الفنان التشكيلي غسان عويس يطلق أقماره في السماء – مصدر24

الفنان التشكيلي غسان عويس يطلق أقماره في السماء

عندما يصادف أن تشاهد أعمالا لفنانيْن تشكيليّيْن لبنانيّين صاعديْن يدور نصاهما حول الوجه البشري، وذلك في فترة زمنية متقاربة جدا، وكانا تحت تأثير بعض الظروف المشتركة كالأزمة الاقتصادية والحجر الصحي والانتفاضة اللبنانية، ربما سيكون من الصعب ألا تتذكر الأول بالثاني والعكس بالعكس. ونقصد هنا الفنان التشكيلي سركيس سيسيليان والفنان النحات اللبناني – السوري غسان عويس. وانطلاقا مما قدما من نصين بصريين مختلفين بشدة يحدث تبلور في كيفية فهم الأعمال بالأخص انطلاقا من اختلافهما الكبير، سواء من ناحية التنفيذ أو من ناحية الأفكار المطروحة.

في السادس عشر من يونيو الماضي تم افتتاح معرض الفنان غسان عويس في “غاليري ل.تي” في بيروت واستمر حتى الثلاثين من الشهر ذاته. المعرض الذي جاء تحت عنوان “غشاوة الصباح” هو معرضه الفردي الأول وضم مجموعة من اللوحات إلى جانب مجموعة من المنحوتات المتوسطة والصغيرة الأحجام، والتي يمكن اعتبارها صيغا نحتية لما حضر في اللوحات.

هذا التركيز الهائل على الوجه البشري في معرض غسان عويس يجعل المُشاهد يتذكر معرضا آخر قُدم منذ فترة قصيرة للفنان سركيس سيسيليان. ويشكل هذا التقابل بين النصين ثراءً يساهم في فهم مكامن التعبير في أعمال الفنانين.

 

وبينما بدت وجوه الفنان سيسيليان خلية حيّة من الألوان المتشابكة التي أظهرت تضارب المشاعر والأفكار، ظهرت رؤوس الفنان غسان عويس بخامة لونية مختصرة تموج فيها تيارات هوائية ناصعة حينا وترابية متكدرة حينا آخر، وتتمظهر فيها “مناخات” مختلفة يقع بعضها تحت تأثير موجة حر شديدة بينما تخضع مجموعة أخرى لعصف بارد أصاب مآقي الوجوه بالتحجر. وفي كلتا الحالتين بدت العيون ناعسة والأجفان مبطنة والملامح متعكرة تعكرا طفيفا نتيجة حالة عدم الاستقرار على حال تخص اللحظات الأولى للاستيقاظ في عالم معاصر وشرق أوسطي مُكرب.

 

أما وتر الانشقاق بين الفنانين فهو بالتأكيد سيحصل بعد عدة لحظات من تأمل النصين. ويكمن هذا الاختلاف في الأجواء المسيطرة على الأعمال، وإن كانت تعالج في معظمها العديد من المشاعر والأفكار المشتركة.

والنص الأول الخاص بسركيس سيسيليان هو كابوسي نفسي اجتماعي، أما الثاني للفنان غسان عويس فهو فانتازي داكن كما تكون القصص الخرافية في نصوصها الأصلية قبل أن يتدخل منطق “والد ديزني” المُلطف للمعاني والمجمّل لنهايات القصص التي غالبا ما تكون محزنة.

 

وفي معرضه الفردي الأول يتابع غسان عويس سلسلة من التجارب اجتهد في خوضها منذ أكثر من سنة. وهي تجارب على مستويين؛ على المستوى التقني الفني، وعلى مستوى المواد المستخدمة التي تراوحت بين الحبر ومادة الأكريليك والبرونز، ليبقي الوصال والتعاكس بين الاثنين حتى يكتمل السرد الفني، أو لنقل الغوص في عالم التهدجّ الصباحي الذي يختبره معظم الناس دون أن يتمعنوا فيه؛ تهدج صباحي بين النوم واليقظة وبين النعاس والإقبال على يوم جديد.

تتمحور أعمال الفنان الأول، أي سركيس سيسيليان، حول الوجه البشري المكتفي بذاته وليس كجزء من الجسد الإنساني. أما الفنان الثاني، غسان عويس الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتركّز أعماله على الرأس البشري تارة كفلك، ككوكب “حمًال” لتيارات نفسية تعبر في وجوه شخوصه لتترك آثارها تعاريج وأخاديد وتكورات، وتارة أخرى كبالون حراري استقر للحظات في وسط اللوحات بألوانه المتعددة. بالون يكاد ينفجر غير أنه استطاع في كل لوحة السيطرة على ذاته فطغت على ملامحه طرافة مُحببة في أحيان كثيرة.

هنا تحديدا يظهر الجانب الطفولي في أعمال الفنان. ومن هذا الجانب يولد الطريق الذي يوصلنا إلى سنة 1902، إلى العمل السينمائي التحريكي المُتكامل والأول في تاريخ السينما المتحركة “رحلة إلى القمر” للفنان السينمائي الفرنسي جورج ميليي. وباختصار شديد يدور موضوع الفيلم حول رحلة عدد من رواد الفضاء إلى القمر. القمر في هذا العمل السينمائي له وجه بشري وعين استقر فيها الصاروخ الذي انطلق على متنه رواد الفضاء فسبب امتعاضه الشديد. يشبه هذا القمر رؤوس شخوص الفنان “الفلكية” المتكدرة كما يشبه الوجوه التي يراها رواد الفضاء بعيدا في الفضاء الخارجي.

نحن أمام عالم خيالي ساحر ومخيف بعض الشيء يشبه عالم الفنان غسان عويس ليس فقط في ما عرضه في معرضه هذا، وإنما أيضا في أعماله التي أنتجها خلال السنتين السابقتين. حتى العصافير التي رسمها بدت “فلكية” بامتياز، وهي “وجوه” أخرى للقمر – الفلك، أو باختصار هذا الكوكب الإنساني الذي رسمه الفنان وعلقه في فضاء الوجود وفضاء الوعي الإنساني.

 

رؤوس الفنان غسان عويس ظهرت بخامة لونية مختصرة تموج فيها تيارات هوائية ناصعة حينا وترابية متكدرة حينا آخر
رؤوس الفنان غسان عويس ظهرت بخامة لونية مختصرة تموج فيها تيارات هوائية ناصعة حينا وترابية متكدرة حينا آخر

ومن أعمال عويس السابقة المؤثرة جدا والتي ربما منها نشأت أعماله الحاضرة والتي هي -كما ذكر البيان الصحافي للمعرض- “من وحي مجموعة لوحاته المتمثلة في الوجوه السائحة، الذائبة”، ما أطلق عليه الفنان عنوان “قمر نصف وردي”، وعمل آخر علّق عليه بهذه الكلمات “لا تسمح للجبال العتيدة حولك بأن تعميك بلطفها وتحول دون رؤيتك للحقيقة وأن تصبح عَظيماً وعتيدا”، ولوحة أخرى علق الفنان عليها قائلا “أنت ملك نفسك. أنت ما تجنيه يداك من الولادة إلى الممات”.

وجاءت كويكبات الفنان البرونزية والمختلفة الألوان زاخرة بروح اللوحات التشكيلية ذاتها التي قدمها في معرضه “غشاوة الصباح”. وظهر الفنان من حولها في الصالة شبيها برواد فضاء جورج ميليي الذين راحوا يتأملون بزوغ كوكب الأرض من العتمة، من حولهم.

وتأخذنا أعمال الفنان بمجملها إلى حالة تسمى “الباريدوليا”، وهي حالة الجنوح إلى تخيّل أشكال بشرية وأشياء وحيوانات في مساحات ليس فيها أي وجود لهؤلاء. ومن الأمثلة على ذلك تخيل الأشكال في السحاب. وتلعب العتمة والنور دورا كبيرا في تشكيل هذه الهيئات. أما في ما يخصّ “رؤوس” الفنان القمرية فهي تأخذنها إلى ما يسمى “الباريدوليا القمرية”، وتتمثل في القدرة على رؤية أشكال على سطح القمر بفعل مواطن الظلمة والنور على سطحه.

ولعلّ أفضل ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو ما كتبه الفنان يوما ما على صفحة الفيسبوك الخاصّة به، إذ قال:

“خٌلقت أخاديد الزمن

تلك الأخاديد تتكلم

تلك الأخاديد هي التي أدت إلى ولادة الملوك الوجوه الذائبة

تلك الأخاديد كأحفورات صخر أخرجت الطبيعة المحفوظة بالصخر والحيوانات الأسطورية وطيور إلى قماش

حيث خلقت أيضاً مخلوقاتي شبه الإنسانية كتحولات الزمان التي جعلت منا في النهاية إنسانا”.

غسان عويس

'