تجربة تونس في مكافحة الوباء تثير اهتمام الغرب – مصدر24

تجربة تونس في مكافحة الوباء تثير اهتمام الغرب

 برشلونة – يعكس منحى البيانات المتعلقة بخارطة انتشار وباء كورونا في تونس أن الجهات الصحية المعنية استطاعت احتواء عدد الإصابات والوفيات، حتى لو وضعت في الاعتبار حقيقة أن عدد السكان أقل من ثلث جيرانه في شمال أفريقيا وأن التونسيين قلقون من الارتفاع الأخير في أعداد الإصابات هذا الصيف.

وتتحدث الأرقام عن نفسها، فقد أودى الفايروس بحياة 73 ضحية في تونس حتى الآن، بينما تجاوز العدد في المغرب أكثر من ألف وفاة وبلغ العدد في الجزائر 1475، بينما أصيب 3323 تونسيا مقارنة بأكثر من 43 ألفا في الجزائر وأكثر من 57 ألفا في المغرب.

ويعتبر هذا النجاح أكثر شيء جدير بالملاحظة عندما تتم مقارنته بأرقام دول جنوب أوروبا وبريطانيا، فثمة عوامل تفسر لماذا مرت تونس بالوباء حتى الآن بسلام مقارنة بغيرها، رغم الاضطراب السياسي وتباطؤ النمو، ناهيك عن تهديد الإرهاب والفساد المستشري، الذي استمر تسع سنوات بعد الإطاحة بنظام الحكم الاستبدادي للرئيس زين العابدين بن علي.

نظام صحي كفؤ

تدابير سريعة للحد من الوباء
تدابير سريعة للحد من الوباء

لقد مرّ على تونس 12 وزيرا للصحة منذ عام 2011، ولكن كما يقول أحد كبار رجال الأعمال في تونس “نظام الحكم في البلاد سيء لكنه يُدار بشكل جيد”. ورغم تضخم أعداد الذين تم توظيفهم في الدرجات المتدنية منذ ذلك التاريخ، لا تزال الخدمة المدنية تدار باحتراف. ولعقود بعد الاستقلال، كان ذلك موضع حسد العالم العربي أجمع.

وعندما وصلت أخبار الوباء إلى تونس في بداية العام، كانت المؤسسة الطبية الأسرع من حيث رد الفعل عن نظيراتها في أوروبا، ناهيك عن الجزائر المجاورة.

ورغم فقدان المئات من الأطباء في أوروبا بسبب الاضطرابات في السنوات الأخيرة وتراجع خدمات المستشفيات العامة وما يقابلها من نمو في العيادات الخاصة، والتي لا يستطيع المواطنون العاديون تحمل تكاليفها، فإن الإنذار المبكر لنظام الصحة العامة في تونس نجح.

كما أنه مع كل نقاط الضعف في الديمقراطية، التي لم ترس جذورها حتى الآن، سمحت حرية التعبير بإجراء نقاش حيوي داخل المؤسسة الطبية وفي وسائل الإعلام.

وظهر أطباء القلب مثل فوزي حداد، الذي يمارس مهنته في مستشفى عبدالرحمن مامي التعليمي في ضاحية أريانة بتونس العاصمة، على التلفزيون لأول مرة، وحذر كبار السن الذين يعانون من مشكلات في الجهاز التنفسي وغيرها من المشكلات الطبية ونصحهم بأن يبقوا في منازلهم. وقال حينها “كل مرضاي فعلوا ذلك، وأصدر زملائي نفس التحذيرات، وكانت الثقة التي أظهرها الناس في الأطباء رائعة”.

وتتميز تونس بوجود عدد كبير من الشباب، حيث متوسط العمر 31، بينما يبلغ متوسط العمر في المغرب 26، وفي الجزائر 25، وهما دولتان سجلتا ارتفاعا في حصيلة الإصابة بالفايروس.

ويمثل الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما 9 في المئة من إجمالي سكان تونس وعادة ما يتم الاعتناء بهم داخل الأسرة. ولا يوجد الكثير من نزل كبار السن الخاصة أو في بقية شمال أفريقيا.

وقبل بداية الأزمة وتحديدا في منتصف يناير الماضي استشعرت وزيرة الصحة في ذلك الوقت سنية بالشيخ بشكل مبكر خطورة ما يحدث في الصين وذلك خلال اتصال مع نظيرتها الفرنسية آنذاك أنييس بوزين، التي حاولت طمأنة بالشيخ.

لكن، من وجهة نظر التونسيين المطلعين الذين تحدثت معهم، كان اثنان من كبار موظفي الصحة،  قد لعبا الدور الأكثر أهمية، وهما الدكتورة نصاف بن عليا، وهي مديرة المرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة، وقد ترأست هذه المؤسسة، التي بدأت العمل في 2008 وتعاونت عن كثب مع ألمانيا في وضع خطة للأمن البيولوجي تشمل البشر والحيوانات والبيئة، منذ 2015.

أما الموظفة الثانية فهي الدكتورة أمل بن سعيد، وهي مديرة الرعاية الصحية الأساسية في وزارة الصحة، وهي تتمتع بمسيرة مهنية متميزة تشمل العمل مع اليونيسف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكنها استقالت من منصبها أواخر العام الماضي احتجاجا على ما شعرت بأنه مواقف سياسية من قبل العديد من الوزراء والقادة السياسيين.

ومع ذلك، استمر فريق كبار الأطباء، الذي تحول بحلول فبراير الماضي إلى لجنة علمية لتقديم المشورة لوزير الصحة، في أداء دوره.

والأسبوع الماضي، تم استدعاء بن سعيد إلى منصبها السابق من قبل رئيس حكومة تصريف الأعمال إلياس الفخفاخ، الذي كان قلقا للغاية بشأن زيادة حالات الإصابة بالفايروس منذ مطلع أغسطس الماضي، وقد تنفس العديد من التونسيين الصعداء بعد إقالة الدكتور محمد الشاوش المثير للجدل والذي حل محل بن سعيد العام الماضي.

تاريخيا، تفتخر تونس بالعديد من الأطباء والمتخصصين المدربين بكفاءة عالية وأيضا بامتلاكها معهد باستور، الذي تأسس عام 1893 على يد تشارلز نيكول عندما كانت البلاد مستعمرة فرنسية.

وحصل نيكول، بسبب اكتشافاته حول مرض التيفوس، على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب عام 1926. وتوفي في تونس عام 1936 وأُهدي اسمه لمركز أبحاث الفايروسات الرئيسي بالبلاد، وهي مؤسسة حديثة مرموقة تتفاعل مختبراتها، التي يرأسها اليوم الدكتور هشام لوزير، مع الأبحاث التي تجريها شركات الأدوية الخاصة في تونس.

وفي هذه الدولة الصغيرة، يعرف الأطباء بعضهم البعض جيدا ويتفاعلون مهنيا واجتماعيا بسهولة كبيرة، كما يتفاعلون أيضا مع الخدمة المدنية.

ويشير المطلعون إلى أن الجماعتين اللتين لم يتم تقييد حريتهما في التعبير في ظل حكم بن علي هما المعلقون الرياضيون والهيئات الطبية، حيث ثلثي المتخصصين في الرعاية الصحية في البلاد من النساء.

أرضية قوية

أغلب المتخصصين في الرعاية الصحية في البلاد من النساء
أغلب المتخصصين في الرعاية الصحية في البلاد من النساء

كانت تونس قد أبرمت في 2012 اتفاقية مع المركز الأميركي لمكافحة الأمراض في أتلانتا، والتي ساعدت تونس على إنشاء نظام إنذار مبكر لأوبئة الأنفلونزا، وقد رأى المركز النور العام الماضي وتم تدريب الموظفين اللازمين بشكل كامل. وكنتيجة لذلك استفادت تونس منه بشكل كبير منذ ثمانية أشهر.

ولدى تونس مجالس صحية جهوية تعمل بشكل جيد وجميع المعلومات الواردة منها مركزية في وزارة الصحة. وقد تأكدت السلطات من الإبلاغ عن الحالات المشتبه فيها في أكثر المدن النائية. وعندما تم اكتشاف مجموعة صغيرة في جزيرة جربة الجنوبية، وهي منطقة سياحية معروفة جيدا، تم وضع الجزيرة تحت إغلاق صارم لأسابيع.

كما أن اتخاذ إجراءات الحظر السريعة والمحلية ساعد في وضع حد للوباء، حيث تم فحص درجات حرارة المسافرين القادمين من الخارج وطُلب منهم ملء استمارة طبية، والتي سلموها إلى الشرطة، مما سمح للسلطات بتعقبهم أثناء إقامتهم في تونس.

وإلى جانب ذلك، تفتخر تونس بصناعة صيدلانية ومختبرات صغيرة ولكنها متقدمة، فهي تنتج ما يزيد قليلا عن نصف الأدوية التي تستهلكها البلاد، وهي واحدة من أعلى النسب في كل أفريقيا، وتقريبا لا وجود للأدوية المزيفة، حيث أن مؤسسة فارماسي سنترال تتحكم في كل هذا جيدا.

واليوم تقوم المؤسسة بتصنيع مجموعات اختبار فايروس كورونا الخاصة بها، رغم أنها تستورد بعض المكونات النشطة من الخارج. وقد أثبت هذا النظام البيئي الطبي والصيدلاني أنه لا يقدر بثمن، كما هو الحال مع الحوار المستمر بين وزارة الصحة والحكومة والقطاع الخاص ومعهد باستور.

ومن هذا المنطلق يجب أن يكون رد الفعل على جائحة كورونا في سياق دولة تتمتع فيها المرأة بحقوق أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة، وذلك بفضل الأب المؤسس لتونس الحديثة، الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

وتلعب المرأة التونسية دورا رئيسيا في التعليم والرعاية الصحية والسياسة، منها الرئيسات التنفيذيات لشركات الأدوية، مثل سارة المصمودي رئيسة شركة ترياق، ونجلاء حمدي التي تترأس شركة سانوفي، والمهنيات ذوات المهارات العالية مثل الطبيبتين بن عليا وبن سعيد، وهن، بطريقة ما، “بنات بورقيبة” الحقيقيات.

قبل بداية الأزمة بشهرين استشعرت الأجهزة الصحية في تونس مبكرا خطورة ما يحدث في الصين

ومثل هؤلاء النساء المحترفات في جميع مناحي الحياة في هذه الدولة، وفي كثير من الأحيان أكثر من الرجال، فإنهن لا يخشين التحدث بآرائهن أمام الحكومة أو المسؤولين الأجانب، حيث أن المسؤولين التونسيين لا يفوتون فرصة الأخذ بنصائحهن، وقد يبدو ذلك مفهوما إذا انفتح التونسيون على التجارة وتبادل الأفكار والثقافة منذ تأسيس قرطاج قبل أكثر من 2800 عام.

ورغم تقليص الاستثمار العام في المستشفيات منذ 2011، لأسباب ليس أقلها تمويل الحرب ضد الإرهاب التي حفزها التدخل العسكري الغربي غير الحكيم في ليبيا، فقد أثبتت هذه الدولة أن إحدى الركائز الأساسية للحكومة، وهو النظام الصحي، يعمل بشكل جيد في أوقات الأزمات.

ونظرا لأن قيصر السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل يشجع على إعادة دعم بعض الصناعات الدوائية من آسيا إلى دول أقرب إلى أوروبا، فقد لا يتذكر هو والشركات الأوروبية والأميركية الكبرى أن تونس لديها الأطباء والفنيون المدربون جيدا الضروريون لعمليات التوسع في صناعة الأدوية الحديثة.

وتقوم الحكومة والقطاع الخاص حاليا بوضع اللمسات الأخيرة على خطة لتوسيع إنتاج الأدوية. ويأملون أن يشكل القطاع 40 في المئة من الصادرات بحلول عام 2025، مقارنة بنحو 18 في المئة اليوم.

كما تشمل الخطة التوسعية زيادة إنتاج الأدوية محليا من 51 في المئة إلى 62 في المئة وهذا من شأنه أن يخلق 4 آلاف وظيفة، فضلا عن أنه يمكن إنتاج الإمدادات الطبية الأخرى ولاسيما الملابس في بلد يتمتع بصناعة المنسوجات والإلكترونيات المزدهرة.

ولذلك، ليس من المفاجئ أن يظهر استطلاع نُشر مؤخرا أنه من بين المؤسسات الأربع الأولى التي يثق بها التونسيون، هيئة الرعاية الصحية، بينما الأقل ثقة هم الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان.

وتقدم الأشهر الأخيرة أيضا دليلا على أنه على عكس ما يدعو إليه العنصريون في الغرب، فإن كون المرء “عربيا” و”مسلما” لا يحكم على الناس بعدم الكفاءة، خاصة بعد أن أظهرت جائحة كورونا أن كونك “غربيا” و”مسيحيا” لا يوفر أي ضمان للحكم الرشيد في مسائل الرعاية الصحية.

'