الإنترنت أنقذت المثقف العربي – مصدر24

الإنترنت أنقذت المثقف العربي

يعاني الكثير من الكتاب المستقلين في العالم العربي من التهميش نظرا إلى كونهم خارج الشللية وأغلبهم لا ينتمي للسلطة، ما ينعكس على نشر أعمالهم وتواجدهم في منصات التتويج بالجوائز وغيرها من مظاهر الحصار الثقافي. “العرب” التقت في هذا الحوار الكاتب المصري عبدالنبي فرج، في حديث حول هذه الظاهرة وحول تقاطعات الأدب والسياسة في تجربته وغيرها من القضايا.

عبدالنبي فرج روائي وقاص مصري مختلف، اتخذ استقلاليته وعزلته وإخلاصه للقلم وقودا ليحفر في الصخر وحده عبر أكثر من ثلاثين عاما، منجزا موجات متلاحقة من الكتابات السردية المتفجرة، التي تجسّد تمرّد المبدع وجرأته واقتحامه حقول ألغام شائكة.

تبدو الكتابة بطبيعتها عصية وتحتاج إلى جهد استثنائي لمن أراد أن تكون له بصمة خاصة، ويرى فرج في حواره مع “العرب” أن ميراث الكتابة ثقيل ويغري بالتقليد، وهناك عدد كبير من الشعراء وكتّاب الرواية والقصة، لكن هناك ندرة في الكتابة الخاصة، تلك التي هي رحلة ملغومة تنشد الحرية.

مساحات لالتقاء الأدبي والسياسي تحت مظلة لغة واحدة
مساحات لالتقاء الأدبي والسياسي تحت مظلة لغة واحدة

الكاتب الحر

أخلص فرج للكتابة السردية طوال ثلاثين عاما، لم يحصل خلالها على جائزة ولم يستفد من مشروع قومي في مصر مثل “القراءة للجميع” الذي كان عبارة عن باب لتدجين المثقفين، ولم يحصل على منحة للتفرغ، ورغم مرتزقة الثقافة تمكن من نشر كتبه في الوطن العربي، معتمدا على أهمية النص نفسه، مؤكدا أن الكاتب المستقل يتم التنكيل به من خلال طريقة معتمدة هي الحذف والتهميش، لذلك يشحب صوته كقوة فاعلة.

ويقول “هذا ما تقوم به صحيفة مصرية متخصصة في الأدب، والصفحات الثقافية في الصحف الرسمية، ويتم تعظيم أدوارها في الثقافة والإبداع”.

ويشير إلى أن المثقف بطبيعته ضد السلطة، حتى لو كانت رشيدة، قائلا “هذه عقيدة لديّ، وأعتقد أنها عقيدة كل كاتب حر، أكتب منطلقا من قناعاتي، ودائما أجدني ضد المؤسسات السياسية والثقافية وضد ممارسات الاستحواذ على السلطة والثروة لصالح طبقات ثرية وذات نفوذ، وحظ جيلي السيء أنه ظهر في فترة تولى فيها الصغار وعديمو الموهبة والضمير مسؤولية الثقافة في مصر، بعد أن كانت في أيدي كبار، ممن كانت لديهم أريحية لقبول الكاتب المستقل، بل الاحتفاء به ودعمه، لكن الآن صار دورهم التنكيل وحذف الكاتب الحر كأنه غير موجود”.

وشهدت الفترة الوجيزة الماضية انتعاشة في إصدارات فرج (55 عاما) بين نشر روايات جديدة مثل “زواحف سامة” عن دار خطوط وظلال الأردنية وإعادة طبع أعماله السابقة وإتاحتها للقرّاء في داخل مصر وخارجها على نحو أكثر اتساعا، وهي في مجملها أعمال مشاكسة تعكس رؤية خاصة إزاء أزمات الواقع وقضاياه الساخنة وتشتبك بضراوة مع المتغيرات المجتمعية في القرى والمدن خلال العقود الأخيرة.

فوق ذلك، فإن أعماله بالضرورة تمثل مساحات مشتعلة لالتقاء الأدبي والسياسي تحت مظلة لغة واحدة، من أبرزها: روايات “سجن مفتوح” و”طفولة ضائعة” و”ريح فبراير” و”مزرعة الجنرالات” و”الحروب الأخيرة للعبيد”، والمجموعات القصصية: “جسد في ظل”، و”بار مزدحم بالحمقى”، و”يد بيضاء مشعة” وغيرها.

عقيدة الشجاعة

عبدالنبي فرج: الكثير من دور النشر الخاصة تشبه أجهزة الأمن وتسهم في الترويج لكتابات كلاسيكية ومكرورة معدومة القيمة
عبدالنبي فرج: الكثير من دور النشر الخاصة تشبه أجهزة الأمن وتسهم في الترويج لكتابات كلاسيكية ومكرورة معدومة القيمة

تأثر فرج بعبارة فرجينيا وولف “على الكاتب اصطناع الوسائل التي تتيح له الحرية ليقرر ما يراه مناسبا، وأن يتحلى بالشجاعة لقول إن ما يهمه ليس هذا بل ذاك”.

وتحولت هذه العباره لديه إلى عقيدة، مع معرفته أن من يؤمن بالشجاعة والحرية بحق سيكون في محنة حقيقية “لقد حوّل الوشاة والسماسرة حياة الكاتب المستقل إلى جحيم، بالعزلة والتهميش، فمن يقود هؤلاء في ظل لامبالاة بالمثقف؟ إنه المثقف المدجن التابع، الذي يجري تسمينه ليقوم بدور الشرطي والمخبر والجاسوس والسجان”.

ويؤكد الأديب المصري أن “انحياز الأدباء المستقلين للحرية يعري مواقف هؤلاء الفاشست المخزية، الدموية، ويعري دورهم الإجرامي في الانقلاب على الديمقراطية الثقافية والحرية لصالح الدكتاتورية القمعية، ثم بعد ذلك بلا حياء يتكلمون ويكتبون عن الحرية ويستدعون الآباء المؤسسين للتنوير ويزخرفون بهم كتاباتهم العقيمة، فأي خديعة نعيش؟ وكيف لشاعر يؤيد الدكتاتورية والسلطة الثقافية المتحكمة أن تأتي له الجرأة للحديث عن جان جاك روسو ومنتسيكو وفولتير وجون لوك؟”.

وفي هذا الفلك، دارت روايته “مزرعة الجنرالات”، وهي استبطان للواقع المشوه، حيث العزلة والعنف والأساطير، والفانتازيا، الإيروتيكيّة، من خلال مناخ حلمي، والبطولة فيها للثنائي المجرمين الجنرال والشيخ اللذين جرفا البلاد من أي قوة حية.

الكاتب يرى أن الثورة الرقمية والنشر الإلكتروني ومواقع الإنترنت قد سمحت بتلاقي قوة حية من كل البلاد العربية، خارج كل سلطة

وفي روايته “سجن مفتوح” يتناول أزمة المبدع العربي، والمصري على وجه الخصوص، من خلال قاصّ يحاول أن ينشر كتاباته لكنه يفشل بسبب المافيات التي تحكم المشهد وعصابات وزارة الثقافة وموظفيها والنقاد المرتزقين والإعلام الثقافي ومجموعة الثعالب الصغيرة التي لولا وجودهم في هذه الأمكنة والمنابر ما كان لهم حضور أدبي من أي نوع، لكنها الدكتاتورية التي تصنع كتابا أمنجية ليحاربوا أي صوت مستقل، إلى جانب الدور المشبوه لمؤسسات النشر المرتبطة بكل هؤلاء لتقوم بعمل دعاية لهم مقابل الحصول على دعم مادي من وزارة الثقافة.

ويلفت فرج إلى أن الكثير من دور النشر الخاصة تمثل امتدادا لأجهزة الأمن وتسهم في الترويج لكتابات كلاسيكية ومكرورة معدومة القيمة، وفي مثل هذه الأجواء المحبطة “جرت صناعة مشهد غاية في البؤس لصالح الأكثر تدجينا، لكن تظل القوة الحقيقية لمصر المحروسة مقرونة بهؤلاء المهمشين في كل المجالات”.

أما رواية “زواحف سامة” فهي تدور في الريف وتتخذ من القرية وعالمها الأسطوري مصدرا رئيسيّا للسرد، حيث العزلة والعنف والظلمة والمشاعر الإنسانية المعقدة، والرغبات والأحلام والطموحات الفردية التي تصطدم بواقع أليم فتؤدي بالشخوص للاغتراب والتوحد مع الطبيعة، حيث “تظل العزلة خيارا جوهريّا للهرب من قسوة الواقع”.

انحياز إلى الحرية
انحياز إلى الحرية

طوق إنقاذ

وسط هذه المآزق التي تحاصر المثقف المصري والعربي، فإن شبكة الإنترنت أسهمت بقوة في إنقاذ المثقف الحر من الضياع، فهي نافذة للإطلال على قارئ عام لا علاقة له بالجيتوهات الإقليمية الرديئة ولا المافيات العربية صنيعة الأنظمة العربية المتخلفة.

ويوضح فرج أن هذه الثورة الرقمية والنشر الإلكتروني ومواقع الإنترنت قد سمحت بتلاقي قوة حية من كل البلاد العربية، خارج كل سلطة، قائلا  “اعتمادنا الأساسي على قوة النص، تلك التي أتاحت لي نشر كتبي في الدول العربية، بخاصة العراق، الذي تتكون به منذ فترة طويلة طبقة قراء وكتابة غاية في الجدية والمثابرة”.

ويضيف مستدركا “لكن هذا الأمر أتاح للعصابات التي تسيطر على الأرض الانتقال أيضا إلى الإنترنت. وبالنسبة إلى الرواية العربية عموما، يظل المشهد مشوها لأنه صناعة أذرع الأمن، وقد كان الأمن في فترة الستينات من القرن الماضي يقوم بصناعة الكاتب بقدر من الذكاء، فلا يكشف رجاله، والآن تتم تعريتهم وفرض التعاون المعلن مع بعضهم”.

ويرى أن الجوائز الإبداعية العربية تمثل وجها واضحا كذلك لهذه التكتلات والعصابات، وفي مصر فإنها “انتهت إلى مجموعة من الشلل الثقافية الصغيرة، ويتم توزيعها بحسب قوة الدور الذي تلعبه لصالح تزييف الوعي”.

'