعا منهم أملا لتجديد الثقة في الرئيس البشير، كما أن البطء الذي يطغى على رؤى المعارضة لن يمكّنها من التواجد في مقدمة الأحداث كموجه لها بعد القبض على الدفة وتحريكها في المسار الذي تريده.

تطورات عشوائية

اقرأ أيضا:

تكمن الأزمة الحقيقية في التآكل الظاهر داخل جسم النظام الحاكم، والضعف في هياكل المعارضة، التي جاءتها الفرصة تلو الأخرى منذ سنوات ولم تستطع القبض عليها، ما ساعد النظام السوداني كثيرا على الاستمرار في سدّة الحكم.

لم يملك الرئيس البشير رصيدا جيّدا على مستويات، الاقتصاد والسياسة والأمن القومي، يساهم في مواصلة مسيرته وتعديل الدستور ومواجهة التحديات ليتمكّن من إعادة الترشح لفترة جديدة بعد حوالي 18 شهرا.

نقلت الاحتجاجات الأخيرة النظام السوداني من مربع فقدان المناعة وعدم القدرة على المقاومة الصلبة إلى ما يشبه الاستسلام للمرض، الذي أفضى إلى تعدد مناطق الإصابة به، لذلك تبدو أركانه الرئيسية مهتزة حيال التعامل مع الأزمة، التي تكاد تأخذ طريقها للانفجار لو هناك قوى حية ومنظمة تناطح الرئيس البشير.

يبتعد الشارع السوداني عن انتهاز الفرصة المواتية لطيّ صفحة عمرها نحو ثلاثين عاما، لأن توقيتها تزامن مع عدم امتلاكه القائد والمرشد والكتيبة التي تضبط حركته إزاء وجهة صحيحة، بصرف النظر عن ماهيتها، وتميل التطورات الراهنة ناحية العشوائية، ما يصبّ في صالح الجيش، الذي يمثّل اليد العليا التي تملك أدوات التغيير في المنطقة.

وقد أكدت تجربة ثورة 25 يناير 2011 وثورة 30 يونيو 2013 في مصر، أن المؤسسة العسكرية الجهة الوحيدة القادرة على القبض على مؤسسات الدولة، والتشعب في ربوعها، فقد تحركت مع الثورتين، وانحازت للشارع بلافتة دعم الإرادة الشعبية. وتجاوزت سلسلة طويلة من الاستهدافات الأمنية، وحافظت على كيان الدولة، وتعتبر نفسها نجحت في سد الفراغات السياسية التي خلفتها عمليات تقليم أظافر قوى المعارضة، ما جعلها الرابح الأول في مصر، الأمر الذي افتقرت إليه تجارب سوريا واليمن وليبيا، وتلاشته تونس عندما ابتدعت صيغة للتوافق بين العسكريين والطبقة المدنية بأطيافها الواسعة، وفي القلب منها حركة النهضة الإسلامية.

درس الربيع العربي

مرّت هذه المشاهد أمام أعين النظام السوداني، وانتبه إلى أهمية تقوية المؤسسة العسكرية من دون غيرها، حتى الرديف الإسلامي المدني الذي يستند عليه الحكم جرى تقليص دوره في أركان الدولة لصالح الرديف الإسلامي العسكري، وهو درس مهم لثورات الربيع العربي.

تدور معالم الدرس حول تقوية الجيش على حساب السياسة والثقافة والإعلام وغيرها، بل وتفريغها من مقوماتها الأساسية، وربما يكون النظام السوداني قطع شوطا كبيرا في هذا الفضاء، لكنه ضاعف من خطواته عندما تيقن أن البقاء أصبح مرهونا بإضعاف الخصوم والمناوئين.

لم يخش الرئيس البشير معمعة التظاهرات التي لاحت معالمها على استحياء في بلاده مع اندلاع ثورات الربيع العربي، ثم طفت على السطح بعد سنوات قليلة، وكان على يقين من عدم بلوغ المدى الذي يجعله قلقا على عرشه. تجاهل قوى المعارضة أو منحها الفتات، وأدرك أن الأولوية لترتيب البيت من الداخل، في حزب المؤتمر الوطني والمؤسسة العسكرية والولايات الإقليمية، بالطريقة التي تضمن الاحتفاظ بالسلطة لأكبر فترة ممكنة.

اقرأ أيضا:

حاول الرئيس البشير التعاطي من الاحتجاجات بما يوحي بالثقة أو عدم الاكتراث في البداية، من باب علمه بافتقار الشارع للتنظيم، وحتى التغيير من داخل القصر سيكون خيارا اضطراريا للحفاظ على حياته الشخصية وإبعاده عن المساءلة القانونية الداخلية، والجنائية الدولية لاحقا، وسلامة النظام برمّته، الذي يعدّ الضمانة الحقيقية لأمن الرئيس ورفاقه المخلصين.

تمضي بعض المؤشرات في هذا الاتجاه، باعتباره الخيار الأكثر أمانا للقوى الفاعلة، بما فيها الرئيس السوداني، وقد تتعثر أو تتوقف، حسب السرعة التي تسير عليها وتيرة التظاهرات، لكنها في المجمل تتجاهل أن فقدان الظهير السياسي عقبة وليس ميزة نسبية.

يعاني السودان من ويلات الحروب والصراعات والنزاعات، والأزمات الاقتصادية، والمشكلات القبلية التي تنخر في أقاليمه، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، بالتالي يبدو إحكام السيطرة من جانب القوة العسكرية عملية صعبة، ما لم تكن هناك قيادات سياسية رشيدة تحظى بقبول شعبي.

يفضي تصاعد حدّة التظاهرات في ظل هذه الأوضاع إلى احتمال خروجها عن المألوف ومواجهة مصير غامض، لأن في انتفاضتي السودان، أكتوبر 1965 وأبريل 1985، كانت هناك قوى وأحزاب سياسية منظمة، لعبت دورا مهما في تحريك وتوجيه الأحداث والسيطرة عليها.

تسير التطورات الحالية في طريق مغاير تماما، لأن سيناريو التغيير من الداخل، يمكنه توفير قدر من الهدوء مؤقتا، لكنه يعني الاستجابة لنبض الجماهير التي ضجّت من الأزمة الاقتصادية وملحقاتها، وعلى من يصل إلى سدّة السلطة، بغض النظر عن اسمه ورتبته العسكرية، الاستجابة لمطالبها المعيشية في أقرب وقت، ومع عدم وجود وفرة وشحّ الإمكانيات تصبح النتيجة غامضة.

قفز النظام السوداني من معظم المحكات السابقة واستطاع تجاوز العراقيل بأقلّ خسائر، غير أن الأزمة الأخيرة لها قسمات تضعها في زاوية مركبة، ذات بعد اقتصادي واضح، لكن تحيط بها مكوّنات سياسية متشعّبة، يصعب تخطّيها بالمناورات والمسكّنات العادية.

يحتاج النظام السوداني قدرة مزدوجة تجعله يستطيع تقديم حلول للأزمات الاقتصادية التي تتصدّر الواجهة، ووعود سياسية تفتح الأفق لإصلاحات هيكلية، وهي مسألة دقيقة، لأن الشارع الذي تحرك جزء كبير منه بصورة فطرية من أنين الأزمات، قد يتعرّض لاستقطابات مختلفة تجعل المشكلة ممتدة، بما يتجاوز وجود أو غياب الرئيس البشير، ويصبح الانفراط خيارا مطروحا.

'