القطاع المصرفي اللبناني يكافح للتأقلم مع تبعات الانهيار المالي – مصدر24

القطاع المصرفي اللبناني يكافح للتأقلم مع تبعات الانهيار المالي

شرع القطاع المصرفي اللبناني الذي كان يعدّ فخر اقتصاد البلد لسنوات في إعادة تنظيم ذاته عبر تسريح الآلاف من الموظفين وإقفال العشرات من الفروع في محاولة يائسة للتأقلم مع تبعات الانهيار المالي الذي قد يطول أكثر مما هو متوقع وبالتالي يزيد من متاعبه.

بيروت – سرّعت مصارف لبنان من وتيرة إعادة هيكلة أعمالها لمواجهة الانهيار المالي المستمر منذ عامين للحفاظ على نشاطها، في خطوة تسبق التوافق على خطة إنقاذ مع صندوق النقد الدولي.

وطيلة عقود شكلت المصارف ركيزة رئيسية للاقتصاد اللبناني وتمكنت من جذب الودائع ورؤوس الأموال سواء من المستثمرين العرب أو من المغتربين الذين رأوا في مصارف بلدهم ملاذاً آمناً لجني عمرهم.

ووفق تقديرات رسمية بلغت قيمة الودائع الإجمالية في ذروتها أكثر من 150 مليار دولار قبل عام من بدء الأزمة الحالية التي تفجرت في أكتوبر 2019.

لكنّ المشهد تغير كلياً على وقع الانهيار الاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، وفرض المصارف لقيود مشددة على عمليات السحب بالدولار ومنع التحويلات إلى الخارج.

وجعل ذلك المودعين عاجزين عن التصرّف في أموالهم خاصة بالدولار، بينما فقدت الودائع بالليرة قيمتها مع انهيار قيمة العملة المحلية في السوق السوداء.

جان رياشي: البنوك اللبنانية لم تعد تمارس أنشطتها المصرفية تقريبا

وشهدت قاعات الانتظار في البنوك خلال العامين الماضيين سجالات متكررة بين مواطنين غاضبين يرغبون في الحصول على ودائعهم وموظفين ملتزمين بتعليمات إداراتهم.

ووصلت الأمور إلى انعدام الثقة تدريجياً بالقطاع المصرفي الذي تراجع نشاطه ليقتصر على عمليات بسيطة خصوصاً السحب بالليرة.

وإزاء هذا الواقع لجأت المصارف، وفق ما قالت جمعية المصارف لوكالة الصحافة الفرنسية، إلى “تقليص حجمها مجبرة، للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية المستجدة”.

وبحسب الجمعية انخفض عدد الفروع المصرفية من 1081 في 2018 إلى 919 فرعا في نهاية نوفمبر الماضي، أي بنسبة 15 في المئة. كما تقلّص عدد الموظفين في الفترة ذاتها من أكثر من 25.9 ألف موظف إلى نحو عشرين ألفا، أي بتراجع بنسبة 23 في المئة.

وبنهاية نوفمبر الماضي انخفضت محفظة القروض التي تمنح للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم إلى قرابة 29.2 مليار دولار على أساس سعر الصرف الرسمي من 59 مليار دولار في نهاية 2018.

وتعتبر الجمعية أن “التطورات المالية خلال العامين الماضيين في ظل استمرار التلكؤ في إيجاد حلول فرضت واقعا جديدا على الاقتصاد ومؤسساته ومواطنيه”.

وفي وقت الذروة بلغ حجم القطاع المصرفي ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي المحلي، وكان معدل نموه يعادل ثلاثة أضعاف معدل نمو الاقتصاد. ووسّعت مصارف كبرى نطاق عملها إلى خارج لبنان وصولاً إلى أوروبا وأفريقيا.

وقدمت فروع 63 مصرفا في لبنان فوائد عالية لجذب المودعين، وفضل الكثيرون في السنوات التي سبقت الأزمة إيداع أموالهم وتعويضاتهم في القطاع بدل استثمارها طمعا في هذه الفوائد.

كما قدمت المصارف تسهيلات إزاء مروحة واسعة من القروض، بدءا من السكن ومرورا بشراء السيارات والسفر ووصولا إلى عمليات التجميل.

ويقول الخبير المصرفي جان رياشي “لم تعد البنوك اللبنانية تمارس أنشطتها المصرفية تقريبا، لذا فهي مضطرة إلى تقليص عملياتها”. وأضاف أن “معظم عائدات المصارف ارتبطت بفوائد جنتها من الدولة والبنك المركزي” مقابل الديون التي منحتها للدولة اللبنانية.

وتحمّل الأوساط المالية والشعبية مصرف لبنان المركزي مسؤولية السياسات النقدية التي تمّ اعتمادها طيلة عقود باعتبار أنها راكمت الديون، لكن حاكم المركزي رياض سلامة يقول إن “الدولة هي التي صرفت الأموال”.

ويرى المحلل الاقتصادي باتريك مارديني أنّ المصارف باتت عبارة عن “بنوك زومبي”، وهي تسمية غالبا ما تطلق على المؤسسات البنكية التي يتدخل المركزي من أجل إبقائها على قيد الحياة.

باتريك مارديني: المصارف باتت عبارة عن بنوك زومبي لأنها تتلقى الدعم

ويعتبر مارديني أن الحكومة الحالية “تبدو مهتمة بتنظيف ميزانيات المصارف” أكثر من إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

وتشكل إعادة الهيكلة أحد البنود الإصلاحية الرئيسية في بلد حل عام 2019 على مؤشر البنك الدولي في المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لناحية عدد الفروع المصرفية لكل مئة ألف شخص.

وقدّرت حكومة نجيب ميقاتي حجم الخسائر المالية للقطاع بنحو 69 مليار دولار ولم يعلن رسميا عن كيفية توزيع الخسائر بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف، وسط تخوّف المودعين من الاقتطاع من ودائعهم.

وجاء في خارطة طريق أعلن صندوق النقد الدولي في الحادي عشر من فبراير الجاري عرضها على لبنان أن “حجم الخسائر غير المسبوق في القطاع المالي يجب أن يعالج بطريقة شفافة مع حماية صغار المودعين”.

ويقول رئيس جمعية المصارف سليم صفير لوكالة الصحافة الفرنسية إن لبنان أشبه بـ”بلد متروك”، وسط تقاعس السلطات التي لم تقدم على أي “تحرّك فعلي” خلال عامين من الأزمة، سوى التخلف عام 2020 عن سداد ديونها الخارجية للمرة الأولى.

وتعتبر جمعية المصارف أنّ “أي إعادة هيكلة للقطاع خارج إطار خطة إنقاذية حكومية شاملة لن تؤدي إلى النتائج المرجوة”. وكانت إعادة الهيكلة أحد بنود خطة إنقاذية أقرتها الحكومة السابقة، فيما يبدو المشهد ضبابياً اليوم إزاء آلية تطبيقها.

وكان سلامة قد قال لوكالة الصحافة الفرنسية في وقت سابق إن المصارف تعمل حالياً على إعادة تنظيم نفسها وفق قدراتها، على أن يستمر بموجب عملية إعادة الهيكلة “المصرف القادر على التسليف”.

لكن في الشارع ما يقلق اللبنانيين ليس معرفة هوية المصارف التي ستستمر إنما مصير ودائعهم العالقة.

ويقول هشام متحفظاً عن ذكر اسمه الكامل، وهو رجل أعمال علقت وديعته بالدولار في أحد المصارف، “أريد استعادة مدّخراتي بأي ثمن”. ويضيف بانفعال “وضع القطاع المصرفي غير مفهوم وعلى كل الأطراف المعنية أن تتحمل مسؤولياتها في هذه المحنة”.

'