الأم المغامرة تنقذ طفلها حتى لو كان في السماء – مصدر24

الأم المغامرة تنقذ طفلها حتى لو كان في السماء

تحمل أجواء الحرب الكثير من الخيالات بسبب اتساعها إلى ما لا يحصى من الاحتمالات حول المصير والمستقبل وما يخبئه القدر وما يخبّئه العدو، فضلا عن اكتناز قصص المحاربين بتفاصيل وإشراقات إضافية، لكن سينما الحرب ليست هي قصة متحاربين فحسب بل إن هنالك نوعا من الأفلام التي تتسم بإدخال عنصر الخيال والخيال العلمي بقوة كما في فيلم “ظل في الغيم” للمخرجة روزيان لينج.

لقد اعتدنا على مشاهدة البطولات الفردية في الحروب التي تنحاز غالبا إلى طرف ضد الطرف الآخر، ومن ذلك وقائع الحرب العالمية الثانية، التي شاهدنا حولها العشرات من الأفلام التي عالجت جوانب متعددة بقي خلالها قطبا الصراع: النازيون في مقابل الحلفاء هما موضوع وثيمة تلك الأفلام، مع هوامش لقضايا إنسانية ووقائع مخفية.

ومهما ابتعد المخرجون وكتّاب السيناريو عن جوهر قضية الصراع فإن الجانب الوثائقي بقي مؤثرا بسبب طبيعة الحرب في حد ذاتها وارتباطها بزمان ومكان وشخصيات كلهم كانوا موجودين في الواقع.

لكننا في الآونة الأخيرة صرنا نشاهد تجارب سينمائية ملفتة للنظر تجري على خلفية الحرب العالمية الثانية، ولكنها تدخل في إطار الفانتازيا والخيال العلمي، بل والإسراف في الخيال، بما يجعل الجمهور الذي تشبّع بقصص أفلام الحرب العالمية الثانية منجذبا لنوع جديد من الأفلام، ومن ذلك هذه الأفلام الثلاثة الحديثة وهي فيلم “أشباح الحرب” للمخرج إيريك بريس، وفيلم “القاعدة الأمامية” للمخرج رود لوري، وفيلم “ظل في الغيم” للمخرجة الصينية – النيوزيلاندية روزيان ليانج الذي يضيف لأفلام الحرب العالمية الثانية معالجة قائمة على الاختلاف عما هو سائد.

مشهدية حوارية

في المشاهد الأولى وفي قاعدة عسكرية للطائرات ووسط الضباب والمطر سوف تظهر الضابطة ماود غاريت (الممثلة كلوي مورتيز) وهي تدخل مباشرة في أول طائرة عسكرية حاملة معها ترخيصا بكونها في مهمة رسمية بالغة السرية ضمن طيران الحلفاء، وأنها تحمل حقيبة فيها شيء سري يجب نقله إلى الضفة الأخرى من الأطلسي.

تجد ماود نفسها في وسط جوقة من الضباط والجنود الذين سرعان ما يسخرون منها ومن مجرد فكرة وجود امرأة تحمل رتبة عسكرية أو محاربة، ولهذا يتم حشرها في قمرة مغلقة، لكنها خلال ذلك تسمع بواسطة البث الداخلي حوارات طاقم الطائرة عنها.

المعالجة السينمائية أخرجت الفيلم من دائرة الفيلم الحربي التقليدي كما أنه لم يغرق في ما هو فانتازي وخيالي

بالطبع سوف يلفت النظر أننا سوف نستغرق مساحة وساعة من الفيلم في حوارات تعج بالتحرشات والكلمات السوقية التي يلقيها الجميع ضد ماود، لكن ما يهمها هو الحقيبة التي طالما سألت عنها، وقد كانت في حماية العريف والتر كواد (الممثل تيلور سميث) وإلى حد هذه البداية لا نزال نجهل ما تحتويه تلك الحقيبة المهمة.

واقعيا هنالك مساحة من الحوار تتسع وتتحول تارة إلى جدال شرس وتارة تجنح إلى الهدوء في أجواء تقترب من الحوارات الإذاعية والمسرحية التي تتبادلها ماود مع طاقم الطائرة وهي في قمرتها، وقد فشلت في فتح الأقفال التي تحطمت بيديها، ولهذا ليس أمامها سوى البقاء أسيرة تلك الحجرة المغلقة.

يعج الفيلم بالحوارات بين الجنود ويكشف عن فريق تسيطر عليه اللامبالاة ويتعامل بخفة دم وميل إلى النكات والسخرية بشكل ملفت للنظر، بينما هنالك ماود التي عليها إثبات نفسها بعد كم من الشكوك التي بدأت تنتاب الطاقم تجاهها.

هذه المعالجة السينمائية للأحداث بدت وكأنها تنبئ بالقصة السينمائية عن مواجهات الحرب، وعلينا أن نكتفي بتلك الحوارات التي هي أقرب إلى السجالات بين الطرفين.

على أن براعة ماود سوف تدفعها إلى التأكيد لفريق الطائرة أن هنالك شبح طائرات ربما تكون يابانية في وسط الغيم تقوم بالرصد الجوي وتحذر من احتمالات ضربة قادمة، لكن تحذيراتها تذهب أدراج الرياح ووسط السخرية.

لنمضي في تلك الرحلة التي لا تنقطع فيها حوارات الجنود وثرثرتهم بينما تقبع ماود في قمرتها وهي تقاوم البرد القادم إليها من فجوة ما، مشهدية – حوارية رسخت مدخلا مناسبا لما هو آت من بث للحبكات الثانوية التي سوف تقلب الرتابة التي كنا قد تقبلناها في البداية.

قتال فوق الغيوم

حرب تقع فوق الغيوم
حرب تقع فوق الغيوم

أن تكون هنالك كائنات متوحشة وهجينية وشديدة الشراسة وهي تحلق في أعالي السماء، تلك هي الفرضية الأقرب إلى الخيال الذي سوف يتم التحليق فيه، وتتحول تلك الكائنات المتوحشة إلى عدو جوي شرس، ومهما حاولت ماود إقناع طاقم الطائرة عبر الهاتف الداخلي بحقيقة الكارثة إلا أنها لا تلقى أي استجابة ولا اهتماما، بل إن هنالك من يتهمها بالكذب والتلفيق.

عند نقطة التحول هذه سوف يزداد الضغط على ماود بوصفها سببا في الشر الذي تمثل بوجود كائن وحشي بالتزامن مع تكهنات أفراد الطاقم، ماود تكون قد زورت في الأوراق وهي ليست في مهمة رسمية، بل في مهمة لإنقاذ طفلها الذي خبأته في الحقيبة بعد مغامرة توزعت بين الحب والإحباط والعجز وعدم الوفاء، بين زوج سابق وحبيب لا تريد أن تخبره بحملها، ولهذا تقرر الفرار تحت جنح الحرب من بلاد إلى بلاد.

وتتكاثف في هذه الدراما تلك النزعة الإنسانية العميقة التي تدفع ماود إلى مغامرات مميتة فهي تنظر إلى الأمر على أنه لا يتعدى إنقاذ ذلك الكائن، ولهذا تنجح المخرجة في بث الحبكات الثانوية لكي نخرج من دوامة الحوار المجرد إلى تحولات جذرية أساسية تتعلق بالمغامرة في حد ذاتها.

وإذا نظرنا إلى الفيلم على أنه ينتمي لسينما الرعب والحرب والإثارة، كما تم تصنيفه في العديد من المواقع، إلا أنه أيضا فيلم خيال علمي مفرط وفيلم مغامرات، ومن هنا يمكننا تفسير وجود تلك الكائنات القادرة على الطيران وفي الوقت نفسه تخريب أجزاء من الطائرة الحربية تباعا.

على أن تلك التحولات الدرامية التي خبرناها في ظل احتجاز ماود والعجز عن إخراجها سوف تفجرها طلقة واحدة توقظ الجميع فهي إذ تطلق طلقة واحدة على ذلك الكائن المتوحش، فإنها في المقابل تدافع عن نفسها، وهذا يطرح كيفية دخولها إلى الطائرة من دون تصريحها بأنها مسلحة.

صورة

ومنذ تلك الرصاصة سوف تتكامل العديد من الخطوط الدرامية التي ترتبط بالشخصيات مجتمعة، والتي تصبح الشكوك محيطة بها من كل جانب فمن جهة تصارع ماود الوحش، ومن جهة أخرى تخبر الطاقم بحقيقة اقتراب الطائرات اليابانية لغرض بدء معركة جوية.

ولا شك أن هذه الأجواء الدرامية برعت المخرجة في توجيهها بشكل سلس إلى نهاياتها ولكن من دون أن نستطيع الحدس بالكيفية التي سوف تتطور فيها المواجهة بين الطرفين المتصارعين.

من هنا يمكننا فهم الأسلوب الذي استخدمته المخرجة من خلال مقاربة إشكالية الحرب فهي هنا تنقلنا إلى حرب تقع فوق الغيم، في المجهول المكاني، وهي حرب مباغتة يجد الطاقم نفسه في دوامتها ومن دون أن يتمكن من الخروج منها بسهولة.

الطائرات اليابانية تقترب وتبدأ فورا بعمليات القصف ومطاردة طائرة الحلفاء، عندها فقط سوف يذعن الجميع إلى ما حذرت منه ماود بأنهم قادمون، ولتمضي المواجهة بشكل قاس ومتكرر ومع تساقط الضحايا تباعا فيما تساهم ماود بدورها وبطريقة ما في الدفاع عن الطائرة بالوصول إلى مفتاح الرمي المباشر ولتخوض جانبا من المعركة الجوية.

التشويق والنجاة

صورة

تلعب المخرجة ببراعة على مشاهد حبس الأنفاس والمفاجآت المتتالية فطائرة الحلفاء سوف تتعرض إلى إصابات مباشرة تؤدي إلى توقف أحد محركاتها ومقتل عدد من الملاحقين، ولكن ماود سوف تصدم بأن طفلها وهو في داخل الحقيبة قد أصبح في مهب الريح، لتثبت مرة أخرى كونها تخوض صراعا شرسا، فهي قادرة على المغامرة، فبعد تأكدها من عدم بقاء طفلها في الطائرة وإصابة من كان يحمي الحقيبة التي يختبئ فيها الطفل تقرر أن تتسلق جسم الطائرة من الخارج وسط درجة حرارة انجمادية لتتمكن من استعادة الحقيبة التي ينام فيها الطفل.

لا شك أن هذه المشاهد الأخيرة كانت من أكثر ما في الفيلم من عناصر التشويق وقطع الأنفاس فضلا عن دقة استخدام عناصر الصورة والمونتاج والخدع السينمائية التي من خلالها خاضت ماود مغامرة مخيفة وفريدة من نوعها من أجل إنقاذ طفلها، وهنا يمكننا رسم المسار الغرائبي والخيالي للأحداث سواء لجهة بقاء تلك الكائنات الوحشية تفتك بالجميع بعدما استطاعت أن تنفذ إلى جوف الطائرة، أو لجهة المغامرة التي خاضتها ماود، وهما من دون شك محوران دراميان تم توظيفهما بعناية وبراعة مما أعطى لدورها أهمية استثنائية.

أما إذا انتقلنا إلى أدوار الآخرين فقد نجحت ماود في مواكبتهم وأن تصبح ندا لهم، فقد بدأت أدوارهم تتضاءل بالتدريج حتى لم يبق من بينهم سوى الطيار النيوزيلندي وجنديين آخرين وهي بينهم، فكيف يمكنهم التخلص من المأزق الذي هم فيه مع استمرار القصف الياباني؟

ما لم يكن يتوقعه طاقم الطائرة أن تصبح تلك الفتاة سببا في إنقاذهم من هلاك محقق، لاسيما وأن الكثيرين قد ماتوا بسبب ما واجهوه من أهوال وإصابات مباشرة، لكن التحول الدرامي هو في كيفية النجاة مع وضع كهذا وتهشم أغلب أجزاء الطائرة.

فيلم غير تقليدي

لا شك أننا على صعيد الحبكة الدرامية الرئيسية والحبكات الثانوية نكون قد وصلنا إلى قناعة أن ماود هي التي كانت تحرك كل ذلك، ومن الصعب انتزاع النصر أو في الأقل الخلاص والنجاة من دونها، إلى درجة أنها ترشد من تبقوا على قيد الحياة إلى كيفية الهبوط تحاشيا لارتطام الطائرة على الأرض وبالتالي هلاك الجميع، وهو ما يقع بالفعل ويكون سببا في نجاة الأربعة ومعهم الطفل.

وإذا توغلنا أكثر في ثيمة الفيلم الحربي في موازاة ثيمة الخيال العلمي المختلط بالرعب، فإننا نجد أن هذا النوع من المعالجة السينمائية قد أخرج الفيلم من دائرة الفيلم الحربي التقليدي كما أنه لم يغرق الفيلم في ما هو فانتازي وخيالي وإنما استطاع أن يوجد توازنا موضوعيا بين الحالتين.

الثيمة المرتبطة بالخيال والرعب اقتصرت على حيز مكاني واحد ساعة كانت ماود محتجزة في تلك المقصورة لوحدها وهي تواجه مصيرها في وسط سخرية الآخرين منها، وهي خلال ذلك انتزعت لنفسها مهمة تجاوزت أفكار الآخرين ومساحة تطلعاتهم وحتى كيفية الخروج من المأزق إذا ما وقعوا فيه لم يكن في حسبانهم سوى العودة من حيث جاؤوا. ومن جهة أخرى كان هنالك الحس الإنساني العميق المرتبط بإنقاذ الطفل، وهو هنا تكريس لموقع وأهمية الضحية سواء الأم أو ابنها في وسط دوامة حربية طاحنة قادرة على انتزاع الطفل من حضن أمه من دون هوادة، ولكن ماود تكون قد لقنت الآخرين دروسا من خلال شخصيتها القوية وقدرتها على اتخاذ القرار ولو كان خطيرا واستثنائيا.

والحاصل أننا أمام نوع فيلمي متميز باختلافه ونمطيته ومتجاوز لنوع الفيلم الحربي التقليدي واستطاع أن يجعل ثيمة الحرب خلفية مناسبة لنسج ثيمة الخيال العلمي.

'