جيل الإنترنت.. يُمْهِل ولا يُهْمِل – مصدر24

جيل الإنترنت.. يُمْهِل ولا يُهْمِل

إلى وقت قريب كان امتلاك آلة كاتبة، أو ما يعرف بآلة رقن، في بعض دول المنطقة دون موافقة أمنية مسبقة يعرض صاحبه لتهم أقلها التآمر على أمن الدولة، وكان توزيع منشورات أحزاب المعارضة عملا بطوليا لا تجرؤ عليه سوى قلة قليلة.

كانت أصابع الرقابة الأمنية تقلب بعناية صفحات المطبوعات المستوردة وتحذف عبارات تعتبرها خطيرة، أو تنتزع صفحات من كتاب ترى أنها تتضمن محتوى يسمم عقول الناس.

من عاش منكم في فترة الستينات وحتى الثمانينات، يعرف ذلك حتما. الكلمة حينها كانت أمضى من السيف، من امتلكها امتلك الحكم.

وكانت محطات الإذاعة، المحروسة غالبا بعناصر أمن مدججة بالسلاح ومحاطة بأسلاك شائكة وتبدو مثل ثكنة عسكرية، هدفا للساعين للقيام بانقلاب.

السيطرة على الإذاعة وبث الـ”بيان رقم واحد” مسبوقا بالنشيد الوطني، كان كافيا لانتزاع السلطة واعتلاء كرسي الحكم.

دخول الإنترنت بدل كل شيء، الأخبار تنتقل اليوم أسرع من الصوت. ومواقع التواصل التي حلت محل المنشورات والأحزاب، باتت تهدد وسائل الإعلام التقليدية.

وفاة أميني التي فجرت احتجاجات كبيرة في المدن الإيرانية، لو حدثت قبل 20 عاما كانت ستمر دون أن تترك وراءها أي أثر

نحن نعيش اليوم في عصر كل فرد فيه يمكن أن يمتلك مؤسسته الإعلامية الخاصة، ويذيع بيان انقلابه رقم واحد، دون أن تصده عناصر أمن مدججة بالسلاح، أو تحول بينه وبين كرسي الحكم الافتراضي صفوف المدرعات.

جيل الإنترنت الذي أمهل الأنظمة المستبدة والفاشلة حتى اليوم لن يصبر إلى ما لا نهاية. وبعد أن كانت الأنظمة تراقب الشعوب، أصبحت الشعوب هي من يراقب الأنظمة ويتصيد أخطاءها.

ما تشهده إيران من احتجاجات منذ وفاة مهسا أميني، لم يسبق لإيران أن شهدته من قبل، ببساطة لأن من يقف وراءه هو جيل الإنترنت الذي قد يُمْهِل، ولكنه حتما لن يُهْمِل.

وإذا كان السماح بالولوج إلى الإنترنت قد تسبب للحكومات الدكتاتورية بالمتاعب، فإن حجبها سيتسبب بمتاعب أكبر؛ الباب الذي تدخل من خلاله رياح الإنترنت، بات إغلاقه أسوأ من تركه مفتوحا.

رغم ذلك تحاول الحكومات المذعورة فرض رقابة على استخدام الإنترنت، تصل أحيانا إلى حد الإغلاق الشامل، لتكتشف سريعا أن هذا الإغلاق محاولة عبثية أشبه ما تكون بحجب الهواء.

حجب الإنترنت ممكن نظريا، ولكنه مستحيل عمليا. كل المحاولات التي بذلتها الحكومات الدكتاتورية للسيطرة على الإنترنت باءت بالفشل، والسبب ببساطة شديدة أن هذه الحكومات ستكون أول المختنقين.

الإنترنت اليوم أشبه ما تكون بغربال عملاق، إن تمكنت الحكومات من سدّ بعض ثقوبه، لن تتمكن من سدها كلها. حاولت الصين ذلك وفشلت. وأي دولة أخرى ستحاول ذلك ستواجه بالفشل.

إيران أيضا حاولت ذلك خلال الأيام الأخيرة ومنعت المحتجين الذين خرجوا للشارع من التواصل في ما بينهم. وكانت النتيجة اختناق الدولة قبل اختناق المحتجين.

الأربعاء الثاني عشر من أكتوبر، الساعة السادسة صباحا، حاول حكام طهران منع وصول الإيرانيين إلى مواقع الإنترنت العالمية عن طريق الهواتف المحمولة، وأعلنت “نت بلاكس”، وهي منظمة تراقب حركة المرور على الشبكة العالمية، عن تعطل هائل في حركة المرور على الإنترنت داخل البلاد.

وبالتزامن مع هذا الانقطاع الواسع، أعلنت بعض وسائل الإعلام الإيرانية المحلية عن تنفيذ مشروع “الإنترنت الوطني” لدى جميع المشغلين. فكل ما يأتي من الخارج، هو عمل من رجس الشيطان، يجب تجنبه والابتعاد عنه. ومن واجب الدولة حماية مواطنيها من آثاره التخريبية.

لن تستطيع الحكومة الإيرانية الصمود طويلا، حابسة أنفاسها، لأنها ستختنق. كما لن ينفعها أيضا تجنيد وسائل الإعلام ودفعها للحديث عن مؤامرة دولية لنشر الفوضى

وهو ما حاولت إيران فعله بشكل تجريبي في أغسطس 2021 بتطبيق قانون أسمته “حماية حقوق المستخدمين”، بهدف منع وصول الإيرانيين إلى مواقع الإنترنت العالمية.

ولكن، من سوء حظ آيات الله أن قطع الإنترنت لا يأتي دون ثمن.

خلال أيام معدودات فقط من قطع الإنترنت تحملت البلاد خسائر تقدر بـ17 ألف مليار تومان، وهو مبلغ “رهيب” للغاية حسب تعبير صحيفة “خراسان” التي نقلت الخبر، منوهة إلى تقرير لمنظمة الأعمال الإلكترونية في طهران، ذكر أن أكثر من 41 في المئة من الشركات خسرت ما بين 25 إلى 50 في المئة من أرباحها بسبب القطع، كما تراجعت مبيعات 47 في المئة من هذه الشركات بنسبة 50 في المئة.

ونقلت الصحيفة كلاما لمدير اتحاد الأعمال الإلكترونية، قال فيه إن دخل أكثر من 10 ملايين إيراني يعتمد على العالم الافتراضي، وبالتالي فإن قطع الإنترنت يشكل ضربة اقتصادية كبيرة على هؤلاء المواطنين.

لن تستطيع الحكومة الإيرانية الصمود طويلا، حابسة أنفاسها، لأنها ستختنق. كما لن ينفعها أيضا تجنيد وسائل الإعلام داخل البلاد ودفعها للحديث عن مؤامرة دولية لنشر الفوضى والشغب وزرع الفتنة في البلاد.

خطوات الإعلام المتثاقلة البطيئة لم تستطع مجاراة خطوات الإنترنت الرشيقة.

وفاة أميني التي فجرت احتجاجات كبيرة في المدن الإيرانية، لو حدثت قبل 20 عاما كانت ستمر دون أن تترك وراءها أي أثر. ولكنه غربال الإنترنت العملاق الذي مرت من خلال ثقوبه خمسة ملايين رسالة نصية تبادلها الشباب في ما بينهم، دعوا فيها إلى الخروج للاحتجاج، هو ما فضح النظام وفجر الشارع الإيراني.

'