الكلمة المرتعشة بديلا عن الصورة المغبّشة – مصدر24

الكلمة المرتعشة بديلا عن الصورة المغبّشة

جارنا البقال كتب أكثر من لافتة معززة بالصور والتوضيحات داخل دكانه وعلى الواجهة، معلنا فيها ومبلّغا وملفتا انتباه زبائنه الكرام أنه لا يبيع السجائر.

ومع ذلك، يسأله العشرات من الزبائن كل يوم، وبمنتهى التلقائية، إن كان لديه دخان؟

ليس لأنهم لم يقرأوا أو ينتبهوا لتلك اللافتات المكتوبة بخط عريض ملوّن وأنيق، بل لتطمئن قلوبهم حين يسمعوا من عظمة لسانه عبارة “لا يوجد لدينا دخان”.

تُرى، ما سر هذا التعلق العجيب بالمنطوق والمسموع، وتفضيله على المرئي والمكتوب؟

لا يتعلق الأمر هنا بحالة من الأمية شبه المنقرضة كي نعلق عليها عدم اكتراث الناس بالمرئي والمكتوب، بل برغبة جامحة في سؤال منطوق ينتظر جوابا مسموعا.

وليست هذه المشكلة موجودة لدى البقال وحده، والذي سئم السؤال وصار يهز رأسه بالنفي عند طلب الدخان، ولكن دون جدوى.

معضلة تمجيد المسموع لدى عامة الناس تعدت البقال إلى جاره صاحب الكشك الذي وضع أسطوانة رقمية تكرر مدة 20 ساعة يوميا عبر مكبر الصوت “سجل لدينا رقم هويتك وتربح عند السحب جهاز تلفزيون من نوع كذا”.. تخيل هذا “الشاكوش” الذي يطرق على مسامعك كل لحظة، إن وقفت بعض الوقت عند باب الكشك.

وبصرف النظر عن أساليب الاستحواذ الوقحة للبيانات الشخصية بهذه الطريقة، كان الله أيضا في عون المارة والجيران على هذا التلوث الصوتي الفظيع.

الكاميرا العربية ظلت، ولا تزال “منقّبة” لردح من الزمن، فهي تخفي أكثر مما تُظهر، وذلك باسم الأخلاق والدين والمشاعر. وعندما خلعت هذه الكاميرا عن نفسها النقاب في الدراما والإعلام، تصدت لها الرقابة العربية باسم حماية المجتمع

لماذا يستعاض عن الصورة بالصوت في عالمنا العربي، وذلك على الرغم من تباهي الكثير منا بأننا نجاري الغرب المتقدم في دخول عصر الصورة التي هي أصدق إنباء من المكتوب والمنطوق؟

الكتاب والمتخصصون يعزون الأمر إلى ثقافة تأسست منذ المئات من السنين وسط بيئة قاحلة فقيرة الألوان ومتواضعة التشكيل البصري، مما يجعل الكلام أداة التواصل الوحيدة المتاحة، لذلك وصفوا الشعر بأنه “ديوان العرب” وأولوه أهمية فائقة في حياتهم.

جاءت أبحاث كثيرة لتدعم هذا القول مستندة على آراء المستشرقين بأن الحضارة العربية تستند إلى الصوتيات على حساب المرئيات.

ودعّم ذلك الحاضن الإسلامي الذي فضّل السمع وقدّمه على البصر كقوله في الآية القرآنية “إن السمع والبصر”، بالإضافة إلى أن نبي الإسلام قد تلقى الوحي بصفة صوتية وكلف أتباعه بحفظه ومن ثم تدوينه في مرحلة لاحقة.

وكذلك فعل فقهاء الدين حين استهجنوا الرسم والتشخيص ضمن منظومة فكرية تجنح نحو المجرد والمطلق الذي يعارض فلسفة الأيقونة، ويرى فيها هؤلاء حبسا وتقييدا لفكرة الذات الإلهية التي من الأجدر بها أن تعلو وتسمو فوق التصوير.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هو أن الصورة في الفقه الإسلامي لم يقع “إعدامها” بشكل نهائي، وذلك بدليل وجود رسام شهير ظهر في أواخر العصر العباسي ببغداد هو يحيى بن محمود الواسطي.

لقد ظلت الصورة تطل برأسها عبر فنون الأرابيسك وغيرها ثم إن اللغة العربية نفسها حبلى بالصور التي تتضمنها ويمكن استنباطها بصريا أكثر من أي لغة أخرى.

يضاف إلى ذلك كله، أن ثقافات إسلامية رديفة للعرب كالفارسية، لم تقمع الصورة رغم تشددها الديني.. هذا ناهيك عن العبرانية (ديانة موسى كليم الله) التي نشأت في بيئة بدوية شحيحة، ومع ذلك ظهر رسامون يهود كثيرون.. ويكفي أن أغلب من يتزعم سوق التسويق عبر الصورة الآن هم شركات ضمن منشأ يهودي.

المسألة إذن، أكبر من ربطها بالأبحاث الأنثروبولوجية والأصول التاريخية بل هي مسألة تربية حضارية تتحمل مسؤوليتها سياسات التعمية العربية، ويتحمل الغرب نفسه، الذي ينتقدنا في هذا الأمر، المسؤولية في ذلك أيضا.

الكاميرا العربية ظلت، ولا تزال “منقّبة” لردح من الزمن، فهي تخفي أكثر مما تُظهر، وذلك باسم الأخلاق والدين والمشاعر. وعندما خلعت هذه الكاميرا عن نفسها النقاب في الدراما والإعلام، تصدت لها الرقابة العربية باسم حماية المجتمع كما تصدت لها الجهات الغربية في الإعلام على وجه الخصوص، باسم الحفاظ على المشاعر الإنسانية والحماية من الصور الصادمة.

من رأى ليس كمن سمع، ومن سمع ليس كمن رأى.. قاعدة متشابكة ومحيرة يتجاذبها تقنيا التمويه عن الصورة أو الصوت بحسب طبيعة معايير الجهة المراقبة

هذه المظلومية المزدوجة واجهتها صناعة الصورة العربية فصارت كمن يهرب من الرمضاء إلى النار.. فقدت توازنها، عانت من الأجانب وظلم ذوي القربى فاعتكفت وخيرت الحديث المباح.

كيف نفسر عندئذ منعك من تصوير الأشلاء ومشاهد الدمار التي تسببوا في حدوث غالبيتها ثم يسوقون لك مشاهد أكثر فظاعة قائلين لك إن سلطات بلادك قد تسببت في حدوثها؟ أي “حلال عليّ وحرام عليك” كما يقول المثل العامي.

وأمام هذه المتاهة المربكة تصبح مقاطع الفيديو، التي تجرى عليها عمليات التظليل والتمويه لدواع إنسانية، هي صاحبة البطولة وفق قرارات الجهات المختصة في وكالات الأنباء العالمية المستندة إلى جمعيات إنسانية وحقوقية غربية بحتة.

من رأى ليس كمن سمع، ومن سمع ليس كمن رأى.. قاعدة متشابكة ومحيرة يتجاذبها تقنيا التمويه عن الصورة أو الصوت بحسب طبيعة معايير الجهة المراقبة.

ولو كان زبائن جارنا البقال واثقين من الملصقات البصرية والمكتوبة في محله حول بيع السجائر لاستنكفوا عن السؤال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الذين يسجلون أرقام هوياتهم في الكشك طمعا في الربح.

ثمة حالة انعدام ثقة في الصورة لدى المجتمعات العربية، وذلك لكثرة الكذب والتزييف والتمويه التي تظهر على الشاشات وتندرج ضمن البروباغندا السياسية، لذلك ركنت عامة الناس إلى الكلمة المسموعة عملا بالمقولة السائدة “اللي أعطى كلمته أعطى رقبته”.

والكلمة المسموعة والمنطوقة في بلادنا العربية كانت ولا تزال أصل عقود الزواج والطلاق والأمر والنهي، وأداء القسم ونطق الشهادتين، كما أنهت أقصى حالات التوحد الصوفي لدى الباطنية الوجودية.

وأخيرا، كلنا يذكر ما قاله أبونواس حول استكمال التعريف “اسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إن أمكن الجهر”، فهل نحن بالفعل، ظاهرة صوتية كما قال المفكر عبدالله القصيمي، أم طبيعة وجودية متأصلة في الذات البشرية؟

'