اندثار الحرف اليدوية يساوي خسارة المجتمعات لجزء من هويتها – مصدر24

اندثار الحرف اليدوية يساوي خسارة المجتمعات لجزء من هويتها

عندما يحاول العالم فهم ثقافة أي أمّة اليوم لا يجد وسيلة أفضل من دراسة فنونها وحرفها، إذ أن الأسلوب والطريقة اللذين يصنع بهما الناس ويصممون منتجاتهم يعكسان نظرتهم للأشياء، ويقال عنهم ما لا يمكن إخفاؤه. لكن بعض المجتمعات أهملت الحرف اليدوية لمصلحة المنتجات المستوردة والمقلّدة، ما ينذر بإلغاء الصناعات التقليدية المحلية، وبالتالي خسارة هذه المجتمعات للكثير من ثقافتها.

تونس – “لا تترك لنا المنتوجات الآتية من تركيا أي مجال للعمل” تقول أحلام (33 عاما) وهي صاحبة ورشة خياطة صغيرة تختص في اللباس التقليدي التونسي الذي يصبح الطلب عليه كبيرا جدا خصوصا في فصل الصيف. وتؤكد أحلام أن الطلب الكبير أصبح من الماضي حتى أنها تفكر في تحويل الورشة إلى محل لعرض اللباس التركي هي الأخرى.

ولا تعتبر أحلام استثناء، إذ ينوي حوالي 50 في المئة من الحرفيين في تونس تغيير نشاطهم المهني، وفق معطيات الجامعة التونسية للصناعات التقليدية.

وبالنسبة إلى أحمد تاجر المنتوجات النحاسية الذي يمتلك محلا صغيرا في أسواق المدينة العتيقة، فقد أكد أيضا “هذا المحل الصغير كان يشغل خمسة أشخاص، لكننا اليوم اثنان فقط، لم نعد نحتمل تكاليف تشغيل الثلاثة الآخرين.”

وكانت أسواق كالسراجين (الذي تصنع فيه سروج الخيل الجلدية) والسكاجين (أين تجمّل جلد السروج) والقلالين (أين يصنع الفخار) والصبّاغين (أين يصبغ الصوف والقطن والحرير) والدبّاغين (أين تدبغ الجلود) والشواشين (السوق الذي يضم الحرف المتعلقة بصناعة الشاشية) والبلاغجية (سوق بائعي البلغة، وهي نوع من النعال القديمة) والعطارين (صانعو العطور بمختلف أنواعها) والنحاسين (صانعو النحاس) والحرايرية (صانعو الحرير) والحصايرية (صانعو الحصير) تحتضن حرفا تقليدية كانت تشكل في الماضي ركيزة من ركائز الاقتصاد التونسي بعد الاستقلال. وهذه الأسواق، التي اختفى معظمها، ليست مجرد أنهج تجارية بل هي شريان التواصل بين الأجيال مثقل برموز ثرية .

وتعتبر الصناعات التقليدية قطاعا حيويا في الاقتصاد التونسي، فهو يشغل ما يقارب 350 ألف حرفي وتاجر كما أنه يمثل 4.5 في المئة من الناتج الداخلي الخام.

وفاقمت الأزمة الصحية لكورونا من مشاكل قطاع الصناعات التقليدية.

ويقول رئيس الغرفة الجهوية لتجار الصناعات التقليدية برهان بن غربال “تضرر قطاع حيوي كالصناعات التقليدية خسارة وطنية، فهو أحد أبرز أعمدة الهوية التونسية.”

تاريخ عريق

نتاج حضاري
نتاج حضاري 

تعتبر أكثر الصفحات الخالدة حضورا في سجل التاريخ البشري، الإرث الإنساني والقيم الحضارية التي ترصد وتوثق الهوية الوطنية للمجتمعات البشرية. ومن أبرز تلك الموروثات والقيم والثقافات التي تعاهدتها الأجيال عبر القرون الطويلة، الحرف والصناعات اليدوية.

وتعتبر الصناعات التقليدية نتاجا حضاريا للآلاف من السنين من التفاعل الحي بين المجتمعات المحلية، بما تحمله من رؤى وقيم حضارية، وبيئتها الطبيعية، وبينها وبين المجتمعات الأخرى، وهي مكون أصيل للذاكرة الحضارية، خاصة في شقها التقني، ورصيد مخزون للخبرات الحياتية والإمكانيات الإنتاجية الذاتية المتاحة داخل كل مجتمع محلي.

وتبدو أهمية هذه الصناعات في أنها تغطي مدى بالغ التنوع والاتساع كما أنها واسعة وقابلة للانتشار حتى لأصغر وحدة اجتماعية. كما تضم الصناعات التقليدية تراثا تقنيا اختبر بالممارسة عبر الأجيال، وهي بهذا المعنى تعطي اتجاهات مستقبلية متميزة للتفكير والخيال، وبالتالي الإبداع المنطلق والمرتكز على خصوصيات حضارية.

وعُقد المؤتمر الدولي الأول للحرف اليدوية عام 1964 بنيويورك، وشارك فيه عدد من أساتذة الجامعات والفنانين والحرفيين من 40 دولة، وأسفر المؤتمر عن إنشاء المجلس العالمي للحرف اليدوية، واستضافت أمانته العامة مدينة أمستردام في هولندا.

وكان أهم ما خرج به المؤتمر آنذاك، عدة بنود أهمها تشجيع ومساعدة وتوجيه الحرفيين ورفع مستوى معرفتهم المهنية والمعلوماتية، خاصة في ما يتعلق بالخلفيات الثقافية المختلفة في كل دولة عضو، إلى جانب العمل على الحفاظ على الحرف اليدوية وتعزيزها وإظهارها كدعامة أساسية للحياة الثقافية للأمم، وخلق تضامن بين الحرفيين في جميع أنحاء العالم.

والحرف اليدوية عديدة ومتنوعة والبعض منها لا يزال يمارس وله وضعه الجيد اجتماعيا واقتصاديا. والملاحظ أن الاهتمام بهذا القطاع والحرفيين في الدول العربية شبه غائب مع العلم أن بعضها (الحرف) يمتلك ثقافة وتاريخا عريقا في هذا المجال ولديها الموارد البشرية التي تتمتع بالمهارات اللازمة للصناعة اليدوية وتؤهلها لتنافس الدول الأخرى بشكل كبير في العالم.

قطاع مهدد

الصناعات اليدوية تعاني من خطر الاندثار
الصناعات اليدوية تعاني من خطر الاندثار

أسهم فشل الحكومات في إبراز خصوصية الحرف اليدوية، في جعل أصحاب التخصص في التعليم الفني وكليات الفنون وغيرها يستبعدونها من خياراتهم المستقبلية، الأمر الذي يرشحها للانقراض خلال جيلين على الأكثر، كما يهدد بفناء التراث المحلي الذي يجد بعض الإقبال عليه حتى الآن، مثل صناعة السجاد والخزف والأقمشة والحلي التقليدية.

كما تسببت العزلة الطويلة للحرف اليدوية العربية عن التطورات العالمية في التخلف عن التطور الذي طال الحرف بعد أن أصبحت تستخدم أحدث صيحات التكنولوجيا، دون فقدان الخط الدقيق الفاصل بين الحرف اليدوية التقليدية والإبداع عالي التقنية.

ولم تستفد البلدان العربية كما ينبغي من اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي غير المادي التي أبرمت عام 2003 للحفاظ على الحرف اليدوية التقليدية، وضمان انتقالها من جيل إلى جيل.

وعرفت المنطقة العربية فنون الصناعات اليدوية وتوارثتها الأجيال حتى وصلت إلى أيامنا هذه، وتنوعت مع تنوع الموارد وتوافرها في البلدان العربية، حيث اشتهرت دول مغاربية بصناعة الفخار والخزف، والصناعات الفضية في سلطنة عُمان، وفي بلاد الشام ومصر برزت التحف الخشبية والنحاسية المنحوتة والفخار والزجاج والمنسوجات، وفي الخليج العربي ظهرت المنسوجات.

وتلك الصناعات على اختلافها وتنوعها كانت تلبّي حاجة المجتمعات العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بالإضافة إلى نشاط حركة التصدير عن طريق القوافل التجارية وغيرها للأسواق العربية والأجنبية.

إلا أن تطور الحياة والانفتاح الحاصل في المجتمعات العربية أديا إلى تنشيط حركة التقليد التي حلت محل الصناعات اليدوية المنتجة محليا إلى حد كبير، الأمر الذي جعل المهن التراثية والصناعات والحرف اليدوية تعاني من خطر الاندثار بسبب عزوف الناس عنها.

يعاني قطاع الصناعات التقليدية إشكاليات متعددة وكثيرة على غرار نقص اليد العاملة وعزوف الشباب عن العمل في هذه المهن، فضلا عن المنافسة المقلّدة لبعض المنتوجات المورّدة من الصين للمنتوج الأصلي. ويضاف إلى ذلك احتكار المواد الأولوية من قبل عدد من الشركات إلى جانب تردي ظروف العمل وغياب التأطير والمرافقة للحرفيين، وضعف الترويج.

ويقول لطفي بن أحمد، رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي النحاس التقليدي في تونس، إن الحرف التقليدية مهددة بالاندثار إذا ما تواصل توريد العديد من القطع التقليدية من النحاس

أو الفضة من الصين والتي تباع إلى زوار تونس على أنها قطع أصلية من الصناعات التونسية. ويضيف أن الخطر هو أن نفقد ثقة السائح في المنتوج التونسي وأن نبيعه سلعا صينية مقلّدة رخيصة الثمن وغير أصلية.

ويبيّن حرفي النحاس التقليدي أن هناك انفلاتا في توريد السلع المقلدة يمسّ بأسس حضارتنا وهويتنا، والخطر هو أن “نفقد هويتنا وخصوصيتنا الثقافية”.

ويؤكد أن التقليد مسّ العديد من المهن كالنحاس التقليدي والفضيات، وصناعات الجلد. ويبيّن بن أحمد، الذي يعمل في حرفة النحاس التقليدي منذ 28 سنة، “كنت أشغل لسنوات قرابة 30 حرفيا ولكن اليوم يساعدني فقط شاب وحيد رضي بالعمل في الحرف التقليدية”.

ويشاطره لمجد رحماني، الذي يقابل ورشته، توصيفه لواقع قطاع الحرف التقليدية وخوفه على مستقبل حرفته، مبيّنا أن “بعض السنوات القليلة وتنتهي الحرفة ومستقبل الصناعات التقليدية التونسية تماما إذا ما تواصل التهميش الحالي للحرفيين”.

دور الحكومات

الحرايرية حرفة تكاد تندثر في تونس
الحرايرية حرفة تكاد تندثر في تونس

يؤكد خبراء أن تجاهل الحرف اليدوية يساهم في تراجع الثقافة العربية. وترتفع الأصوات المطالبة بضرورة حماية ما تبقى من هذا القطاع في البلدان العربية وإيقاف التوريد وخاصة من الصين.

ويشكو أصحاب الأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة من أن تأثير المنتجات المستوردة والمقلدة وعدم الاهتمام الحكومي بمنتجاتهم لا يقلان عن تأثير الحرب على هذا القطاع المهم، ما أدى إلى إغلاق عدد كبير من هذه المشروعات.

ويطالب خبراء الحكومات العربية بالحرص على هذا التراث وحمايته والحفاظ عليه، داعين في الوقت نفسه إلى تكثيف الجهود للفت الانتباه المحلي والإقليمي والدولي إلى أهمية قطاع الحرف اليدوية كإشعاع حضاري إنساني، وبالتالي العمل على إحيائه وتوفير كافة وسائل الدعم اللازم له والعناية بالحرفيين وتقدير دورهم ومكانتهم في المجتمع باعتبارهم عنصرا أساسيا في بقاء التراث والحفاظ على استمراريته.

كما يطالبون بتوفير فرص التدريب والتكوين العام للحرفيين في الدول المختلفة لرفع مستوى مؤهلاتهم بما يمكنهم من التعامل مع تحديات المنافسة التي تصبغ العصر الحديث والدعوة إلى إنشاء مدارس وكليات تضم الحرفي والمهندس المعماري والمصّمم التقليدي وخبير التسويق بما يؤدي إلى التشاور المستمر وتبادل الخبرات والتجارب ومتابعة التكنولوجيا والمواد الحديثة وغيرها .

تضرر الصناعات التقليدية خسارة وطنية، فهي أحد أبرز أعمدة الهوية

ويؤكد الأستاذ في الجامعة اللبنانية مسعود ضاهر على ضرورة التخطيط للحاضر والمستقبل بهدف الحفاظ على الهوية الثقافية، وحماية التراث الشعبي والثقافة والمعارف التقليدية بعد تطويرها وتحديث أوليات العمل والإنتاج فيها.

ولفت إلى أن الأخذ بمقولات المعاصرة وأساليب عملها، لا يعني التخلي عن الهوية الوطنية والقومية في الفكر والممارسة ولا عن أنماط الحياة اليومية، مشيرا إلى أن وضع المعاصرة في موقع التناقض مع التراث أو الأصالة خطأ فادح.

وقال ضاهر إنه لا يمكن حماية الذات والهوية عن طريق رفض العلوم العصرية بل يجب استيراد التكنولوجيا المتطورة وتوطينها والإبداع فيها.

ويطالب حرفيون بحل مشكلة البطالة التي خلفتها المكننة، حين ألغت دور الإنسان الصانع المبدع، لأن كل مقاولة حرفية هي بمنزلة مدرسة للتكوين المهني.

وأكد خالد عزب رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية سابقا على ضرورة حرص الصناع على توقيع القطع المصنوعة بصورة يدوية مع إقامة سجلّ خاص بها تُعرف به، حتى يسهل عند تداولها وبيعها تتبع تاريخ صنعها، وهو أسلوب كان متبعا في الفنون الإسلامية قديما، حيث كان الحرفي يُسجّل في قوائم طائفته ويوقّع على منتجه، لذا أمكن تأريخ بعض التحف وتأصيل زخارفها تارة، وإعلاء قيمتها تارة أخرى، إضافة إلى أهمية تقديم الصنّاع المهرة لوسائل الإعلام.

'