الجيش المصري.. أداة لتخطي بيروقراطية الإدارة أم عرقلتها – مصدر24

الجيش المصري.. أداة لتخطي بيروقراطية الإدارة أم عرقلتها

القاهرة – عادت إلى واجهة الأحداث في مصر قضية الاعتماد على المؤسسة العسكرية في إدارة دواليب الإدارات المدنية التي يرى الرئيس عبدالفتاح السيسي أنها لم تقم بواجبها كما هو مطلوب منها.

وأشار السيسي، الأحد الماضي، في أثناء افتتاح بعض المشروعات الكبرى بمدينة الإسكندرية، إلى سخطه من استمرار التعدي على الأراضي الزراعية ومخالفات البناء، وأبدى الرجل شكوكا في دور المحليات وتمكنها من وقف التجاوزات، ما جعله يلوّح بنزول منسوبي الجيش مباشرة لإزالة المخالفات في كل القرى، وضبط المنظومة المهترئة.

واعتاد السيسي الاستعانة بالمؤسسة العسكرية في الكثير من المجالات المدنية، وبدت في نظره الأكثر ثقة، ما أثار غضب البعض واعتبره آخرون نوعا من “العسكرة” المقننة، فبدلا من إصلاح الإدارة عبر تفعيل القوانين جرى اختزال القضية في وضع جنرالات على رأس عدد كبير من الجهات المحلية، وتعيين ما يوصف بـ”المستشار العسكري” في كل محافظة.

ويحمل هذا التوجه دلالتين مهمتين، الأولى استشراء الفساد إلى درجة تصعب معها إمكانية التفكير في الإصلاح، والذي يحتاج وقتا لحصد ثماره، والثانية أن الجنرالات يستطيعون تنفيذ تكليفات السيسي بمرونة أكثر من غيرهم، فالخلفية العسكرية الواحدة بين الرئيس وهؤلاء تسهم في تجاوز العقبات من خلال تنفيذ الأوامر وتطبيق القانون.

وتستمد القيادات العسكرية العاملة في القطاعات المدنية نفوذها من الرئيس نفسه الذي وضع ثقته فيها، وهي ميزة تخول للقادة العسكريين حرية كبيرة في الحركة والقفز على العقبات التي تتمثل في الأيادي المرتعشة، حيث أعاق أصحابها تنفيذ الكثير من المشاريع وتطبيق القوانين، وأوجدت حالة من السيولة استغلها البعض لتحقيق أهداف غير مشروعة، ما أسهم في انتشار الفساد وتراكمه وصعوبة مكافحته.

تعميم الجنرالات

إدارة دواليب الدولة
إدارة دواليب الدولة

لم يعد اللجوء إلى القيادات العسكرية قاصرا على الإدارة، بل شمل تقريبا كل المشاريع التنموية، التي يتم إنجازها بصورة مذهلة، تحت إشراف الهيئة الهندسية التابعة للجيش، ما جعل السيسي يرتاح لرفاقه السابقين، ويمنحهم صلاحيات تفوق صلاحيات غيرهم، فالرجل مهموم بالعمل وإنجازه بأقصى سرعة ممكنة، ويريد تعويض السنوات الماضية التي شهدت كسادا وفسادا غير مسبوقين.

وترمز الإشارات التي تظهر في خطابات السيسي إلى غضبه العارم من الأوضاع الراهنة، وحرصه على تصويب الأخطاء الفادحة عبر نافذة الجيش ومتابعة كل التفاصيل الكبيرة والصغيرة.

ويرى البعض أن هذا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى زيادة وتيرة الإنتاج، لأن الركون إلى القيادات المدنية الخاملة يفضي إلى فائض جديد من التعثر، والدولة المصرية تخوض ماراثونا لتشييد المشروعات في أقل وقت ممكن، ليشعر المواطنون بأن هناك تقدما ملموسا في عهد السيسي، ويمنحونه المزيد من الدعم والتأييد.

التعويل على الجيش يحمل دلالتين، الأولى استشراء الفساد في الإدارة، والثانية تنفيذ القيادات العسكرية للتكليفات بمرونة

ويمثل الوقت “سيفا” في غالبية المشروعات التي جرى إنجازها، ويدخل السيسي في مناقشات مع كبار القادة على الملأ لحضهم على تخفيض المدة الزمنية المطلوبة إلى أقل مدى ممكن، وأعلن صراحة في أحد خطاباته عدم إيمانه بدراسات الجدوى، حيث تستغرق وقتا طويلا.

ويأخذ معارضوه هذه النقطة ذريعة جديدة لإثارة الغبار حول بعض المشاريع التي يفتتحها من وقت لآخر، وكدليل على التقليل من أهمية التخطيط والدراسات العلمية، لكنه ذكرها أصلا وهو بصدد التأكيد على أنه لا يملك رفاهية تضييع الوقت.

ويرى آخرون أن الاعتماد على الجنرالات وحدهم لن يكون مفيدا على المدى البعيد، حيث يقضي حشرهم على طموحات القيادات المدنية، ويمنح المؤسسة العسكرية دورا لا يقع في نطاق مهامها الرئيسية، بل يخلق تناقضا بين ما هو جوهري في إطار الدفاع والأمن القومي، وما هو فرعي، ويمكن أن تقوم به عناصر مدنية لن تعجز الدولة عن العثور على من يستحقون أن يُمنحوا فرصة للتعبير عن مهاراتهم.

ورغم الثقة المرتفعة في أداء الرموز العسكرية، تثير كثافة الحضور تكهنات أبعد من فكرة الانضباط والصرامة والإنجاز، إلى حدود الولاء لرأس السلطة، فكل قيادة عسكرية تعلم أن أحلامها لن تتوقف بعد التقاعد من العمل في الجيش وسوف تعمل على التنافس لتعزيز الثقة فيها كي تحصل على منصب رفيع لاحقا، وهكذا يمكن إيجاد شبكة كبيرة من المصالح تقود إلى ضمان حماية النظام الحاكم من أبنائه.

مفاتيح المنح والمنع

الجيش.. رمز للانضباط
الجيش.. رمز للانضباط

لم يبتدع السيسي هذه الميزة النوعية، ولا تقتصر المسألة على مصر، فغالبية الزعماء في المنطقة العربية يضعون هذه القضية نصب أعينهم، وتتحول أحيانا إلى وسيلة للمنح والمنع، والثواب والعقاب، وتتخطى عملية الاستفادة الظاهرة من الخبرات، وتصبح أحد مكونات الأمان للنظام، وتبعد عنه احتمالات التآمر عليه من الداخل.

ورغم كل الأغراض النبيلة التي تحملها الاستعانة بالجنرالات، أدى الإسراف في توظيفهم مؤخرا إلى انتشار هواجس تتعلق بعدم القدرة على إصلاح البيئة الراهنة، واللجوء دوما إلى قادة على استعداد للخدمة المدنية، يتعاملون معها بعقلية عسكرية اعتادت تنفيذ التعليمات التي تملى عليها دون مناقشة، وتوصيلها إلى مرؤوسيهم بالطريقة ذاتها، ما يحدث هوة عند حدوث خلل يستوجب التعديل ولا أحد يتبرع بإسداء النصح أو التصويب.

ومهما بلغت المهارة العسكرية ستظل قاصرة على قيادات الصف الأول والثاني من الجيش، في حين تبقى الصفوف الدنيا، وهي الشريحة الأوسع، محصورة في العناصر المدنية، وهنا تكمن واحدة من الإشكاليات التي ربما تعوق تقدم الدولة بالشكل اللائق، لأن اتساع الفجوة بين الجانبين يمكن أن ينعكس سلبا في الحصيلة النهائية.

ولجأ النظام الحاكم إلى ردمها بوضع دورات للكثير من العاملين والموظفين الجدد، يتم فيها تأهيلهم بمعرفة قيادات عسكرية، تحت مسمى “البرنامج الرئاسي لإعداد الشباب”، ونجح في استقطاب كوادر بدأت تتسابق لأجل اللحاق بالركب، فهؤلاء يعلمون جيدا أن الأبواب المغلقة يمكن أن تُفتح أمامهم لمجرد انتسابهم إلى هذا البرنامج، وجرى توزيع أعداد منهم في إدارات مختلفة ليكونوا أكثر استعدادا للتأقلم مع فكر الجنرالات.

وتجد الحكومة مبررات كافية لتقبل عمل الفريقين معا، وتعتقد أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تتناسب مع طبيعة مرحلة تتطلب قدرة عالية على مواجهة تحديات لن تستطيع صدها بالطرق التقليدية. ويعد هذا البعد طاغيا، فالدول تتهاوى إذا تهاوى فيها الأمن وانعدم الاستقرار، الأمر الذي أضفى أولوية على المناحي العسكرية المادية والمعنوية، ومنح الإصلاحات الاقتصادية مرتبة تالية، وغابت نظيرتها السياسية.

وتبدو مشاركة الجيش في مشاريع متعددةٍ مكثفةً مع وجود قيادات منه في مجالات تفوق حدود المساهمة في إصلاح الجهاز الإداري للدولة، فهي لا تخلو من وظيفة ذات ملامح أمنية صارمة، خاصة في المقاولات والتعليم والمحليات، وهي القطاعات التي تغلغلت فيها عناصر تنتمي إلى الإخوان المسلمين، وتستفيد قيادات الجماعة من حضورهم القوي في تعطيل أي تقدم يحدث فيها.

وانتبهت الأجهزة الأمنية للكثير من مفارقات هذه المعادلة، وكسر وجود قيادات الجيش الطوق الذي فرضته الجماعة حول نفسها، وقدرتها على التحكم في مفاصل كثيرة، ما أحدث هزات مفاجئة لفترة طويلة في المقاولات، وخلل في التعليم، وارتباك في المحليات، ومجالات أخرى حرصت الجماعة على التوسع فيها لفرض هيمنتها.

ويرى خبراء أن هذا المبرر غير مقنع بالصورة الكافية، فالدولة في هذه الحالة عليها تنقية المجالات الحيوية، والتخلص ممن يتسببون في العرقلة وتحويلهم إلى محاكمات، فوضع الجنرالات يشبه وضع الحراس الأمنيين في كل هيئة، وقد يضر بصورة نظام الحكم، بدلا من الاستفادة من كفاءة نادرة تريد تحقيق نجاحات تساعد الرئيس على تنفيذ مشروعاته.

'