النقد الصحافي متهم بتشويه الأدب – مصدر24

النقد الصحافي متهم بتشويه الأدب

هل ترقى المتابعة الصحافية، أو ما تمّ التعارف على تسميته بالنقد الصحافي، إلى مستوى الأعمال الإبداعية فتفيها حقّها أو بالعكس تغمطها؟ سؤال يطرح بحدّة خاصة بعد أن صارت القنوات التلفزيونية والمواقع الاجتماعية تنافس الصحافة الورقية وتبتدع ألوانا من الفضاءات لترغيب القراء وترويج الكتاب.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، كتب إميل زولا يقول “لم يعد لنا نقد بأتمّ معنى الكلمة، إذ ناب عنه عرض عاديّ يسحق المبدع بمراكمة التفاصيل كي يشبع فضول الجمهور، أمّا التحليل الواعي، ودراسة الأثر، فلا وجود لهما”.

ويخلص زولا إلى أن الصحافة أقصت النقد كما أقصت الأدب. ويتحدث عمّا آلت إليه الصحافة بعد أن هجرها عدد من الكتاب كانوا ينشرون قصصهم أو حلقات متتابعة من رواياتهم، ويتولّون نقد كتب زملائهم، أو يبدون آراءهم في ما يجدّ من ظواهر أدبية وثقافية، ويثرونها أحيانا بجدل يبلغ مبلغ المعارك الحامية.

التخصص الصحفي

(لوحة للفنان سليمان جوني)
(لوحة للفنان سليمان جوني)

رغم موقف زولا من النقد الصحافي فإنه ظل قائما حتى اليوم، لأن الصحف لا يمكن أن تستغني عن التعريف بالكتب والكتاب، لكونهم جزءا من حياة المجتمع، فإن جُعلت لنقل ما يجدّ فيه من أحداث وظواهر ونزاعات واكتشافات، فإنّ النشاط الثقافي عموما، والأدبي خصوصا، هو من مظاهر نشاط ذلك المجتمع.

والنقد الصحافي يمارسه صحافيون محترفون بطبيعة الحال، ويمارسه أيضا كتّاب متعاونون، بصفة قارّة أو عارضة. هذا النقد يتميز بوضوح عن النقد الأكاديمي، الذي مهمته التشريح والتحليل وخلق تصنيفات، وتَبيُّن كلّ مسار مخصوص وفق منهجية معلومة، قد تتغير بتغير صاحبها، وهو ما يحيل على المسعى العلمي، لا على الكتابة الذاتية.

أما النقد الصحافي، بوجهيه، فهو ذاتي، فيعكس ثقافة محرّره ومدى اطلاعه على الحقل المعرفيّ أو الأدبيّ الذي ينتمي إليه النص المنقود أو الظاهرة المقترحة، وقدرته على الصياغة والإقناع. فالنقد الجيد يقوم على معرفة تامّة بالجنس المعني، والآثار القريبة منه، فهو يقارن ويرتب ويحلل، ولكن من منظور ذاتي، خلافا للعمل الأكاديمي.

ولو ألقينا نظرة على ملاحق كبريات الصحف والمجلات الفرنسية مثلا لوجدنا نوعا من التخصص، يمارسه صحافيو المؤسسة، ويمارسه أيضا كتاب وفلاسفة وعلماء ومؤرخون، لهم حضور في الساحة الثقافية، من جهة الإنتاج المنشور، ومن جهة المساهمة في الندوات والملتقيات، فلا يكتب غالبا في التاريخ سوى المؤرخ، ولا في الفلسفة سوى المفكر، ولا في الرواية سوى الروائي، ولا في العلوم الإنسانية سوى عالم اجتماع أو أنثروبولوجيا أو بيداغوجيا.

ويحدث أن يكتب الصحافيون المحترفون في غير اختصاصهم، وهذا نادر، ولكنهم يتزوّدون بما ينبغي معرفته من أهل الاختصاص، سواء بقراءة مؤلفاتهم أو محاورتهم مباشرة أو حضور دروسهم ومحاضراتهم. كلّ ذلك حرصًا منهم على تقديم ما يفيد القارئ العادي، وحتّى القارئ العليم.

وهذا ما تحرص عليه بعض الصحف العربية التي تحترم قراءها، غير أن الأمر متروك على عواهنه لدى البقية، حيث يختلط الحابل بالنابل، فتتوازى مقالات نقدية جادّة يكتبها أدباء وشعراء وأكاديميون وصحافيون متمرّسون، عارفون بأصول الجنس المنقود، فتفي الأثر حقّه، تبدي مواطن الجدّة فيه، وتشير إلى الهنات التي اعتورته، مع مقالات أخرى متهافتة، نحسّ أنْ ليس من دور لأصحابها سوى تقديم عروض سطحية لآخر الإصدارات، يغلب عليها التسرع، وإصدار الأحكام الاعتباطية، بمدح وقدح لا يناسبان المقام في الحالين، بل تفرضها علاقات من خارج المتن.

النقد المتهافت

Thumbnail

ينتج عن ظاهرة النقد المتهافت غمط لنصوص جيدة، واحتفاء بما لا يستحق حتّى العرض والتنويه. والغريب أن الفئة التي تقوم به تشكّل سلطة، يخطب ودّها الكتاب، المبتدئين خاصة، فهي التي تختار ما يعرض، فتفتح الباب للأصدقاء والمقرّبين وتغفل عن سواهم، دون اعتبار لقيمة الأثر المعروض.

والأخطر من كلّ ذلك أنّ ثمّة من يورّق الكتاب فلا يقرأ منه إلا بضع صفحات، ثم لا يستحي أن يبدي رأيه فيه، بل ثمة من يكتب عن كتب لم يقرأها أصلا، فيكتفي بسماع ما يردّده الكتّاب في المجالس، أو ما يصرّح به المؤلف في ندوة، ثمّ يحبر مقالة توهم بأنه  مطّلعٌ مواكب، عارف بكل صغيرة وكبيرة.

 وقد عرفت خلال مسيرتي المهنية من يكتفي بذكر عدد صفحات الكِتاب ونقل الفهرس وانتقاء بعض الفقرات التي ترد في التقديم أو في ظهر الغلاف، بل تبلغ به الجرأة أحيانا إلى الاعتراض على ما ورد في المقدّمة، فينتقدها وينتقد كاتبها بشدّة توحي بأن الرجل غاص في الكِتاب وسبر عمقه وألمّ بكل جوانبه؛ وأنه يحمل من الزاد الثقافي والمعرفي ما يؤهله للتعالي على المؤلف نفسه.

وما زلت أذكر مقالته التي كتبها عن أولى رواياتي بعد أن غادرت تونس، حيث أطنب في الحديث عن الحي الذي دارت فيه الأحداث، بذكر عموميات لا علاقة لها بالرواية، فضلا عن كونها خاطئة، ثم انقض على آخر فقرة فيها ليتّهمني جهارا بالتواطؤ مع اليهود بعد هجرتي إلى باريس، والحال أني رويت ما شاهدت بأمّ عيني يوم الخامس من حزيران، حين خرج التونسيون في مظاهرة عارمة، وأقدم بعضهم على تحطيم محلاّت اليهود.

اختفى البطل فجأة، فراجت شائعات، من بينها أنه شوهد على رأس زمرة من الشباب تحطم محلات اليهود وتهتف: “فلسطين عربية!”، أغلب أولئك الشبان الذين تحدثت عنهم أعرفهم حق المعرفة، وكانوا صنّاعا في مصاغات اليهود بالمدينة العتيقة.

النقد الصحافي للأعمال الأدبية ضروري للمتابعة، ولكن قيمته تظل رهينة قيمة ممارسيه، وأمانتهم المعنوية والأخلاقية

 ولكن صاحبنا زعم أن القوميين العرب هم وحدهم من خرجوا في ذلك اليوم للتنديد بإسرائيل، وأنّ من قال عكس ذلك، ولو استثناء، فقد تبنّى ما روّجه الصهاينة عن تظاهرة زعران لا يمثلون مجتمعاتهم.

هذه الظاهرة لا تخص الصحافة المكتوبة وحدها، بل تشمل الإعلام المرئي أيضا. منذ شهر تقريبا، أرسل إليّ أحد الأصدقاء شريط فيديو عن حصة ثقافية بقناة تونسية تحدثت فيها سيّدة لا أعرفها عن إحدى رواياتي، فقالت قول واثق إنها تروي سيرة شاب تونسي قصد فرنسا للدراسة، فانساق وراء الجنس، وإذا المنشط وضيوفه يستحضرون طه حسين ورواية “أديب”، وتوفيق الحكيم و”عصفور من الشرق”، والطيب صالح و”موسم الهجرة إلى الشمال” ليبيّنوا أنّه موضوع مستهلك، قبل المرور إلى كتاب غيره.

ما يترك في أذهان المشاهدين، وحتى الحضور، فلا أحد منهم قرأ الرواية، أن المؤلف لم يقم سوى بإعادة إنتاج ما ابتكره السابقون. ولو قرأت السيدة المحترمة الكتاب حقّا لوجدت أن غاية البطل لم تكن الدراسة، إذ يقول منذ السطر الأول: “جئت لأبرأ من علّتي. جئت إلى باريس لأشفى من دائي”.

وو اكتفت بما كتبه الناقد أحمد ممّو على ظهر الغلاف بأن الرواية بحث عن الذات وسعي وراء معنى الوجود وتصوير لصعوبة الاندماج في مجتمع رافض، جعل البطل يلوذ بالقرية التي فيها نبت وإليها يعود، لوجدت ما تعمّر به تلك الثواني التي منحها إياها فضيلة المنشّط، الذي يقدّم كتبا لا يعلم فحواها. ولولا ضيق المجال لأوردت أمثلة لا تحصى عمّا يلقاه الكِتاب من هؤلاء الأدعياء.

وجملة القول إن النقد الصحافيّ ضروري للمتابعة والمواكبة، ولكن قيمته تظل رهينة قيمة ممارسيه، وأمانتهم المعنوية والأخلاقية.

'