بين التحليف بالله والتلويح بالقوة ..سدّ النهضة والإدارة المزاجية – مصدر24

بين التحليف بالله والتلويح بالقوة ..سدّ النهضة والإدارة المزاجية

في فترات التوتر، عقب حروب خارجية أو أهلية، وتطاحُن محليّ يلازم تفاعلات الثورات والانقلابات، تغلب على إدارة الدول سياسات انفعالية، فيكون الارتجال بطلا، ومفردات الخطاب السياسي عنوان توجهات مفاجئة داخليا وخارجيا، والتصريح التلفزيوني قرارا أكثر قوة من التشريعات البرلمانية.

وقبل نحو مئة سنة يمكن قراءة ملامح من هذه المشاهد بتنويعات مختلفة، في الاتحاد السوفييتي بعد ثورة 1917، وفي ألمانيا المهزومة في الحرب الأوروبية الأولى، وفي تركيا الجريحة الباحثة عن إيقاف النزيف. قبض على تلك المشاهد ثلاثة رجال تميزهم الإرادة الحديدية: ستالين، هتلر وأتاتورك. ولم يتلكأ التاريخ عن السير في دروب لم يتوقعها معاصرو بدايات تلك السياسات. فماذا عنا، هنا والآن؟

هنا في مصر، والآن بعد زوال خطر محلي سوّغ منذ يوليو 2013 ممارسات جائرة تجاه مواطنين مسالمين لا يزالون معتقلين لإبدائهم آراء ليست على هوى الانفعال الرئاسي. ومع انتهاء الخطر الإخواني أو تراجعه كان لا بدّ للسلطة أن تواجه الحقيقة، فلا يجدي التهرّب ولا التسويف ولا المراوغة مع قضية حياة، والحياة شعارها مياه نهر النيل.

وفي أزمة سدّ النهضة الإثيوبي تلخيص لهذا النهج المحكوم بالحالة المزاجية. في حالة الانبساط تكون الدعابة في مؤتمر صحافي على الهواء مباشرة باستنطاق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بتعهّد فكاهي، وفي حالة تعكّر المزاج يكون تهديد الرئيس عبدالفتاح السيسي بإعلانه أن حصة مصر في المياه مقدسة.

وفي مؤتمر صحافي بالقاهرة في 10 يونيو 2018 فرح السيسي وضحك وقهقه، وهو يأخذ على آبي أحمد تعهّدا بعدم إلحاق الضرر بمصر في ما يخص مياه النيل. استحلفه السيسي بالله، ونطق قسَما ردده الضيف الإثيوبي بصورة آلية، بحروف عربية متآكلة تقول إنه لا يعرف معنى الكلمات. صفق السيسي الذي دلت لغة جسده على السعادة بالإنجاز، ونطقت عيناه بالفرح، فاستغنى عن نظارة سوداء حجبت عينيه.

وفي 30 مارس 2021 وهو يطلق تحذيرا من قناة السويس بعد نجاح خبراء مصريين في تعويم السفينة الجانحة “إيفرغيفن”، قبضت يسراه على ميكروفون متحرك، وتوعدت يمناه بثقة، بضمّ الإبهام إلى السبابة، ثم أشار بالسبابة دليلا على الحزم.

وقال في 52 ثانية “أقول للناس كلها: محدّش يقدر ياخد نقطة ميّة من مصر، واللي عايز يجرّب يجرّب”، وأوضح أنه لا يهدد أحدا، فمصر تصبر، ودائما تسلك حوارا “رشيدا جدا”. ثم أكّد “محدّش يقدر ياخد نقطة ميّة من مصر”، واقترن التأكيد بحدوث “حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد، لا يتخيلها أحد. ومحدش يتصور أنه يقدر يبقى بعيد عن قدرتنا، لا”. وأتبع بأنه لم يتكلم بهذا الأسلوب من قبل، وأنه لا يهدد أحدا، وكرر مرة أخرى “ميّة مصر لا مساس بها، والمساس بها خط أحمر، هيبقى ردّ فعلنا في حالة المساس بها أمرا يؤثر على استقرار المنطقة بالكامل”.

وبانتهاء التعلل بالإخوان يأتي وقت الاستحقاق الحيوي لمصر. ومهما يتأخر هذا الاستحقاق، أو تشتد القبضة، فلا مفر من تقديم كشف حساب.

فماذا جرى لكي يحدث هذا التحول الجذري في الخطاب الرئاسي، من الملاينة إلى الانفعال وإعلان القدرة على الصدام، والتلويح بما يترتب عليه من مخاطر إقليمية؟ لا أحد يعرف ماذا جرى؛ فلا شفافية ولا مؤسسة قادرة على المحاسبة ولو كانت المحاسبة من صميم مهامها.

Thumbnail

هنا والآن، مع تغييب الشعب عن المشاركة في تقرير مستقبله، يكون الرئيس وحده لا شريك له المسؤول عن أي قرار، وعما يترتب على قرارته من آثار. في أخطر قرارين في القرن العشرين كانت الجبهة الداخلية صلبة. قرار حرب أكتوبر 1973 بما واكبه من توافق شعبي ورسمي وتنسيق دبلوماسي وعسكري. هذا التنسيق لم يحدث مثلا قبل حرب 1967، فقد اتخذ عبدالناصر قرار سحب قوات الأمم المتحدة من سيناء دون استشارة أي شخص في وزارة الخارجية.

وفي الواقع لقد أصدر تعليماته ببساطة إلى وزير الحربية لينقل الرسالة إلى الجنرال ريكي كبير مراقبي الأمم المتحدة، كما ذكر وزير الخارجية إسماعيل فهمي في مذكراته “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط”.

وأما القرار الأشهر فهو تأميم قناة السويس عام 1956. ولا يقل تعقيدا وخطورة عن قرار حرب 1973، ولم يكن قرارا انفعاليا ارتجاليا للرد على إهانة سحب تمويل السد العالي.

قرار التأميم سبقته خطة متكاملة تضمنت دراسات قانونية وحسابات للمخاطر والعواقب إقليميا ودوليا، فضلا عن توزيع أدوار دبلوماسية وفنية وهندسية وملاحية، ومعرفة إمكانات ورش الصيانة.

ولم تغفل الخطة الإستراتيجية تفاصيل مالية تخص المعاش التقاعدي للعاملين بالقناة، وحركة النقد الأجنبي من شركة القناة وإليها، وتعمد عبدالناصر إطالة خطابه ليؤخر إعلان قرار التأميم إلى العاشرة مساء؛ حتى تغلق بورصات لندن وباريس ونيويورك حيث تدرج فيها أسهم الشركة.

وبعد ساعتين، في الثانية عشرة ليلا، تم تغيير توقيعات من لهم حق التوقيع للبنوك، ليحل المصريون محل الأجانب في اليوم التالي مباشرة. فريق متكامل شارك في ملحمة التأميم، فمن يستشار اليوم في زمن الإلهام الرئاسي؟

يجيب عن السؤال السابق وجع عمومي يستقر في ذاكرة المصريين. ففي لقاء السيسي بالعشرات من السياسيين والبرلمانيين والصحافيين وأساتذة التاريخ والقانون الدولي والمجلس القومي لحقوق الإنسان في 13 أبريل 2016 بعد إثارة قضية جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، وإعلان التنازل عنهما بحجة ترسيم الحدود، لم يستمع إلى أحد، وبدلا من النقاش ألقى محاضرة ذات نبرة واحدة، وإذا ارتفع الصوت فللتباين بين تلقائية العامية ورصانة الفصحى لإثبات أن الجزيرتين غير مصريتين.

ولما طلب الكلمة عضو بالبرلمان انفعل السيسي غاضبا “أنا ما اديتش لحد الإذن إنه يتكلم”، وانقطع البث التلفزيوني. فهل تؤسس جبهة متوتّرة لإجماع وطني على قرار “يؤثر على استقرار المنطقة بالكامل”؟

تُستدعى زرقاء اليمامة بقول أمل دنقل “وها أنا في ساعة الطعان/ ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان/ دعيت للميدان!/ أنا الذي ما ذقت لحم الضأن/ أنا الذي لا حول لي أو شأن/ أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان/ أُدعى إلى الموت.. ولم أُدعَ إلى المجالسة!”.

كان نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في حيّ الفسطاط السبت 3 أبريل 2021 فرصة لوجود الشعب “في الكادر” أسوة باحتفال الجماهير عام 2006 بالملك رمسيس وإحاطتهم بتمثاله ومتابعتهم لرحلته ليلة كاملة انتقل فيها من ميدانه إلى المتحف الكبير. صدقا فعلوا بتحنيط الشعب “المتفرّج” أمام الشاشات يتابع المومياوات.

'