الدولة العميقة للمالكي لا تزال تتحكم في المشهد العراقي – مصدر24

الدولة العميقة للمالكي لا تزال تتحكم في المشهد العراقي

ظل نوري المالكي حتى بعد أن خرج من الحكومة، فاعلا ومؤثرا لأنه صار يمتلك نفوذا داخل ما أصبح يسمى بـ”الدولة العميقة”، وهي الدولة التي زرع فيها رئيس الوزراء العراقي الأسبق أتباعه في مختلف مراكزها ومؤسساتها وشركاتها، وصولا إلى أدنى سلم الوظائف.

بغداد – واجه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي تحديا كبيرا تمثل في الانتخابات البرلمانية شهر اكتوبر الماضي حيث تلقى هزيمة في مواجهة صعود التيار الصدري الذي بات غريمه داخل المكون الشيعي.

وهناك منافسة قديمة بين المالكي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حيث يرى مراقبون انها  منافسة على الميراث.

ويعتبر حزب الدعوة الذي يقوده المالكي أن مرجعيته الأساس تعود إلى المرجع محمد باقر الصدر، صاحب ”فلسفتنا“ و“اقتصادنا“ و“سياستنا“، الكتب التي يعتبرها دعاة حزب الدعوة أسسا منهجية لهم.

ويعتبر الصدر الابن الأقل تعليما وثقافة لمحمد محمد صادق الصدر، صاحب “ما وراء الفقه” و”منهج الأصول” و”أصول علم الأصول”، وغيرها.

وامتلاك الميراث مهم بالنسبة إلى بيوتات الشيعة. إنه مصدر للنفوذ والمال والأتباع. والصراع بين البيوتات الشيعية الأخرى، مثل “الحكيم” و”الخوئي” و”النجفي”..الخ، ظاهره “علمي” لأن مؤسسي هذه البيوتات هم رجال فقه في الأساس، إلا أن ورثتهم هم رجال سياسة ومكاسب. وهذا الواقع واضح الآن بين الأطراف الشيعية المتنافسة على السلاح والمال والسلطة.

الصدر أراد توزيع الحصص بطريقة مختلفة بين أطراف “المكون الشيعي”؛، وليس إلغاء المبدأ حيث أراد تحديدا أن يُخرج المالكي من المعادلة، لأسباب تتعلق بالمنافسة على الإرث

والمالكي الذي قاد أول حكومة “منتخبة” تحت سنابك الاحتلال في العام 2006، بنى نظاما قائما على توزيع المغانم والحصص بين كل أطراف “العملية السياسية” التي رعاها الأميركيون وسنوا لها دستورها. هذا النظام يقوم على تقاسم العراق بين مكونات رئيسية ثلاثة، ألغت مفهوم “الشعب العراقي”، واستبدلته بمفاهيم “المكوّن الشيعي” و”المكوّن الكردي” و”المكوّن السني”. وهناك تقاسم حصص داخل كل “مكوّن” لصالح الأحزاب فيه، لتبدو وكأنها “تمثل” المكوّن الذي تنتمي إليه، رغم أنها لا تمثل أكثر من مصالحها وامتيازاتها الخاصة.

ويقوم هذا النظام على تقاسم الحصص، وهو ما صار يعرف بنظام “المحاصصة الطائفية”، فإنه بحكم طبيعته نفسها، نظام فساد، لم يقتصر على “تقاسم” الوزارات وحدها ولكنه امتد ليشمل كل الوظائف الرئيسية في الدولة، كما سمح لكبار الموظفين أن يشغلوا المواقع الوظيفية الأدنى لصالح أحزابهم، أو لأتباعهم الشخصيين، أو لمن يقدم لهم الرشاوى.

وهذا النظام تأسس على يد المالكي. وهو الذي ظل يرعاه ويرعى توازناته حتى العام 2014. وخلال هذه المدة، احتل العراق واحدا من أعلى المراتب في قائمة دول الفساد في العالم. ليس لأن كل شيء فيه ما كان ليتم إلا عن طريق علاقات الفساد، بل لأن الفساد أصبح هو النظام الرسمي. لا توجد قائمة لأكثر دول العالم فسادا في التاريخ، لأن الإحصاءات الدولية لا تعود إلى أبعد من عقدين من الزمن، إلا أن حجم الأموال التي ثبت أنها “ضاعت” أو “اختفت” من الدفاتر، أو التي أنفقت على شركات وهمية وموظفين وهميين (أطلق عليهم لقب “فضائيين”)، بمن فيهم قوائم عديدة بأسماء ضباط وجنود لا وجود لهم، نجحت في تبديد نحو تريليون دولار من عائدات النفط، وهو ما لم يحدث في أي بلد في العالم على مر التاريخ. وذلك من دون أن يتمكن العراق من بناء مستشفى واحدة جديدة، أو حتى جسر، وأصبح قطاع الكهرباء هو “المنهبة” أو “مغارة علي بابا” المفضلة لأحزاب “العملية السياسية”.

أحزاب “المكون الشيعي” احتكرت مراكز النهب الرئيسية على اعتبار أن هذا “المكون” هو الأكبر بين مكونات العراق الأخرى

ولقد احتكرت أحزاب “المكون الشيعي” مراكز النهب الرئيسية على اعتبار أن هذا “المكون” هو الأكبر بين مكونات العراق الأخرى. وبطبيعة الحال، فقد ظلت الغالبية العظمى من “الشيعة” في العراق تعاني الفقر والحرمان، بينما الأحزاب التي تمثلهم تغتني. حتى بلغ بهم اليأس أن قاموا بحرق مقراتها والتظاهر ضدها لعام ونيف فيما أصبح يعرف بـ”انتفاضة تشرين”. فردت عليهم الميليشيات، التي يقود قادتها المالكي، بقتل نحو 600 متظاهر وإصابة أكثر من 45 ألفا آخرين.

والمالكي حتى بعد أن خرج من الحكومة، ظل فاعلا ومؤثرا لأنه صار يمتلك نفوذا داخل ما أصبح يسمى بـ”الدولة العميقة”، وهي الدولة التي زرع فيها المالكي أتباعه في مختلف مراكزها ومؤسساتها وشركاتها، وصولا إلى أدنى سلم الوظائف. الكل ينهب. والكل يستر على صاحبه أو يتقاسم معه الحصص. من فوق إلى تحت. ومن تحت إلى فوق. في نظام متماسك، حباله النهب وروابطه الدجل الطائفي.

وعلى الرغم من أن مؤسسات الجيش والأمن والشرطة كانت خاضعة لنظام المحاصصة الطائفية بحيث تكون لكل حزب مراتب ضباط ومسؤوليات تابعة له، فإن أحزاب “المكون” الشيعي لم تكتف بذلك، فأنشأت ميليشيات خاصة بها. بدأ الأمر من فرق الحماية والحراسات، ثم تحول إلى ما يناظر كتائب عسكرية، تشكل بعضها بدافع محاربة داعش، وأظهرت التسريبات أن المالكي كان يريد منها أن تكون على غرار الحرس الثوري الإيراني، لتكون جيشا موازيا للجيش الرسمي. وطبعا، جيش مواز، ولكنه موزع بين الفصائل والفسائل، وكل منها يؤدي غرضا مختلفا عن الآخر. البعض لأعمال القتل والاغتيالات، والبعض لأعمال القصف بالقذائف، والبعض للشركات الوهمية، والبعض للتصدير إلى الخارج. وهو نوع من تكرار النموذج الذي تقوم عليه فصائل وفسائل الحرس الثوري.

والتحدي الأول الذي واجه المالكي، زعيم ومؤسس هذا النظام، هو أن فصائل “المكون” حصلت على نسب أصوات أدنى مما حصلت عليها في الانتخابات السابقة. وظهر “التيار الصدري” كمنافس شرس، من ناحية، لأنه امتلك أغلبية أكبر بين فصائل “المكون”، ومن ناحية أخرى، بسبب رفضه تقاسم الحصص مع مؤسس النظام وقائده الفعلي.

المالكي يبدو الآن محاصرا في عرينه. وقد تجبره الضغوط على أن يرحل، أو أن يكتفي بلعب دور ثانوي

ويشير مراقبون إلى أن كل شيء كان يمكن أن يمضي على سيرته المعهودة، لولا تمسك الصدر بتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، في مقابل ذهاب الآخرين إلى تشكيل “معارضة وطنية”.

هذه الصيغة كانت تعني، إعادة النظر بالحصص، وليس هدم النظام. وهو ما لم يرضه المالكي.

الصدر أراد توزيع الحصص بطريقة مختلفة بين أطراف “المكون الشيعي”، وليس إلغاء المبدأ. أراد تحديدا أن يُخرج المالكي من المعادلة، لأسباب تتعلق بالمنافسة على الإرث. وعندما فشل في فرض مقاربته، اختار أن يحتل موقع المعارضة، وهو ما كان يعادل تأكيد إعادة توزيع الحصص، ففشل أيضا. فاختار أن ينسحب من العملية السياسية ويستقيل أعضاء تياره من البرلمان. وفشل أيضا. لأن كل خيار من هذه الخيارات كان يعني، بطريقة أو بأخرى، إعادة النظر بالأسس التي وضعها المالكي للنظام السياسي في العراق.

ويرى متابعون أن هذا هو السبب الذي جعل المالكي يندفع إلى الإدلاء بتلك التصريحات الطاحنة والساحقة، التي تحولت إلى تسريبات، ليس ضد الصدر وحده، بل وضد كل الذين تبادلوا وجهات النظر معه من أطراف “الإطار التنسيقي”.

ويبدو المالكي الآن محاصرا في عرينه. وقد تجبره الضغوط على أن يرحل، أو أن يكتفي بلعب دور ثانوي، لأنه استعدى الجميع ضده وكشف أوراقه وأوراقهم معا، ليس بقصد الكشف، ولكن بدافع الغضب على حصته ونصيبه من إدارة النظام الذي تأسس على أكتافه.

Thumbnail

الصدر أراد أن يزيح المالكي من المعادلة فقط. ولم يذهب إلى إلغاء النظام الطائفي أو نظام المحاصصة أو نظام “المكونات” الذي جعل العراق أفسد بلد في التاريخ. هو نفسه أقام محاصصته الخاصة مع أطراف “المكون الكردي” و”المكون السني”، لكي يعيطهم ما رغبوا بالحصول عليه من حصص وامتيازات ومنافع. بل وأظهر انفتاحا على قبول أطراف من داخل الإطار التنسيقي، طالما أن المالكي ليس بينهم.

ويرى مراقبون أن المالكي قد يذهب، ولكن نظامه باق. سوى أن الصدر يريد أن يكون هو الحافظ والمقرر والراعي.

وتشير كل المعطيات إلى أن المالكي سقط بأول تحد يواجهه. في حين لا يزال النظام الطائفي الذي أفشل العراق وأدى إلى تدميره ونهبه، له من يحرسه. الصدر بهذا المعنى لا يختلف عن المالكي. والعداوة بينهما ليست أبعد من عداوة اللصوص الذين اختلفوا على القسمة.

'