الطبيعي أن تقع المصالحة الخليجية – مصدر24

الطبيعي أن تقع المصالحة الخليجية

حين تأسس مجلس التعاون الخليجي عام 1981، كانت الدوافع التي استدعت قيام ذلك التجمع هي مزيج من الرؤى السياسية والمشاريع الاقتصادية التي ما كان لها أن تجد الطريق سالكة إلى التفكير الواقعي لولا وجود قاعدة اجتماعية استندت عليها واستمدت منها قوتها الحاضرة وخيالها المستقبلي، غير أنها لم تستخرج منها أدواتها في الممارسة.

فبالرغم من ذلك، فإن المجلس كان بطيئا في عمله، بل أن البعض يتهمه بالكسل. ذلك لأن أربعين سنة من العمل المشترك بقمم مستمرة لم ينتج عنها إلا القليل من أسباب الوحدة السياسية والاقتصادية وظلت الخلفية الاجتماعية تلعب الدور الأكبر في تأسيس ثقافة وحدوية والحفاظ عليها.

لم تكن تلك الخلفية صناعة ثقافية بل كانت هبة من الطبيعة.

مجلس التعاون الخليجي إن اتخذت دوله مما حدث درسا فإنها ستعمل جاهدة على ابتكار آليات جديدة لعمله ستعيد إليه حيوية كان قد فقدها

وبالرغم من التنوع في العادات والتقاليد والمناسبات غير أن هناك ملامح لوحدة ثقافية يمكن البناء عليها من جهة الحفاظ على مشاريع الوحدة السياسية والاقتصادية التي لم تجد طريقها إلى النور، وظلت تتعثر في واحدة من أكثر وسائل التعبير عنها يسرا كتوحيد العملة مثلا.

كانت دول مجلس التعاون الخليجي لا تحتاج إلى وعي ثقافي جديد من أجل أن تستغرق في نعمة شعور شعوبها بأنها شعب واحد توزع بين دول عديدة. فكل إجراء سياسي لم يكن يؤثر على الخطوط الممتدة والممرات المفتوحة بين العوائل التي تقيم في غير بلد من غير أن تشعر أنها تعيش وضعا مجزّأُ. لقد حرصت الدول على ذلك الجانب الحساس الذي هو أشبه بمصل حيوية تتجدد بالنسبة إليها. كان تاريخها النابض بالحياة يقيم هناك.

وحين وقع الخلاف عام 2017 بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة ودولة قطر من جهة أخرى وأدى إلى حال من القطيعة، فإن أكثر ما كان يؤلم في تلك القطيعة هو ذلك الصدع الاجتماعي الذي لم يستطع أحد أن يتداركه بالسبل الفنية المتاحة. لقد عاشت عوائل عديدة نوعا من الحيرة في مواجهة حدث لم يكن متوقعا ولا سبيل إلى توقعه، فكان أن تركت الصدمة أثرا عنيفا لم يكن في الإمكان القفز عليه أو تخطيه من خلال الحديث السياسي الذي يعتبره الناس العاديون وفي منطقة الخليج العربي بالذات حديثا ملحقا بالحياة وليس صانعا لها.

لذلك يمكن النظر إلى المصالحة الخليجية باعتبارها محاولة لردم تلك الهوة التي نشأت بين الدول والمجتمعات. عن طريق تلك المصالحة استعادت شعوب منطقة الخليج العربي البعد الذي يمكنها من الشعور بأنها شعب واحد. وهي كذلك بناء على صلات وأواصر تاريخية واجتماعية.

لقد اكتشف زعماء الدول أن أي نقاش في السياسة يمكن أن يقع خارج خيمة المجتمع. وهم إن توصلوا إلى الوحدة الخليجية بكل ما يشير إليه ذلك المفهوم من معان، فإنهم يكونون قد استجابوا لواقع حال لا يمكن إنكاره، وهم إذ أصروا على الإبقاء على دولهم مستقلة بسياساتها فإن ذلك ينبغي ألّا يؤثر في شيء في الوجود الاجتماعي الراسخ.

ليعمل السياسيون ما يشاؤون بشرط ألّا يؤثر ذلك على تلك الوحدة الاجتماعية التي هي مصدر الأمان لشعب انتشر على ضفاف الخليج العربي وأسس دولا وكان قادرا على تطويرها بطريقة معاصرة واستعمال ثرواتها بما يغني وينفع.

كانت المقاطعة درسا لا أظن أن أحدا لم يتعلم منه. وكان ذلك الدرس جارحا بالنسبة إلى العوائل التي تفصل بين أفرادها بضعة كيلومترات كما هو الحال بين البحرين وقطر.

بالرغم من التنوع في العادات والتقاليد والمناسبات غير أن هناك ملامح لوحدة ثقافية يمكن البناء عليها من جهة الحفاظ على مشاريع الوحدة السياسية والاقتصادية التي لم تجد طريقها إلى النور

كان السياسيون في حاجة إلى ذلك الدرس لكي يتعلموا أن وحدة دول الخليج هي ليست شأنا سياسيا يمكن أن تتحكم به الظروف المتغيرة، بل هي شأن يقع في العمق ولا يمكن أن يصل إليه أي سياسي مهما كان حكيما.

المصالحة هي عودة إلى ما هو طبيعي وهي مناسبة لكي ينصت السياسيون بعضهم إلى البعض الآخر بشكل إيجابي ومن غير انفعال أو أحكام مسبقة.

وكما أرى، فإن مجلس التعاون الخليجي إن اتخذت دوله مما حدث درسا فإنها ستعمل جاهدة على ابتكار آليات جديدة لعمله ستعيد إليه حيوية كان قد فقدها. وهي حيوية تتناسب مع ما شهدته المنطقة من تغيرات. وهي تغيرات جذرية لا يُعقل أن نكتفي بردود الفعل الإعلامية التي تناولتها.

يحتاج زعماء الدول الخليجية إلى معالجة تلك التغيرات مجتمعين، وهو ما سيقود إلى أن تستعيد السياسة قيمتها في حياة المجتمع.

'