السينما المستقلة تواصل النجاح بالصبر – مصدر24

السينما المستقلة تواصل النجاح بالصبر

تُثبت السينما المستقلة أن جودة المنتج الفني لا تتطلب تدمير مدن بأكملها ولا قفزات من السيارات المسرعة ولا الحاجة إلى نجوم كبار أو ديكورات ضخمة، لكن فقط هي الفكرة الجريئة والمشاعر الجياشة التي تشقّ طريقها في صمت إلى عقول المتلقين ونفوسهم.

نجحت السينما غير التجارية في الوصول إلى منصات التكريم، وحصد جوائز في مهرجانات عالمية، وحفظ ماء وجه منتجي الأفلام بالمنطقة العربية، التي تنقّب بإبرة كل عام عن أعمال متكاملة تصلح للمشاركة في المهرجانات الدولية، وفي مقدّمتها الأوسكار، ويظل اختيارهم محصورا في فلك الأقل رداءة.

ويظهر تتبّع سجّل الجوائز الأخيرة للسينما العربية التنامي الملحوظ للإنتاج غير التجاري، وتطوّر جودة أفكار الواقفين خلفه، رغم الظروف الإنتاجية الصعبة، مثل الفيلم السوداني “ستموت في العشرين”، والتونسي “الرجل الذي باع ظهره”، والأردني “ذيب”، وحصلت جميعها على عدد ضخم من الجوائز، وتنويهات في العديد من المحافل الدولية.

ويعيد فيلم “حمام سخن (ساخن)” للمخرجة منال خالد السينما المصرية للمشاركة بمهرجان “ساوث باي ساوث ويست” الأميركي منتصف مارس الحالي للمرة الأولى منذ عقد كامل، ليكمل سلسلة أعمال ناجحة  مثل “عاش يا كابتن” و”ستاشر”، حيث استطاعا نيل سلسلة من الجوائز في مهرجانات عالمية مرموقة.

تتبنّى الأعمال المستقلة نظرة مغايرة للأحداث تركّز على تأثيراتها الإنسانية حتى لو تناولت أعمالا سياسية مثل أحداث ثورة 25 يناير 2011 بمصر، فتبتعد عن الرؤية التقليدية بتتبّع المظاهرات في الشوارع والمطالب ومخاض الانتقال السياسي، لتسرد قصص سيدات محاصرات بسبب ساعات حظر التجوال أو غياب الأمن من الشوارع، وتفاصيل الساعات التي يقضيها البشر حينما يفقدون حرية الحركة بأمان.

القطع مع النمطية

الوثائقي المصري "عاش يا كابتن" ينتصر لبطلات رفع الأثقال
الوثائقي المصري “عاش يا كابتن” ينتصر لبطلات رفع الأثقال

تتّخذ السينما المستقلة من الصبر وروح الشباب الذين يقفون وراء كاميرات التصوير السُلم الأساسي للوصول إلى منصات التتويج، فبعضها يتوقّف تصويره عدة أعوام بسبب عدم القدرة على تغطية النفقات ويضطرّ المشاركون فيه للتنازل عن أجورهم، والتطوّع من أجل ظهور مشاريعهم الفنية إلى النور.

ولا تبحث السينما المستقلة عن أماكن التصوير الجمالية أو وضعية التحف في القصور الرحبة، فتركيز القائمين عليها مُنصب على كيفية التقاط الصورة الثرية بتفاصيلها لتعبّر عن تداعيات الزمن على الجدران والوجوه، وترتكن إلى توزيعات الضوء المعتمدة على الطبيعة، لإبراز المشاعر الوجدانية لأبطالها غير المعروفين، مع قدر كبير من الجمل الحوارية العميقة التي تشبه الحكم والأمثال الباقية التي تعطي ثراء للمضمون يعزّز موقعها على مستوى السيناريو، حال مقارنتها بغالبية الأعمال التجارية.

تمثل السينما غير التجارية للمخرجين الشباب مغامرات إنتاجية مُستحبة يعملون فيها دون ضغوط أو إملاءات، ويبعدهم تمويلها الذاتي في الغالب عن حسابات شباك التذاكر في دور السينما، ويجعلهم بمنأى عن ضغوط المنتجين الكبار الساعين لتعويض المبالغ التي تكبّدوها بتضمين العمل بمجموعة من البهارات التي يمكن أن تجذب الجماهير للمشاهدة تحت شعار “المشاهد يريد كده (ذلك)”.

وأكّد المخرج محمد سعدون، مدير مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة، أن عملية إنتاج الفيلم غير التجاري تغيّرت كثيرا فلم يعد منخفض التكاليف، ويحتاج إلى تلبية درجات من الجودة في الصوت والصورة حتى يمكنه المنافسة عالميا، وكلها أعباء مالية تجبر أصحاب المشروعات الفنية على تأجيلها أكثر من مرة.

وتظلّ التكاليف الإنتاجية العائق الأول أمام غالبية مشروعات السينما المستقلة، ما يتطلب تدخلا حكوميا، فالوصول بالفيلم إلى مستوى يليق بالتمثيل في المحافل الدولية تصل إلى 250 ألف جنيه (16 ألف دولار) للعمل القصير الذي لا تتجاوز مدته 15 دقيقة، وهو مبلغ يفتقره مخرجون في بداية حياتهم الفنية.

قدرات خاصة

Thumbnail

وأفاد محمد سعدون لـ”العرب”، بأن الأفلام غير التجارية تحتاج قدرات خاصة في الكتابة يفتقرها الكثير من العاملين في الأعمال التجارية بالتلخيص والإيجاز الشديد دون الجور على الفكرة، وأشار إلى أنه فلا مجال للتعريف الطويل بالشخصيات أو التمهيد للموضوع أو شرح ملابساته، فجميع مراحل الفيلم من البداية والعقدة وحتى النهاية قد لا يتجاوز العشر دقائق.

وتلعب السينما المستقلة على المشاعر في المقام الأول، فتتطرّق إلى فئات عمرية مختلفة تماما عن السائد، لترصد معالم الحب في سن الستين، أو الصراع في رأس شخص يرغب في العودة إلى حبيبته بعد انقطاع العلاقة، لكن تظل القدرة على التنفيذ سرّ النجاح.

وتنجح تلك النوعية من الأعمال كثيرا في حفظ تراث أماكن تختفي من الخارطة، كتوثيق مدابغ الجلود في منطقة القاهرة القديمة قبل نقلها إلى منطقة الروبيكي بشرق العاصمة المصرية وإقامة منطقة سياحية بدلا منها، أو تتطرّق إلى تأثير الزمن على أصحاب المهن التقليدية الذين يحاربون من أجل البقاء، أو آمال وطموحات القابعين في أسفل درجات السلم الاجتماعي وأحلامهم وضحكاتهم التي يسرقونها من أنياب الزمن.

وأوضح سعدون أن النجاح ليس في الفكرة المختلفة فقط، لكن في زاوية التطرّق إليها وطريقة عرضها أيضا، بعدما أصبح لتلك النوعية من الأعمال جمهور يُتابعها في المهرجانات المتخصّصة والمراكز الثقافية العامة، وهو في تزايد على المستويين الكمي والنوعي، ويعرف المُشاهدون طبيعة تلك الأعمال ويقيّمونها وفقا لعناصر إنتاجها.

وحظي مهرجان “أفلمها” للسينما المستقلة عبر الواقع الافتراضي الذي تم تنظيمه للمرة الأولى نهاية يناير الماضي تفاعلا كبيرا من الجمهور، مع عروض الأفلام المشاركة في المسابقة عبر المنصة الرقمية التي أطلقها المهرجان مع تطبيق “زوم” الذي عرض الندوات والورش المختلفة.

وتمتاز السينما المستقلة بمساحات كبيرة من الجرأة في الأفكار التي يتم اختيارها وتنفيذها على عكس الأفلام التجارية التي تتعرّض فيها الفكرة أحيانا لإملاءات من المنتجين وكبار الفنانين الذين يتدخلون بتعديلات على نص السيناريو، قد تضيع معها غاية القصة لزيادة مساحة الدور.

وأشارت مخرجة فيلم “عاش يا كابتن” مي زايد، لـ”العرب”، إلى أن الميزة الأساسية في السينما المستقلة هي اقتناع المخرج بالعمل وسعيه لإنهائه مهما كانت العقبات باعتباره مشروعا خاصا، فتلك النوعية من الأعمال غالبا ما يكون مخرجها هو المؤلف، وكان ذلك من دوافع استمرار العمل طوال ست سنوات كاملة على فيلمها الذي شهد توقفا في أكثر من مناسبة لضعف القدرات الإنتاجية.

 

محمود حميدة بات متطوّعا للتمثيل في الأعمال السينمائية غير التجارية كنوع من الدعم المعنوي لأصحابها
محمود حميدة بات متطوّعا للتمثيل في الأعمال السينمائية غير التجارية كنوع من الدعم المعنوي لأصحابها

 

وسعت زايد في عملها إلى تغيير الصورة النمطية عن المرأة في مجال البطولات الرياضية كتابع للرجال، واختارت زاوية فريدة بتتبّع قصص فتيات يحملن الأثقال ويتدربّن في الشارع، ويبذلن جهدا لوصولهن إلى المنافسة في البطولات الإقليمية والعالمية، وابتعدت عن الطريقة المعتادة في السينما التجارية التي تركّز على كرة القدم فقط بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء.

وأسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في فتح آفاق جديدة للترويج لأعمال السينما المستقلة، ليرتبط الجمهور به للمرة الأولى رغم تزايد تجارب إنتاجه منذ 12 عاما حينما انتشرت تقنية التصوير الرقمي محليا، والتي فتحت الباب أمام الشباب وشيوخ المهنة على خوض تجربة الإنتاج المستقل.

ولفتت زايد إلى أن السينما غير التجارية تتّسم بقدر كبير من الحرية للمخرج في التعبير دون خوف أو قلق من رد فعل الجمهور على إنتاجه أو التقييم الكمي لمشاهدة العمل في دور السينما، كما بات المخرجون يملكون قدرا من المرونة والتكيّف مع العقبات التي تقف في طريق الإنتاج، فيبدلون الأماكن بسهولة وأريحية ويجدون تعاطفا من أصحاب الأنشطة التجارية في التصوير داخلها دون طلب مقابل مالي.

وتتّسم الأعمال غير التجارية بقدر أقل من اشتراطات الجهات الرقابية باعتبارها لن تعرض في دور العرض التقليدية، بجانب سيادة فكرة أن هناك شريحة كبيرة من جمهورها غير محلية، مع انتقائها أفكارا تتخطّى حواجز اللغة وتحمل معاني تهم البشر في كل مكان حتى ولو تم تصويرها في بيئة شديدة الشعبية.

وأمام النجاحات الكبيرة التي تسجلها السينما المستقلة دخلت على خط إنتاجها في السنوات الأخيرة شركات إنتاجية متخصّصة في دعم مشروعات الشباب، خاصة الأعمال الروائية الطويلة على أن يتم مشاركتهم المكاسب المالية التي يحصلون عليها في المهرجانات العالمية.

ويحاول المنتجون الجدد تحقيق الربح عبر حصيلة جوائز المهرجانات، لكنهم في الوقت ذاته يملكون حسا فنيا تحكمه المصلحة، فلا يتدخّلون في القصة ويسهمون بعلاقاتهم في جذب بعض الأسماء الفنية الكبيرة للمشاركة في الأعمال بما يمنحها زخما دعائيا، مثل الفنان المصري محمود حميدة الذي بات متطوّعا حاليا للتمثيل في تلك الأعمال كنوع من الدعم المعنوي.

ولا ترى زايد أن الجوائز المعيار الرئيسي للحكم على نجاح أو فشل السينما المستقلة، فالأمر مرهون بقوة الأعمال المنافسة في الوقت ذاته وجودتها، واختلاف تشكيل لجان التحكيم التي تتولى الاختيار من عام إلى آخر، كما تؤكد أنه أحيانا قد لا يلقى عمل التكريم الذي يستحقه رغم قيمته بسبب عرضه في عام مليء بالمنافسين أو تطابق الفكرة.

ويمثل فيلم “ستاشر” للمخرج سامح علاء قمة الإنجاز الذي وصلت إليه السينما المستقلة بمصر بحصوله على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي الدولي، وجائزتي أفضل فيلم من مهرجاني موسكو بروسيا، ونامور ببلجيكا، وهو ما يعتبره مخرجو السينما المستقلة في مصر دافعا للمزيد من الجهد لتحقيق حلم اقتناص المزيد من جوائز المهرجانات الأشهر عالميا.

ويظل الزخم الذي تحقّقه السينما المستقلة مرتبطا بامتلاكها التفرّد في التناول، والرهان على الأداء التمثيلي، والتركيز على الصور الحبلى بالتفاصيل، فإن تخلت عنها واجهت مشكلات السينما التجارية التي جعلت هدفها الربح فقط.

'