المفكر السريع صناعة تلفزيونية يفهم في كل شيء ويصرخ – مصدر24

المفكر السريع صناعة تلفزيونية يفهم في كل شيء ويصرخ

يتهم التلفزيون والمؤسسات الإعلامية في تونس بالمساهمة في تسطيح العقول والاكتفاء بالجانب التجاري، حيث تحولت المنابر الإعلامية إلى مؤسسات إشهار فقط، ولم تنفتح على تقديم مادة ثقافية أو تعليمية لخلق التوازن، بل صار التلفزيون يشجع من خلال بعض مواده على الجريمة والعنف، والوضع يسوء يوما فآخر.

شهدت تونس بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 حركية كبيرة في بعث القنوات التلفزيونية والإذاعات الخاصة وتعددت الجرائد والصحف الورقية والإلكترونية والمواقع الإخبارية الافتراضية.

كانت غاية هذه المنابر في البداية خلق تعددية إعلامية للمساهمة في بناء تونس الحلم، تونس أخرى ممكنة، حرة وديمقراطية، تؤمن بالاختلاف والتنوع وتكون متطورة فكريا وثقافيا وجماليا واقتصاديا من خلال كشف الحقائق ومقاومة الفساد وتقديم برامج فكرية وفنية وعلمية تعمل على الارتقاء بالذوق العام ونشر المعرفة والأفكار التنويرية، وتشارك في رقي وتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتخلق ديناميكية فكرية وتحرك الوعي الفردي بغية إفراز مجتمع واع يواكب نسق الشعوب الواعية والتحضر.

 ولكن للأسف كان كل ذلك مجرد شعارات جوفاء، فسرعان ما تبخر الحلم ودخلت البلاد في نفق مظلم، وأصبح اللهاث والسباق من أجل زيادة نسبة الإقبال والمشاهدة المحرك الأساسي لأغلب تلك القنوات، وتحول رهانها إلى عرض أي سلعة أو بضاعة تدرّ على أصحابها أكثر ما يمكن من المال من خلال نسبة المشاهدة، ما أدّى إلى تنافس مؤسسات الإعلانات لضخ أموال طائلة بغية خلق سوق أشمل وأوسع لترويج منتوجاتها.

تحولت المحطات التلفزيونية إلى دكاكين وفضاءات تجارية تبيع المواد الغذائية، من معجنات ومحليّات ولحوم وحليب ومشتقاته ومواد أخرى للتنظيف والتجميل والإكترونيك والميكانيك وغيرها من المنتوجات.

وما يدعو للاشمئزاز هو أن بعض القنوات أصبحت مختصة في الترويج للشعوذة والتنجيم والسحر مستغلين ذلك للتأثير على نسبة الإقبال المرتفعة من المشاهدين البسطاء، ومن ثمة تعتمد تلك القنوات وحتى الإذاعات الخاصة كل الطرق والمناهج والأساليب المعقولة وغير المعقولة والعابثة بالذوق العام والخاص.

رهان هذه المنابر الإعلامية واحد هو التلاعب بعقول المشاهدين من خلال عملها الدائم على تشكيل وتطويع الرأي العام لما يتناسب مع الجهات المهيمنة عليها وعلى الإعلام كالسلطة المالية لرجال المال والأعمال والعائلات الحاكمة التي يخيفها تحقق كل الشعارات والمطالب التي ثار الشعب لأجلها كالحرية والكرامة والعدالة، ويرعبها أن يكون الشعب مثقفا وواعيا لأن همها الوحيد حماية ممتلكاتها ومكتسباتها والترفيع من ثروتها والحفاظ عليها، وكذلك السلطة السياسية التي تسعى من خلال التلفزيون إلى لتأثير على الشارع والتحكم في الناس وتوجيههم فتحول التلفزيون أو الإذاعة إلى مجرد مكان يستعرض فيه الصحافيون أنفسهم وقدراتهم، دون تمعن وعمق وحرفية في البحث عن المعلومة بل أصبح الصحافيون ومقدمو البرامج والمحللون يعتمدون على ما يروج على شبكات التواصل الاجتماعي والإشاعات من دون بحث أو تقصّ.

غياب المثقفين

برامج هدفها التسلية الفارغة
برامج هدفها التسلية الفارغة

في ظل غياب مشروع ثقافي، وطني حقيقي يرتقي بالشعب وعدم توفير الدولة لأماكن وفضاءات ومؤسسات للترفيه والتسلية، وشحّ المعلومات لدى المؤسسة الإعلامية العمومية، استغلت تلك المؤسسات التلفزيونية والإذاعات الخاصة فضول المشاهدين وحاجتهم إلى المعلومات وإقبالهم على برامج التسلية والترفيه التي تنتهج أساليب مبتذلة من خلال الهزل المتسرع والسطحي والتهريج والنكت المقرفة.

فتحت هذه المؤسسات المجال لكل الذين يحدثون ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي وأعطتهم مساحة بتقديمهم في شكل أبطال، لكنهم للأسف مجرد نماذج سخيفة ورديئة يقع تقديمها لتكون نماذج يقتدى بها في سرعة النجاح وبلوغ الشهرة، فتؤثر على نسبة كبيرة من المشاهدين، وتقوم باستقطابهم لمستنقع الشهرة السريعة دون ذوق أو تفكير أو التزام بمسؤولية.

لقد استغلت هذه القنوات تعطش المجتمع التونسي بكل فئاته إلى مشاهدة إنتاجات فنية تونسية فعملت بكل طاقتها لمدة 10 سنوات على إنجاز مسلسلات تتمحور أغلبها حول فئة المجرمين والأبطال الخارقين في الفساد بشتى أنواعه، كالمتاجرة في المخدرات وكل الممنوعات وإبراز الشباب ذوي العضلات المفتولة والوشوم والحلاقة الغريبة، كنماذج يفتتن بها جيل من المراهقين.

 وهو ما حدث في الواقع بالفعل حيث وجدنا الكثير من المراهقين متأثرين بشخصيات درامية غير مدروسة، ما زاد في تكريس العنف بالمدارس وأزقة الأحياء وشتى الشوارع، بما أن الأعمال الدرامية كرست نموذج المجرم الذي يلاقي النجاح السريع ويفلت من العقاب ويحقق الثروة والحضور.

القنوات التلفزيونية والافتراضية هي المساهم الأساسي في تسطيح العقول لتسهيل التحكم في الشعوب وإدارتها

كما عملت هذه المؤسسات الإعلامية على تقديم نموذج العائلة المفككة والأبناء اللقطاء على أنها ظاهرة منتشرة في المجتمع، من دون الاستناد إلى بحوث أو إلى إحصائيات ومعرفة بالواقع، ودون الاستعانة بخبراء في العلوم الاجتماعية وعلم النفس لتحديد الانزلاقات والمخاطر التي يمكن أن تحدث جراء بث تلك المسلسلات الخطيرة، وهذا ما أدّى فعلا إلى تشكل جيل جديد من “أبناء مفيدة”، نسبة إلى مسلسل تونسي بنفس العنوان قُدّم خلال خمسة مواسم، ونماذج من “علي شورب” وهو مسلسل عن شخصية شعبية تونسية بقيت عالقة في الأذهان كرمز للعنف.

 ولم تكتف تلك القنوات بهذا فقط بل سعت أيضا إلى خلق هوّة بين جهات البلاد وطبقاتها فقدّمت أعمالا درامية تحتل فيها شخصية الريفي القادم من الشمال الغربي مرتبة المهرج والأحمق، شخصية مضحوك عليها من خلال سذاجتها وغبائها.

 وتفننت شتى الأعمال في ترذيل شخصية الريفي بمختلف الطرق والأساليب، كأن تكون هذه الشخصية جاهلة لا تعرف الحب ولا تعرف الأدب ولا الذوق، فهي شخصيات غريبة وجوفاء تشعر طبقة من سكان الحواضر والمدن بأنهم ملة أخرى متحضرة وراقية، ومن جهة أخرى تقدم المتمدنين وسكان الأحياء الراقية بأنهم منفتحون ويعيشون بشكل أنيق وراق ويستمتعون بالجنس والمال والحياة الجميلة، حتى تكون حياتهم بمثابة الحلم لسكان الأحياء الشعبية والمناطق الفقيرة.

لقد عملت تلك القنوات وبمختلف الأساليب على تغييب الكتّاب والشعراء والباحثين والعلماء والفلاسفة الجيدين والحقيقيين عن الحضور في برامجها، وفسحت المجال لمجموعة من المتسلقين الأغبياء والحمقى وجعلت منهم أبواق دعاية وصراخ في “حفلة تفاهتها”.

كما أقبلت أيضا بنهم على تقديم برامج الربح السهل للمال مستغلة حلم الأغلبية من المواطنين في كسب المال والثراء، وباتت تستثمر حتى في آلام ومآسي الناس من خلال البرامج الاجتماعية التي تعطي مساحة إلى الحاضرين للحديث عن مشاكلهم، التي يتكتمون عليها حتى عن ذواتهم للمشاهدين، وتقديم نماذج عديدة من المآسي الأسرية وغيرها. وهذا ما ساهم في تفكك المجتمع أكثر فأكثر، وتعويده على قبول مختلف المشاكل على أساس أنها عادية.

تأبيد الفشل

لهو لا يرتقي لصناعة المتعة
لهو لا يرتقي لصناعة المتعة 

من خلال كل ما ذكرناه سابقا تعمل تلك القنوات على تحقيق رغبات أخرى ألا وهي تسطيح العقول وتخريبها وتدميرها والتحكم في الشعوب وإدارتها وتوجيهها إلى ما يشتهيه أصحاب تلك القنوات وأحزابهم وساستهم، فتحوّل أغلب الصحافيين ومقدمي البرامج والمحللين إلى مجرد بيادق وحجارة فوق رقعة شطرنج الدمار والخراب التي يرسمها لهم أصحاب السلطة.

أصبح كل شيء مباحا لديهم فتلاعبوا بالأحداث المقدمة عبر الشاشات والإذاعات وتفننوا في حجب المعلومات الحقيقية من خلال التلاعب

بالمصطلحات والمفاهيم، فيستخدمون مصطلح “فنان” ويطلقونه كصفة على كل عديمي الموهبة والوعي الذين يؤثثون بهم برامجهم، و”نجم” و”بطل” على كل من حقق نسبة مشاهدة مرتفعة على مواقع التواصل الاجتماعي، في المقابل يوصف أي مفكر حقيقي يقومون بدعوته بالغامض وغير المفهوم، ويجب عليه التبسيط للعامة ووصف النخبة بأنها في برج عاجي وعليها النزول إلى مستوى الشعب.

المحطات التلفزيونية والإذاعية تعمل على تغييب المفكر النزيه والحقيقي وتقوم بصناعة المفكر السريع الذي يفهم في كل شيء

 وبأسلوبهم هذا يخلق هؤلاء مسافة وهوة بين النخبة والشعب ويصنعون نماذج لمفكرين آخرين ينشرون الابتذال، إضافة إلى اعتمادهم صيغة المبالغة والتفخيم والتهويل في هذه المصطلحات وغيرها لجذب اهتمام المشاهدين والسيطرة على حواسهم، وبذلك يصنعون من الأحداث غير المهمة أحداثا مهمة ويحولون الأحداث المهمة إلى أحداث غير مهمة، والحق إلى باطل والباطل إلى حق والمثقف الحقيقي إلى مسكين لم يجد مأكلا وملبسا، وكل ما هو فكري وفني إلى كل ما هو غير فكري وغير فني، وغايتهم من هذا التلاعب تحقيق أهداف خفيّة يصعب على المشاهد العادي ملاحظتها، ألا وهي صناعة مجتمع جاهل تافه يسهل التحكم فيه.

هذا إضافة إلى الغياب الكلي للبرامج الثقافية والفكرية والنقاشات الجادة التي تمكّن من حضور المختصين في الفنون والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وباقي العلوم الأخرى، وطرح قضايا كبرى تهم المواطنين وترتقي بذوقهم ووعيهم وتحثهم على التفكير وإعمال العقل، وكذلك تعمّدهم عدم إعطاء فرصة لظهور نماذج ناجحة في مختلف المجالات حتى يقتدى بها، والعمل على استقطاب النماذج الفاشلة وتقديمها كأبطال ليحتذى بها إلا في ما ندر، وكأنه من عاداتنا الاحتفاء فقط بالفشل في شكل من تأبيد هذا الفشل والإلقاء بالنجاح بعيدا عمّا هو في متناول الأيدي.

ثورة إعلامية

صورة

 نجد أن أغلب المحطات التلفزيونية والإذاعية تعمل على تغييب المفكر النزيه والحقيقي وتقوم بصناعة المفكر السريع الذي يفهم في كل شيء ويحلل كل شيء، ويكون الصراخ والتشنج أسلوبه الدائم، وعندما يحضر يحدث مشكلة بإمكانها أن تسلط عليه الضوء بشكل يجد نفسه – هذا المثقف السريع – متورطا في تزييف الوعي ومشاركا رئيسيا في لعبة محو الفكر والثقافة الجادة، وهذا ما أدّى إلى استبعاد خطاب جيّد التركيب، يقدّم عبر الأشكال التعليمية العارفة والعميقة شيئا فشيئا من برامج التلفزيون والإذاعة، ليحل محله خطاب ساذج ومتحذلق.

من المحزن جدا ألّا نجد برامج تهتمّ بالأطفال وبرامج وثائقية يمكن للمشاهد أن يستفيد ويتعلم منها وأخرى تعليمية تربوية، ومن المخزي والعار ألّا تقدم تلك القنوات مسرحية جيدة في الأسبوع، أو فيلما مميزا، ويقع نقاشه ضمن برنامج جدلي عميق خاص بالمسرح والسينما، من المؤسف أيضا عدم تقديم حفلة موسيقية رفيعة، وغياب التشجيع على المطالعة من خلال فقرات تهتم بالكتاب والكتّاب وتقديمهم كنماذج يقتدى بها، عبر أساليب جديدة مبتكرة، لا هي ترويج فجّ لكتب بعينها ولا هي تلقى على المتابعين مثل الوصايا، بل في تفاعل وبطرق وأشكال متنوّعة.

لِمَ لا نرى برامج لنوادي الفكر والاختراعات العلمية والتكنولوجية تذاع وتبث ضمن برمجة وسائل الإعلام لتشجع المشاهدين على التفكير والمعرفة وتطوير قدراتهم؟ لِمَ كل هذا البؤس الثقافي الإعلامي؟

 أليس من الممكن تغيير العقول والمساهمة في بناء مجتمع يشعر فيه الفرد بالاحترام والرفاه والرغبة في الحياة والعيش من خلال إعلام ثقافي وطني وإعلاميين مثقفين؟

ليكتمل مشروع بناء تونس الحرة والقوية والتي يحلو فيها العيش لا بد من ثورة إعلامية ثقافية لا مكان فيها للجهلة والحمقى.

'