الكون محاكاة حاسوبية مصممة لخداع حواسنا – مصدر24

الكون محاكاة حاسوبية مصممة لخداع حواسنا

ما الفرق بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي؟ الجواب لا شيء. بل هناك اليوم تجارب علمية ترجح أن يكون عالمنا الذي نحياه من لحظة الولادة إلى لحظة الوفاة وبكل تفاصيله عالما افتراضيا يحاكي الواقع.

“رأيت في ما يرى النائم أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك. فراشة حقا ومن جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئا أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما خصائصي الإنسانية الذاتية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة وها أنذا منطرح على الأرض رجلا كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلا يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل”.

الحكيم الصيني جوانج زي صاحب حلم الفراشة، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وبالتالي يسهل الافتراض أنه لم يسمع بمحاكاة العالم الافتراضي بالمعنى الذي نستخدمه اليوم، ولكن “حلم الفراشة” الذي رواه يشكك بالواقع، الذي هو بالنسبة لجوانج مجرد انعكاس للفكر.

لا يوجد عالم مادي خارج الأفكار. للفرضية هذه تاريخ قديم، حيث اعتقدت معظم الثقافات والفلسفات أن الواقع عبارة عن وهم، بدءا بأفلاطون وفلسفته التي تتلخص في إثارة الشك في العالم الحسي، “حتى يعلم السائر في طريق التفلسف أن العالم الذي يعيش فيه هو عالم زيف وخداع”. فيسمي المعرفة التي تتناول العالم الحسي بـ”الظن”، أما المعرفة التي تتناول اللامرئي بـ”العلم” أو بـ”التعقل”.

أساس الكون بالنسبة لأفلاطون ليس المادة بل عمليات عقلية وأفكار مجردة. وكل ما نراه في هذا العالم إنّما هو صورة عن الحقيقة المثالية الكامنة بالعقل. وأن الوعي هو الأساس والمتحكم بجميع العمليات الفيزيائية. كل شيء يبدأ بالإدراك. العقل هو الذي يولد الإحساس المادي.

نك بوستروم: ما يميّز حجة المحاكاة هو أنها لا تبدأ من موقع شك
نك بوستروم: ما يميّز حجة المحاكاة هو أنها لا تبدأ من موقع شك

تساؤلات وجودية

من نحن؟ من أين أتينا؟ هل نحن وحيدون في هذا العالم؟ وهل توجد قوّة عظمى تتحكم في مصيرنا؟

منذ فجر البشرية، طرح البشر تساؤلات تتعلق بالوجود. وتفاوتت الفرضيات التي حاولت تقديم إجابات حول هذه الأسئلة. واحدة من تلك الإجابات تقول إن الواقع الذي نعيش فيه الآن غير حقيقي، وإنما نحن في محاكاة من صنع الكمبيوتر، تماما كما هو حال الكائنات في لعبة فيديو!

نحن -أنا وأنتم- مجرد كائنات افتراضية في كمبيوتر خارق، لا وجود ماديا لنا خارج العالم الافتراضي الذي نعيش فيه.

في مثل هذا الشهر (مارس 1999) عرض فيلم سينمائي، صنف ضمن الأفلام الخيالية، من تأليف وإخراج الأختين لانا وليلي وتشاوسكي وبطولة كيانو ريفز وكاري آن موس، تحدث الفيلم عن عالم افتراضي يسمى “المصفوفة” (ماتريكس) صنع من قبل أجهزة كمبيوتر خارقة، بهدف تدجين البشر والتحكم بسلوكهم.

هناك احتمال كبير أنكم شاهدتم الفيلم الذي نتحدث عنه، والذي سرعان ما تبعه ماتريكس 2 وماتريكس 3.

لم يكن الفيلم مجرد خيال هدفه جذب المشاهد بعرض أحداث تعتمد الإثارة والتشويق. بل وبشهادة صناع الفيلم ثورة في صناعة السينما الحديثة، وذلك لجمعه عناصر الإثارة والحركة والذكاء الاصطناعي وعلوم الكمبيوتر وتطبيقاته المستقبلية، مع عناصر فلسفية ورموز دينية متنوعة استقاها من مختلف الديانات، إضافة إلى إيحاءات ميثولوجية وفلسفية.

ما طرحه الفيلم منذ 22 عاما تطرحه اليوم “فرضية المحاكاة”، حيث تقترح أنّ كل الوقائع والأحداث، بما في ذلك الأرض والكون، ما هي سوى محاكاة متطورة. وبينما يظن البشر أنهم يعيشون في عالم مادي، هم في حقيقة الأمر يعيشون في عالم افتراضي، يمضون في حياتهم غير مدركين لذلك.

محاكاة حاسوبية

Thumbnail

ولكن، هل هناك أدلة علمية تجريبية تشير إلى أنّ العالم الذي نعيش فيه محاكاة افتراضية حقا؟ وهل نعيش في محاكاة حاسوبية؟

يرجح علماء أن العالم من حولنا هو مجرد محاكاة حاسوبية معقدة مصممة لخداع حواسنا.

خلال مؤتمر “كود” عام 2016 وجه سؤال لإيلون ماسك المدير التنفيذي لشركة سبيس أكس وتسلا موترز، من قبل الصحافي جوش توبلوسكي، إن كان قد فكّر باحتمالية أن نكون مجرد جزء من محاكاة. وكانت إجابة ماسك أن “فرص كوننا حقيقة مقابل كوننا محاكاة هي واحد بالمليار”. ما يعني أن ماسك على يقين بأن الكون ومن فيه من البشر محاكاة حاسوبية ضخمة.

قد يبدو ذلك غريبا في البداية، ولكن ألا يذكر هذا الرد بالفكر الميثولوجي، حيث قوى خارقة تتحكم بمصير البشر. يؤكد العديد من الخبراء والفلاسفة أن هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها بالأدلة التجريبية، ولكن الفلسفة قادرة على تقديم شروح قد تدفعك إلى التشكيك بواقعك.

 

أفلاطون: كل شيء يبدأ بالإدراك.. عقلك يولد الإحساس المادي
أفلاطون: كل شيء يبدأ بالإدراك.. عقلك يولد الإحساس المادي

 

هذا الرد الغريب مبنيّ على حجة وجودية تم نشرها من قبل نك بوستروم عام 2003، ومقارنة مع الحجج الفلسفية الأخرى التي تتعلق بالتشكيك في الوجود، تبدأ حجة المحاكاة وتبني على “ما هو موجود” وليس على الغيب.

وفي هذا يقول بوستروم “ما يميّز حجة المحاكاة هو أنها لا تبدأ من موقع شك، بل تبدأ من افتراض أن كل شيء هو على ما يبدو عليه”.

الفيلسوف السويدي بوستروم قيمة علمية عالية، لذلك لا يستخف بأقواله. اشتهر بعمله في المبدأ الأنثروبي ودراسة المخاطر التي تتعرض الحضارة والبشر وكوكب الأرض والمبدأ الإنساني وأخلاقيات التعزيز ومخاطر الذكاء الخارق. أسس برنامج أكسفورد مارتن حول آثار تكنولوجيا المستقبل، وهو المدير المؤسس لمعهد مستقبل الإنسانية في جامعة أكسفورد. أُدرج في عامي 2009 و2015 ضمن قائمة أفضل 100 مفكر عالمي في مجلة فورين بوليسي.

يفترض بوستروم وجود حضارة ذكية تمتلك قوة حاسوبية فائقة يمكنها استخدام جزء من هذه القوة في إنشاء محاكاة لأحداث جديدة مع كائنات “واعية” بداخلها. ويؤكد أن “حجة المحاكاة تنهي نظرة للمستقبل بناء على ما نراه اليوم، وتحديدا تطور الكمبيوترات مع الوقت، حيثُ يتطور كلّ من الواقع المعزز والواقع الافتراضي بسرعة، وسنتمكن في المستقبل القريب من إجراء عمليات محاكاة متقدمة إلى درجة لا يمكن التمييز بينها وبين الحياة الواقعية. أي عمليات محاكاة تملك وعيا وقدرة على اختبار الأشياء بالطريقة التي نجربها بها”.

لم يكن مستغربا أن ينقسم العلماء في مواقفهم من ورقة بوستروم العلمية وتحليل احتمالية صحّة الفرضية التي قدمها. رغم ظهور أكثر من تحليل يؤكد احتمال كوننا كائنات تعيش في واقع حقيقي، ويساوي ذلك تقريبا احتمال كوننا كائنات افتراضية، بالإضافة إلى أن تمكّن البشر من إنشاء محاكاة بداخلها كائنات “واعية” سيجعل احتمال أننا افتراضيون ونعيش في كمبيوتر أحدهم احتمالا أكبر، لكن يكمن اللغز في مفهوم “الوعي” نفسه وهل يمكن محاكاة الوعي والإدراك الذي يمتلكه البشر بشكل مماثل؟

ما بعد الإنسان

 

لست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلا يحلم بأنه فراشة أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل
لست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلا يحلم بأنه فراشة أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل

 

ثلاثة سيناريوهات اقترحها بوستروم لما يسمى بنظرية المحاكاة، معتقدا أن أحدها على الأقل يجب أن يكون صحيحا.

السيناريو الأول يقول إن الحضارات لن تصل إلى النضج التقني أو عصر ما بعد الإنسان (posthuman stage)، حيث تكون قادرة على إجراء عمليات محاكاة عالية الدقة لأسباب طبيعية أو بسبب قضائها على نفسها.

والسيناريو الثاني يفترض أن حضارات ما بعد الإنسان ستصل إلى مرحلة النضج التقني، ولكنها غير مهتمة بإجراء عمليات محاكاة للماضي.

أما السيناريو الثالث فيفترض وصول حضارات ما بعد الإنسان إلى مرحلة النضج التقني، وفي الوقت ذاته ستكون مهتمة بإجراء عمليات محاكاة للماضي، حيث ستسمح التطورات التقنية للمجتمع بإجراء محاكاة ذات أبعاد هائلة، مما ينتج عملياتِ محاكاة تفوق عدد الأشخاص الحقيقيين، وهذا يعني أن احتمالَ كونِ “الشخص” محاكاة يفوق احتمال كونه شخصا حقيقيا.

لنفترض الآن أن السيناريو الثالث هو الصحيح، كيف لنا أن نعرف أننا نعيش في عالم واقعي حاليا؟ وكيف لنا أن نتأكد أننا لسنا جزءا من محاكاة حاسوبية يتم إجراؤها على عالم ما بعد الإنسان؟

النتائج نفسها توصل إليها تقرير نشرته دورية Scientific American عن احتمال أن نكون جزءا من عملية محاكاة تشكل أساسا حقيقيا للوجود، مع تفضيل كوننا نعيش في واقع حقيقي قليلا!

رغم قبول البشر عبر التاريخ بوجود قوى خارقة، إلا أن قبول أننا جزء من عملية محاكاة يبقى أمرا صعبا حتى على بوستروم نفسه، الذي اعترف في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي الأميركي الشهير لاري كينغ أنه يجد صعوبة في المجادلة ضد هذا الاحتمال، قائلا “تنظر إلى قوة الكمبيوتر لدينا اليوم وتقول، لدي القدرة على برمجة عالم داخل جهاز كمبيوتر. حسنا تخيل المستقبل حيث لديك قوة أكبر من ذلك، ويمكنك إنشاء شخصيات تتمتع بالإرادة الحرة، أو بتصور خاص للإرادة الحرة”.

ويعتقد عالم الفلك في جامعة كولومبيا ديفيد كيبينغ أنه من غير المرجح أن تنتج الأجيال اللاحقة من المحاكاة عوالم خاصة بها.

وقام الفلكي بدراسة الأرقام في نظرية الدكتور بوستروم، باستخدام ما يسمى “طريقة بايزي”. وسمحت له هذه الطريقة بتحديد الاحتمالية، من خلال الجمع أولا بين السيناريوهين الأول والثاني في اقتراح واحد، لأن نتيجتهما متطابقة.

 

إيلون ماسك: فرص كوننا حقيقة مقابل كوننا محاكاة واحد بالمليار
إيلون ماسك: فرص كوننا حقيقة مقابل كوننا محاكاة واحد بالمليار

 

ومع ذلك، فهو يعتقد أن الاحتمالات ستتغير بشكل كبير في اليوم الذي نطور فيه القدرة على خلق الوعي داخل واقع محاكاة.

لكن، لو افترضنا أننا نعيش في واقع افتراضي، فهل يمكننا اكتشاف عيوب في هذه المحاكاة؟

من نحن؟

هومان أوهادي أستاذ الرياضيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، قدم إجابة عن السؤال السابق فقال “إذا كانت المحاكاة تتمتع بقوة حوسبة غير محدودة، لا يمكنك التحقق من معرفة أنك تعيش في واقع افتراضي، لأن المحاكاة ببساطة تستطيع حساب درجة الواقعية التي تريدها، وإذا كانت لدينا فرصة في اكتشاف هذه المحاكاة فيجب أن تنطلق من مبدأ أنها تتمتع بقدرات حوسبة محدودة. فكّر مرة ثانية في ألعاب الفيديو التي نصنعها والتي يعتمد معظمها على برمجة ذكية لتقليل الحوسبة المطلوبة لبناء عالم افتراضي”.

من جانبها شاركت عالمة الفيزياء في جامعة ميريلاند زهرة داوودي في النقاش حول فرضية المحاكاة، وأكدت هي الأخرى إمكانية الكشف عن محاكاة في حال تمتعت بقوى حوسبية محدودة.

وتقول زهرة في تعقيبها على ذلك “إذا تمكنّا اليوم من صنع نواة ذرة الهيليوم، ربّما بعد عشر سنوات سنتمكن من محاكاة نواة أكبر منها، وبعد 20 أو 30 سنة قد نتمكن من محاكاة جزيء حتى نصل بعد 50 سنة إلى إمكانية صنع شيء بحجم عدّة بوصات، ونصل في النهاية بعد 100 عام مثلا إلى محاكاة العقل البشري!”.

العلم الذي أزاح يوما الفكر الغيبي، يعود اليوم ليطرح أسئلة أكثر غموضا، لنعود معه للتساؤل من جديد: من نحن؟ من أين أتينا؟ وهل توجد قوّة عظمى تتحكم في مصيرنا؟

مع النظريات التي تقول إن الكون، بمن فيه، هو جزء من محاكاة حاسوبية، وطالما أثبت العقل البشري امتلاكه لقدرات لا نهائية على طرح أسئلة تتحدى إدراكه لما هو حقيقي، يبدو أن الأسباب التي تدفعنا للمرور بأزمة وجودية لن تنتهي.

لا شك أننا نتساءل الآن، ونحن نقرأ هذه الكلمات، إن كان وجودنا نحن أنفسنا حقيقية أم مجرد محاكاة!

'