الحياة تدب من جديد في مدينة التاريخ – مصدر24

الحياة تدب من جديد في مدينة التاريخ

طرابلس – في أزقة مدينة طرابلس المتشابكة تجري أعمال ترميم سريعة من أجل إعادة المجد الغابر إلى قلب العاصمة الليبية الذي تمّ تهميشه في عهد معمر القذافي.

ويقوم عمال بدفع عربات محمّلة بالرمل والإسمنت والركام، بينما يحفر آخرون أو يطرقون على الأرض وظهورهم محنية  أو راكعون. ويتوقف ضجيج المطارق عندما يرتفع صوت الأذان من عدد من المساجد في المدينة.

وتتزامن هذه الأعمال مع الانتعاش والانفراج السياسي الذي تشهده ليبيا منذ تعيين حكومة مكلّفة بتوحيد المؤسسات وتنظيم انتخابات وطنية في ديسمبر 2021 بعد عقد من الحروب والنزاعات تلت سقوط القذافي في العام 2011.

ويهدف العمل الذي بدأ في نهاية عام 2020 إلى “المحافظة على المدينة وتاريخها”، وعلى “هذا التراث المعماري الذي يعتبر واجهة ليبيا ويعبّر عمّا في تاريخها من تجانس وتنوع وأصالة”، وفق ما يقول رئيس لجنة إدارة جهاز المدينة القديمة بطرابلس محمود النعاس. ويمتد وسط المدينة على ما يزيد عن خمسين هكتارًا يتم العمل على تجميلها.

ويقول النعاس “هذه مسؤولية كبيرة جدا ملقاة على عاتق لجنة إدارة الجهاز” الممولة من الحكومة. ويضيف “أستطيع أن أقول إنه لم يعد من الممكن إدخال قطعة حجر دون علم الجهاز وإشرافه”.

ويحرص القيمون على الأشغال على استبعاد مواد مثل الإسمنت أو الخرسانات، مفضلين عليها المواد التقليدية مثل أحجار البازلت الصخرية لرصف الشوارع.

وتأسست المدينة القديمة في طرابلس على أيدي الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد. وتركت فيها حضارات عديدة (الرومانية واليونانية والعثمانية) بصماتها المعمارية.

Thumbnail

ولكن منذ نهاية السبعينات، في عهد القذافي، فقدت المدينة روحها عندما أفرغت من عائلاتها العريقة التي أراد الدكتاتور السابق تدميرها والتي استقرت في أحياء طرابلس الجديدة خارج الأسوار العتيقة.

بعدها استهدف القذافي القطاع الخاص فصادر منازل ومحلات تجارية، وفرض إدارة الدولة لبعض المؤسسات، فأغلقت محال وورش حرفية عديدة في المدينة القديمة، قبل أن تتداعى.

ويقول التاجر القديم الحاج مختار “تغيرت المدينة، وتغير سكانها (…) بعد سنوات من إجبار أصحاب المحال والمصانع الحرفية على هجرها، اندثرت الكثير من معالمها واختفت حرف كانت تورث من جيل إلى جيل”.

ويضيف “حرف كثيرة اختفت”، مشيرا إلى أنه يتمّ اليوم “استيراد بعض مكونات الزي التقليدي الليبي من الخارج.. من الصين أو تركيا مثلا بدلا من صناعتها محليا بأيد ليبية كما في السابق”.

ويرى الرسام محمد الغرياني (76 عاما) وهو صاحب صالة عرض فنية في المدينة القديمة، أن الأعمال “في جميع أزقة المدينة القديمة وبعض شوارعها الرئيسية (…) تثلج الصدر وترد الروح للمدينة التي كنا نتمتع فيها في صغرنا”.

ويشير إلى أن “المدينة القديمة الآن في مرحلة صيانة عامة وفي كل مرة يخرج مبنى أو معلم، والآن التركيز على دار كريستا” وهو مبنى قعت تسميته على اسم فنان من المدينة القديمة، وستستغرق إعادة تأهيله خمسة أشهر.

وينظر إلى المبنى على أنه شاهد على التنوع الثقافي في طرابلس، إذ لا يزال جزء منه يضم كنيسة القديس جورجيوس اليونانية الأرثوذكسية. وقد بناه عثمان باشا من عائلة القرمنلي العثمانية في عام 1664 ليكون سجنا للأسرى المسيحيين.

على مرّ السنين تم تحويل أجزاء في شرق المدينة حيث تقع القلعة إلى متحف، فيما صمدت أسواق الذهب والحرير في وجه ويلات الزمن. وفي الأزقة المسقوفة أو تحت الممرات المزخرفة التي تصطف المحال على جانبيها، يتبضّع بعض الزبائن.

وهناك أيضا أشهر الصور التذكارية ومنها القوس الروماني لماركوس أوريليوس بالقرب من المدخل الشمالي الشرقي للمدينة ونخيلها ومئذنة جامع قرجي.

وبعض الأماكن المهجورة في المدينة التي تحولت إلى مكبّات مفتوحة أصبحت اليوم ورش بناء ضخمة يشرف عليها مهندسون معماريون ومؤرخون وحرفيون وفنانون.

ويقول المهدي عبدالله، وهو ثلاثيني من سكان المدينة القديمة، “الشكر للعاملين في جهاز إدارة المدينة القديمة، ومنهم المهندسون المعماريون والحرفيون والفنانون والخبراء في التاريخ… كلّ يأتي بخبرته في مجاله”.

وبسبب هجرها لوقت طويل، تبدو بعض المباني منشآت عشوائية وقد تداعى بعضها وتحول إلى ركام. وفي أماكن أخرى تمّ تدعيم بعض جدران المباني القديمة التي تنتظر تجديدها بعوارض خشبية تعبر الأزقة الضيقة. وفي أحد الشوارع المحفورة يلعب الأطفال ويركضون. ويقول المهدي “الجميع يراقبونهم. إنها ميزة العيش في هذا المجتمع الذي يعاد بناؤه شيئًا فشيئًا”.

وأصبحت للواجهة البحرية شمال المدينة القديمة أرصفة وطريق إسفلتي. ولم تعد هناك مواقف عشوائية للسيارات أو حفر تحوّل الشارع إلى ممر موحل في الأيام الممطرة.

وفي محله لمعدات الصيد والغوص، يقول محمد ناصر “ولد أبي في بيت فوق هذا الدكان (…)، وأنا عدت إلى هنا وأرى كل يوم تحسنا كبيرا في مظهر المدينة… كأنها عادت إلينا أخيرا بعد طول غياب”.

'