الجولاني يعترف وتركيا تقر: لا نمثل تهديدا لواشنطن وحلفائها – مصدر24

الجولاني يعترف وتركيا تقر: لا نمثل تهديدا لواشنطن وحلفائها

القاهرة – كشف التزامن بين الرسائل الموجهة مؤخرا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأبومحمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام إلى واشنطن وعواصم أوروبية عدة عن خطط لخلق فرص إعادة تموضع أنقرة في الأزمة السورية عبر طرح مشروع سلام يمكنها من استثمار الغرب في المناطق الآمنة بالشمال السوري.

لم ينفك حديث زعيم هيئة تحرير الشام في سوريا أبومحمد الجولاني الأخير بشأن عدم تهديد حركته للولايات المتحدة وأوروبا عن مضمون رسائل الرئيس التركي التي يحث خلالها الولايات المتحدة وأوروبا على التعاون، كمنطلق لتحقيق أهدافه المعطلة في الشمال السوري وإزاحة ما يعيق التوفيق بين نظامه وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.

الجولاني الذي يرغب في تقديم نفسه بمظهر عصري محاولا إزالة صورته النمطية كقيادي لتنظيم متطرف من أذهان الغرب وتقديم نفسه كلاعب سياسي معتدل، أكد خلال الحوار الذي أجرته معه صحيفة “فرونت لاين” الأميركية أن تنظيمه “لا يشكل أي تهديد أمني أو اقتصادي للولايات المتحدة والدول الغربية”، طارحا جملة تصورات ضمن محاولاته المتكررة لتبديد مخاوف الغرب من أهداف حركته وأفكارها وارتباطاتها.

استدارة تركية

ورقة يتم تحريكها على أكثر من صعيد
ورقة يتم تحريكها على أكثر من صعيد

استند الحوار المنشور على الشبكة الأميركية وجرى تضمينه بوثائقي عنوانه “داخل سوريا الأسد” على مقابلة جمعت بين الجولاني والصحافي الأميركي مارتن سميث في إدلب عبر تركيا في فبراير الماضي، لكنها نشرت قبل أيام، وفيه طرح الجولاني نفسه بصفته لاعبا محليا معتدلا.

وزعم الجولاني استحقاقه أن يكون طرفا في التسوية السياسية النهائية بسوريا وأن يُرفع اسم تنظيمه من قوائم الإرهاب الدولية، بالنظر إلى التحولات التي يجريها على مستوى الشكل والمضمون من خلال التغييرات التكتيكية التي تهدف للترويج للهيئة بوصفها كيانا سياسيا معارضا لحكومة دمشق، لا بوصفها فصيلا جهاديا متشددا معاديا للغرب.

تزامن هذا التوجه مع تحركات تركية تحاول إعادة التموضع اصطفافا مع الولايات المتحدة والدول الغربية في الأزمة السورية، على خلفية شعور أردوغان بأن فشله في الوفاء بالتزاماته في الشمال السوري، وتحديدا في إدلب، من شأنه دفع روسيا بالتعاون مع الحكومة السورية إلى الانطلاق بقوة لتغيير المعادلات القائمة هناك على حساب المصالح التركية.

وسبقت مطالبات الجولاني من واشنطن مراجعة مواقفها من حركته، مناشدات أطلقها الرئيس التركي لنظيره الأميركي والرؤساء الأوروبيين عبر مقال له نشرته “بلومبرغ” في منتصف مارس الماضي، عارضا على بايدن التعاون في الملف السوري لكبح روسيا وتصفية الحسابات معها، مشددا على أن السلام في سوريا يعتمد على الدعم الغربي القوي، على أمل تحقيق خططه الخاصة بإنشاء منطقة آمنة وإعاقة روسيا في إدلب.

الجولاني زعم استحقاقه أن يكون طرفا في التسوية بسوريا وأن يُرفع تنظيمه من قوائم الإرهاب بالنظر إلى التحولات التي يعرفها

وسعي هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية منذ العام 2013 لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الغربية مرتبط بالترويج للاستدارة التركية باتجاه الغرب لتثبيت مكاسب أنقرة وتعظيمها في الشمال السوري، وبمساعيها بشأن إذابة الخلاف مع إدارة بايدن المتعلق بالممارسات ضد المكون الكردي.

وتحرص أنقرة على وضع حد للتلويح بورقة هيئة تحرير الشام باعتبارها جزءا من القوى التابعة والموالية لتركيا بسوريا من خلال الإصرار من قبل الولايات المتحدة على إبقائها كمنظمة إرهابية، كأداة لإجبار تركيا في المقابل على قبول الحوار مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني المسيطر على شمال شرقي سوريا وتصنفه أنقرة إرهابيا كفرع لحزب العمال الكردستاني.

وينطوي طرح أنقرة لصيغة تعاون وتنسيق مع واشنطن والعواصم الأوروبية متضمنة احتواء وقبول هيئة تحرير الشام وهو ما وضح من مطالبة أردوغان الغرب بدعم المعارضة السورية الشرعية واتخاذ موقف واضح من وحدات حماية الشعب الكردية، على مخطط تركي لإزاحة الأكراد من المعادلة بحيث لا تُستخدم هيئة الجولاني كأداة للمقايضة في سبيل الضغط على أنقرة للاعتراف بوحدات حماية الشعب والحوار معها.

عرض الرئيس التركي صيغة تعاون مع الولايات المتحدة ودول أوروبا بالملف السوري لم يجبره على تغيير تكتيكاته التي استخدمها أثناء تعاونه مع موسكو منذ العام 2016، حيث يريد المُضي في شن عمليات عسكرية على الأكراد، مقابل تثبيت نفوذ حلفائه الجهاديين.واقتضى هذا التحول إقناع الأتراك للقوى الغربية بحلول سياسية لمعضلة الجهاديين وهيئة تحرير الشام في إدلب عبر الترويج للأخيرة بوصفها قادرة على فرض الاستقرار وتثبيت وقف إطلاق النار واحتواء وتحجيم الفصائل المسلحة الأخرى.

ترغيب وترهيب

منحت أنقرة قادة هيئة تحرير الشام الضوء الأخضر لإبداء العديد من التغييرات في الشكل ومضمون التوجهات، بهدف كسب أطراف وجهات دولية تتبنى التطبيع مع الهيئة ورفعها من قوائم الإرهاب، كي لا تُتهم تركيا إذا قامت بذلك بشكل أحادي بدعم الجهاديين وغسل سمعتهم.

وتحقق هذا جزئيا بالنظر إلى التوصية التي قدمتها مجموعة الأزمات الدولية لإدارة الرئيس بايدن بفتح المجال أمام هيئة تحرير الشام للعب دور جديد يتناسب مع مرحلة مختلفة، معتبرة أن إدلب إحدى الفرص لإعادة تحديد إستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب بمعزل عن سياسة واشنطن الخارجية السابقة المفرطة في العسكرة.

ووظفت أنقرة ومن خلفها الهيئة الرغبة الغربية في الحفاظ على الهدوء الهش في الشمال السوري، وحرص الإدارة الأميركية برئاسة بايدن على بناء إستراتيجية سياسية جديدة خاصة بسوريا، بهدف الدفع باتجاه التعاون مع أنقرة لوضع نهج جديد لمكافحة الإرهاب يعطي وزنا للأدوات الناعمة والدبلوماسية بديلة عن الأدوات العسكرية.

وإبداء هيئة تحرير الشام التي كانت يوما كيانا تابعا للقاعدة استعدادها للتخلي عن أجندة الجهاد العالمي العابر للحدود وشن الهجمات على المدنيين وتقديم الجولاني والقادة المقربين منه كأشخاص مختلفين عن زعماء الجماعات الإرهابية التقليديين فضلا عن الاستعداد لتحسين العلاقات مع حليف رئيسي في الناتو، جميعها عروض منسقة يجري تقديمها للأميركيين والأوروبيين من خلال ورقة الترغيب في التقليل من أخطار اندلاع أعمال عنف في شمال غرب سوريا.

وتراهن أنقرة فضلا عن الأصوات الغربية المؤيدة لهذا التوجه على أن إتمام توافق من هذا النوع بين الولايات المتحدة وتركيا والشركاء الأوروبيين من شأنه أن يكون بوابة لفتح حوار مع موسكو عبر امتلاك مفاتيح وقف التصعيد العسكري والحد من الهواجس الروسية بخصوص الهجمات المنطلقة من إدلب مستهدفة قاعدتها العسكرية في غرب سوريا أو المناطق التي تهيمن عليها الحكومة السورية.

وتلوح تركيا بورقة الترهيب حيث تعي جيدا أن إلحاق هزيمة عسكرية شاملة ونهائية بهيئة تحرير الشام من قبل موسكو وحكومة دمشق لن يتحقق دون وقوع خسائر هائلة على المستوى الإنساني والتسبب في انفجار قنبلة ضخمة من اللاجئين باتجاه دول أوروبا.

لذلك صحبت عروض الترغيب من قبل أنقرة وهيئة تحرير الشام لهجة تهديد بموجات من اللاجئين الجدد إلى أوروبا، في حال ظل الموقف الأميركي والأوروبي من الهيئة كما هو وأصر الطرفان على تحميل تركيا وحدها تبعات الفشل في الملف السوري.

توازنات ومعوقات

 

عرض أردوغان للتعاون مع واشنطن في سوريا لم يجبره على تغيير تكتيكات استخدمها أثناء تعاونه مع موسكو، إذ يريد المضي في شن عملياته ضد الأكراد مقابل تثبيت نفوذ الجهاديين
عرض أردوغان للتعاون مع واشنطن في سوريا لم يجبره على تغيير تكتيكات استخدمها أثناء تعاونه مع موسكو، إذ يريد المضي في شن عملياته ضد الأكراد مقابل تثبيت نفوذ الجهاديين

 

تسعى قيادة هيئة تحرير الشام من خلال هذه التحركات لتشكيل هوية جديدة للحركة تضعها في قلب المعادلات السياسية المستقبلية بوصفها حركة معارضة وفصيل تحرر وطني يحارب الاحتلالين الإيراني والروسي، علاوة على نيل رضا الولايات المتحدة والقوى الغربية من منطلق تخليها عن عقيدة الجهاد العابر للحدود ومعاداة الغرب وتعاونها في مجهودات تقويض الفصائل التي لا تزال تعتنق تلك الأفكار.

واستخدمت الهيئة القوة العسكرية ضد الفصائل المتشددة التي لم تتفق مع رؤيتها، مقابل تلميع صورتها عبر جملة من التكتيكات التي يؤديها قادتها سواء المتعلقة بالتغييرات الشكلية عبر استبدال ثياب الحرب وغطاء الرأس الذي يستخدمه قادة الجماعات بالبدلات الغربية والانفتاح على الظهور بوسائل إعلام وصحف غربية وتكرار التقاط الصور في الشوارع وبالأسواق، ما يعكس الرغبة في الهروب من التاريخ الإرهابي للتنظيم للحصول على شرعية بالدخول في مسارات شبيهة بتلك التي خاضتها حركة طالبان الأفغانية.

ولم ترقَ محاولات هيئة تحرير الشام المتكررة لتحقيق ردود أفعال إيجابية خاصة في ما يتعلق بالقبول الدولي بها، على الرغم من التغييرات الشكلية والتنظيمية التي أجرتها وإبدائها الالتزام بالاتفاقيات الدولية المبرمة بين روسيا وتركيا بشأن إدلب وعدم التورط في أي تمرد من شأنه التأثير في التوازنات الدولية.

ووجدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن التغييرات التي أجرتها الهيئة في مواقفها تندرج ضمن المناورات التكتيكية والخدع الشكلية دون الولوج في صميم الإشكاليات والمراجعات الفكرية والعقدية المتصلة بأيديولوجيا الحركة، فضلا عن أن ما تروج له بشأن مستوى سيطرتها ونفوذها كرقم صعب في معادلة الشمال السوري يظل مشكوكا في دقته.

وأدى عدم مقدرة الهيئة على إحراز انتصارات نوعية في مواجهة الميليشيات الإيرانية والنظام السوري، والدخول في مواءمات يعتبرها المتشددون داخل الهيئة من قبيل تقديم التنازلات على حساب الدين والعقيدة، إلى تزايد حركة الانشقاقات وعلو نبرة المنتقدين لمواقف الجولاني وقادة الهيئة، وفي مقدمتهم المفتي الشرعي والقائد العسكري البارز في الهيئة أبوالفتح الفرغلي (يحيى بن طاهر الفرغلي) الذي وصل إلى مستوى غير مسبوق في انتقاد الهيئة وقادتها على قناته على تليغرام.

ويستغل تنظيم داعش والفرع المنشق الممثل للقاعدة المركزية في سوريا حركة الانشقاقات عن هيئة تحرير الشام لصالحهما عبر الترويج لسياقات أكثر تشبثا بالأصول وبمنطلقات المشاريع الجهادية كفصائل متصدية للغرب الاستعماري وبوصفها الأكثر ثباتا على تعاليم العقيدة.

أنقرة ومن خلفها هيئة تحرير الشام توظف الرغبة الغربية في الحفاظ على الهدوء الهش في الشمال السوري، وحرص بايدن على بناء إستراتيجية سياسية جديدة خاصة بسوريا

وما يروج له قادة الهيئة من خلال صحف ووسائل إعلام غربية بشأن ميلها صوب الاعتدال واحترام حقوق الإنسان يدحضه الواقع الذي تنقله حسابات المعارضة للهيئة بإدلب على وسائل التواصل وحتى الحسابات الموالية للهيئة التي بثت مؤخرا مقطع فيديو تحت عنوان “أشبال هيئة تحرير الشام” لمجموعة أطفال يدربهم عناصر بالهيئة على استخدام السلاح، وهو ما جعلها لا تختلف كثيرا عن داعش الذي اعتمد سياسة تجنيد الأطفال والزج بهم في معاركه مطلقا عليهم وصف “أشبال الخلافة”.

وبدت الدعوات الشعبية داخل إدلب للتمرد ضد سلطة الجولاني بسبب الفساد وسوء الإدارة فضلا عن أصوات المضطهدين والملاحقين من معارضي الهيئة أعلى في صداها وتأثيرها من محاولات الجولاني تلميع نفسه وجماعته بالصحف الغربية.

وتغفل العروض التركية الأخيرة بشأن دعوات التنسيق والتقارب مع الولايات المتحدة ودول الغرب في الملف السوري موقف روسيا الرافض لخطط إنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية، ومستبعد أن تتجاوب إدارة بايدن مع رغبة أردوغان بشأن تخلي واشنطن عن وحدات حماية الشعب الكردية.

وفي ظل إصرار الإدارة الأميركية على مواصلة دعم الأكراد وعدم الاقتناع بالإجراءات الشكلية والتكتيكية التي تجريها هيئة تحرير الشام وحضور روسيا كعائق يحول دون تنفيذ خطة المنطقة الآمنة، فإن مستقبل هيئة تحرير الشام على المحك.

وحتى تجد مخرجا لهذا المأزق المعقد ولنزع الذرائع الروسية لاجتياح إدلب، قد تقدم تركيا على دمج هيئة تحرير الشام مع فصيل الجيش الوطني تحت قيادة عسكرية موحدة، وليس مستبعدا تفككها وانهيارها على وقع تمرد مقاتليها الأجانب الذين يشكلون رقما صعبا داخلها في حال تأخرت الاستجابة الدولية لقبولها ككيان سياسي وطني.

تصورات هيئة تحرير الشام المتعلقة بقبولها دوليا والسماح بانخراطها في مستقبل التسوية السياسية كطرف معارض من أرضية وطنية، تحول دون تحققها جملة من العوامل على الأرض، حيث بات مصير الهيئة مرهونا بالتفاهمات الجديدة بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة ومدى انفتاح إدارة بايدن على موسكو وأنقرة، وما إذا كانت ستقبل التوصل إلى حلول مشتركة معهما من عدمه.

'