المكان بطل الشاعر العُماني وملهم قصيدته – مصدر24

المكان بطل الشاعر العُماني وملهم قصيدته

تشكل قصيدة النثر العُمانية جزءا لا يتجزأ من مشهد قصيدة النثر العربية، حيث كانت بداياتها مواكبة لانطلاق القصيدة وحضورها داخل متن التجربة الشعرية العربية، وقد استطاعت أن تخلق فرادتها من خلال جماليات تجريبية حداثية مبتكرة وارتباطها العميق بتشكيلات ومفردات للبيئة والواقع العُماني وبتفاعلات شعرائها وحراكهم داخل المحيط الثقافي العربي.

انطلاقا من سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم تطوّرت رؤى قصيدة النثر العُمانية، لتنفتح على مضامين موضوعية، ومرتكزات فنية تتجلى في تطوّر النص الشّعري الحديث واستقائه من أنواع سردية متنوعة.

ومن ثمة ظهرت تجارب كل من سيف الرحبي وسماء عيسى، التي تزامنت مع ظهور قصيدة النثر العربية، ثم كانت تجارب زاهر الغافري، وصالح العامري ومحمد الحارثي أبرز شعراء الجيل التالي للروّاد، تلتها تجارب طالب المعمري، وعبدالله البلوشي، وعبدالله حبيب، وعلي المخمري، وهاشم الشامسي، وعادل الكلباني، وهلال الحجري، وزهران القاسمي، وفاطمة الشيدي، وبدرية الوهيبي، وإبراهيم سعيد وفتحية الصقري، الذين بدأت قصائدهم تنفتح على مضامين موضوعية، ومرتكزات فنية يتجلى فيها تطوّر النص الشعري واستقائه من أنواع سردية متنوعة.

حضور شعري حداثي

هذه القصيدة كانت محور دراسة الناقدة العُمانية عزيزة الطائي “السرد في قصيدة النثر العُمانية.. أشكاله ووظائفه”، حيث اهتمت بتحليل تسريد الخطاب في قصيدة النّثر في عُمان بين الحكي الشّعري وشعرية الحكي، وذلك استنادا على “تجارب كتابية تعيد بناء مفاهيم شعرية متحرّرة من القالب الشعري التقليدي القديم، مستنطقة الأجناس الأدبية، بهدف تأسيس حضور شعري حداثي خاص بها. حتى غدت قصيدة النثر تتمازج في حركية تفاعلية بين الشعري والسردي بقالب رصين، مراهنة على إعادة بناء روابط القصيدة بالذّات والمجتمع والتاريخ والإنسانية جمعاء، وتنوع النّصوص في تمظهرات حكائية متناسقة مع أنساق العلاقات والتناصّات والمتضادات والخطابات المتباينة في المتن الشّعري المبني على النسق السّردي”.

والحقيقة أن جمالية قصيدة النثر لا تكمن في شكلها، بل في جوهرها القائم على “الصّراع بين حرية النثر والصرامة المنظمة للقصيدة، وبين الرغبة في الهروب من اللغة وضرورة استخدام اللغة”، وبهذا فهي تتأسّس على اتجاهات مختلفة تسعى إلى تحطيم الشكل الشعري، وصناعة الشكل الجديد في آن واحد؛ للوصول إلى المجهول والمطلق في قصيدة النثر.

عزيزة الطائي: قصيدة النثر العُمانية مشحونة برؤى الحياة وشعريتها

تقول الطائي في دراستها الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، “تولّدت رغبتنا في بحث هذه القضية من رأي حصل لدينا عند متابعتنا للمُنجز الشعري في عُمان، ومواكبته للشعر العربي المعاصر، ولاسيما في نماذجه التي أسهمت في بناء شعرية مختلفة عن التي كرّسها الأسلاف المباشرون لتأسيس حركة قصيدة النثر منذ بداية الخمسينات وحتى مطلع التسعينات؛ وخلصنا إلى أن النزوع إلى أن تسريد الخطاب الشعري الحداثي في الممارسة الشعرية أدّى إلى تجديد الأساليب الفنية، وهو ما أفرز بالتدريج شعرية مغايرة للنماذج السائدة في قصيدة النثر في عُمان”.

وتتابع إن “توظيف الشعر للسرد ظاهرة قديمة تكاد تكون ثابتة في المدوّنة الشعرية العربية قديمها وحديثها، وفي الشعر العالمي أيضا. ولقد أفضى التقصّي في تسريد قصيدة النثر العُمانية إلى البحث في غمار بدايات تشكلها، ورأينا أن ظهورها تزامن مع ريادتها عربيا، في بداية السبعينات على يد سماء عيسى في ديوانه: امرأة مثل ماء الينابيع، وتلاه سيف الرحبي في ديوانه: نورسة الجنون. ولاحظنا أن قصائد النثر في عُمان منذ بدايتها وحتى الآن تشكل منظومة تستحق التتبّع والدرس، إضافة إلى ما تميز به خطابها من أنساق ثقافية، وقد اهتدينا إلى دواوين تكشف قدرة الشاعر العُماني، وجرأته على الخوض في غمار التجريب والتحديث”.

وتشير الطائي إلى أن مساءلة قصيدة النثر العُمانية هي في حقيقة الأمر مساءلة نقدية لحضور الشعرية بوجه عام، شعرية مشحونة برؤى الحياة، وخلخلة القيم المتوارثة مع نسيج السياق الثقافي العربي؛ هكذا تتناسل القصيدة العُمانية، وتتجدّد مع عاصفة تغير بُنى القصيدة، وإعادة بناء قوامها بحلية جديدة تحكمها علاقة داخلية تمثّلت بالذّات المتشظية مع نفسها، وأخرى خارجية بتفاعلها مع المحيط حولها.

وتضيف “بهذا استطاعت القصيدة العُمانية تحطيم الثوابت، وإعادة بناء خصائصها الفنية، وإنتاج ثيماتها الموضوعاتية التي تتّسق مع الحياة الجديدة بما فيها من كينونة شعرية، ومرتكزات نقدية. وهي بهذا قصيدة لا تتآلف مع القوالب والحدود، بل إنّها جاءت لتدمير هذه القوالب التقليدية تدميرا يتماهى مع رغبة الشاعر في تدمير كل ما من شأنه أن يقف دون حياة الإنسان بلغة شعرية، هي قصيدة تستوعب الجروح المعاصرة والضياع الوجودي المفضي إلى حدود العدمية”.

ولعل هذا ما مكّن قصيدة النثر من مهمتها اللغوية، ومضامينها الوجودية، كما أنها “أسهمت في التحوّل من الشعر فالقصيدة ثم إلى الكتابة، كمنجز يخوض معارك من أجل ترسيخ خطاب شعري لا يؤمن بالتجنيس أحادي الرؤية، بل على العكس لكتابة شعرية حداثية هجينة تستمد معطيات شاعريتها من القصة، والمسرحية في تداخل إيجابي يعصف ببنية الخطاب”.

وتؤكّد الطائي أن الحكي في قصيدة النثر العُمانية أسّس لبنة نصية قوامها نصوص هجينة بين الشعرية والإنشائية، ما يدل على أن هناك نصوصا تداخلت وتفاعلت مع أنواع أدبية أخرى كالقصة والسّيرة.

وتقول “فعندما تذهب قصيدة إلى النثر فإنها تستثمر السرد الذي أصبح آلية جمالية مناسبة لحوار الذّات مع نفسها، ومع العالم؛ وهذا يدعونا إلى استثمار شعراء النثر من السرد والاغتراف من روافد أدبية أخرى معنية بتطوّر بنية القصيدة والذهاب إلى ما وراء اللغة باستخدام اللغة، وتحطيم الأشكال؛ وخلق أشكال، والهرب من الأدب، لتصبح قصيدة النثر نوعا أدبيا مصنفا. فإذا كان السرد يستمد معطيات بنائه من رؤية الراوي الخارجية متمثلة في الشخصيات، فإن الشعر يستمد معطياته من مكنونات الشاعر الداخلية متمثّلة بالبوح”.

تجارب رائدة

رموز قصيدة النثر العُمانية.. جرأة الخوض في غمار التجريب والتحديث
رموز قصيدة النثر العُمانية.. جرأة الخوض في غمار التجريب والتحديث

جاءت دراسة الطائي في تمهيد وبابين تتخللهما فصول تتسق في نسيج مضموني يتخلل كل باب منهما، في الباب الأول، ركّزت على بنية الحكاية السردية في النص الشعري في أربعة فصول تناولت تجارب محمد الحارثي، وزاهر الغافري، وبدرية الوهيبي، وإبراهيم سعيد، وفاطمة الشيدي، وزهران القاسمي، وصالح العامري، وعبدالله البلوشي، وفتحية الصقري، وعبدالله الريامي، وعلي المخمري، وطالب المعمري، ويحيى الناعبي، وعبدالله البلوشي.

واشتغلت في الباب الثاني على مدارات السرد ووظائفه المندرجة في البنية الشعرية، ما مهّد للقارئ سبر أغوار مضامين الحكاية الشعرية ورؤاها المعرفية. وأعقبت كل باب بخاتمة تُبرز خصائص القصائد التي ضمنتها فصوله.

وتخلص الطائي إلى عدة سمات فنية وجمالية لقصيدة النثر في عُمان، منها: أولا، إن قضية تسريد القصيدة الشعرية ليست بجديدة على الشاعر العُماني، فقد نظم أسلافه قصائد طويلة جسدوا فيها الحكاية بأسلوب سينمائي درامي، منح القصيدة انسيابية السبك الإيقاعي، والوحدة العضوية للسرد.

كتاب الباحثة الأكاديمية عزيزة الطائي اهتم بتحليل تسريد الخطاب في قصيدة النثر في عُمان بين الحكي الشعري وشعرية الحكي

ثانيا، تأثر الشاعر العُماني بالبيئة الجغرافية المتنوعة، وتمثلها بشكل يجعل من المكان بطلا يستلهم منه الشاعر، ويصوغ منه رموزا عدة. فهو المكان المنشود، وهو الملاذ الرحمي بين أحضان الطبيعة، وهو التاريخ والطفولة والإرث والذكريات في فضاء جامع بين المثالية والواقعية، وهو المعيش اليومي وهو الأصل والجذر والتاريخ، وهو التّيه والغربة والضياع والجحيم والتصنيع والتطبيع، وهو الجذور والمدنية، هو الفرع والأصل، هو الفراغ الفسيح والاختناق الضيق.

ثالثا، توظيف الرموز التراثية، واستثمار الوقائع التاريخية وربطها بالواقع، عبر وحدات شعرية متناثرة بشكل متراتب ومتفاوت بين شاعر وآخر. وهذا ما يؤكّد توحّد العلاقة عند الشاعر بين الماضي والحاضر. تلك العلاقة التي أفرزت حكايات متضادة بين القرية والمدينة، الحضور والغياب، الانغلاق والانفتاح، ومنحت تشكيلا إيقاعيا ينفتح على أنواع سردية تفاوتت بين المرجعي والتخييلي.

رابعا، قارب الشاعر لغة الحياة اليومية في أدق تفاصيلها، ما أكسب لغته تشكيلا قائما على مستويين رئيسيين: مستوى العين المجردة، ومستوى الخيال الخلّاق. الأمر الذي منحه تجريب تقنيات حديثة كالدراما والسيناريو عند تخطيط المشاهد، وتنفيذ حضورها وتحويلها إلى خطاب يجمع بين الشعر والنثر. فجسّد في المتلقي المشاهد تجسيدا بصريّا، ومكّنه ذلك من تحقيق سمتين: أولهما، تسجيل الأداء الشفهي تسجيلا بصريّا. وثانيهما، تجسيد دلالة حدث ما تجسيدا بصريّا.

خامسا، استثمار النظام الرقمي، وعلامات الترقيم، والفراغات البيضاء، وأحرف الربط ما عزّز التشكيل البصري، ودلالات المعاني، وإيحاءات التراكيب لإفهام المتلقي والسير معه نحو الفكرة المنشودة؛ ولعلّ هذه سمة استقاها الشاعر من تقنيات الشعر الحديث، فالشعر “يستمد تقنياته الإبداعية من انحرافاته الأسلوبية التي طالت معايير البنى الموسيقية، واللغوية”، وهو ما يؤكّد أن القصيدة الحديثة تنشد التحرّر من القيود؛ ولأن النص الشعري من طبيعته التجاوز والخرق فقد استدعى الشاعر علامات الترقيم لتوظيف تعبيراتها عن الوجود، والسخرية، والدهشة أمام ما يحدث في واقعه؛ الأمر الذي منحه التفاعل مع العلامات والدوال والفراغات بما تتضمنه من دلالات وظيفية مألوفة وغير مألوفة.

'