حكاية الإيمان – مصدر24

حكاية الإيمان

ذكّرني الضجيج حول نكران الإعلامي المصري إبراهيم عيسى للإسراء والمعراج بحكاية رجل ذهب إلى أحد الشيوخ ليشهر إسلامه. فقال له الشيخ: الإسلام صعب. إنه يتطلب أن تصلّي خمس مرات كل يوم، في أوقات مختلفة، أحدها يجبرك على أن تنهض من فراشك ساعة الفجر لتغتسل فتحرم نفسك من رغد النوم. وهو يتطلب أن تصوم 30 يوما كل رمضان. فتخيّل أنك لا تستطيع أن تشرب ماء ولا تأكل طعاما من مطلع الشمس إلى مغربها. وهو يطلب منك أشياء أخرى كثيرة، منها أن تغض بصرك عن النساء الجميلات، وهذه متعة من متع الحياة، فلماذا تحرم نفسك منها. والإسلام يريد منك أن تؤمن بنبوّة رجل أمّي، بينما أنت مُتعلّم وربما دكتور. وهو يقول إنه نزل عليه من السماء كتابٌ لا مثيل له ولا تشوبه شائبة، وما من أحد يستطيع أن يأتي بسورة من مثله. والأصعب من هذا كله فإن الإسلام يريد منك أن تعطي من مالك، عرق جبينك، للآخرين. وألا تكذب، بينما الكذب ملح الحديث، وأن تفي بوعود تقطعها، وأشياء كثيرة تقيد حياتك كلها بقيود لا فكاك منها، خاصة وأن الإسلام ليس “وجهة نظر” تتخلى عنها عندما تعود لتقتنع بوجهة نظر أخرى. أي أنه دين غير ديمقراطي من هذه الناحية، بينما الديمقراطية زهرة الحياة المعاصرة.

استطرد الشيخ: والإسلام يريد منك أن تؤمن بأشياء عجيبة، ولا يتسع لها العقل، مثل أن سيدنا موسى شق البحر بعصاه، وأن سيدنا عيسى ولد من دون أب، وأن سيدنا محمد أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعرج إلى السماء وعاد في ليلة واحدة، وهو ما لا يمكن أن يفعله أي صاروخ عابر للقارات، وأن سيدنا نوح بنى سفينة في عز الصيف ولكنها استقرت بعد الطوفان على جبل يدعى الجودي. كما أن هناك رجلا يُدعى آدم، يعتبر أبا البشر، ولد من دون أب ولا أم. وإن خالقه خلق الإنسان من “سلالة من طين” لم يتم العثور عليها. وبينما يقول العلم إن الأرض يبلغ عمرها 4 مليارات سنة، فإن كتاب ذلك الرجل الأمّي يقول إن خالقها خلق الأرض والسماوات في ستة أيام، فهل هذا معقول بنظرك؟ والأعجب من هذا كله، فإنه يريدك أن تؤمن بالغيب. أي أن ترى بقلبك ما لا تراه بعينك، وتفهم بقلبك ما لا تفهمه بعقلك. وأن تؤمن بأن كل ما في هذا الكون الفسيح خاضع لمشيئة كائن غامض، كليّ القدرة، يتحكم بكل شيء، حتى أنه لا ورقة تسقط من شجرة إلا بإرادته. فهل ترى أنك قادر على قبول كل هذه الأمور؟ ألا تلاحظ أنها تبدو وكأنها قصص خرافية، بينما نحن في عصر العلم والتكنولوجيا المتطورة؟

حبل الحياة الدنيا قصير. وحبل الآخرة طويل. والحياة إما أن يكون لك في آخرها ما ترتقي إليه، وإما أن تكون حفرة تلقي بها جثمانك. إنها خيار تختاره بنفسك لنفسك

فذهب الرجل من دون أن ينطق بالشهادة.

فأسال أحد التلاميذ شيخه: لماذا قلت للرجل كل هذا الكلام، حتى جعلته يفر؟

فقال الشيخ: سيعود عندما يؤمن بقوة الجاذبية من دون أن يراها، وعندما يعقل أن عقله لا يتسع لسعة الكون، وعندما يرى بعين قلبه أن لهذا الكون مُدبّرا، وأنه ليس مجرد فوضى نظمت نفسها بنفسها، كمن يُلقي بالمليارات من الحروف، فتُصبح قصيدة رائعة الجمال ومتناهية الدقة والإتقان، بالصدفة. ولا ضرر لو أنه لم يؤمن. فقد اختار لنفسه ما يليق بها. حبل الحياة الدنيا قصير. وحبل الآخرة طويل. والحياة إما أن يكون لك في آخرها ما ترتقي إليه، وإما أن تكون حفرة تلقي بها جثمانك. إنها خيار تختاره بنفسك لنفسك.

فعاد الرجل بعد أيام، فسأله الشيخ: ما الذي عاد بك؟

قال: رأيت الله في نفسي قبل أن أراه في الكون.

قال: كيف؟

قال: “ومَنْ لم يجعل الله له نورا فما له من نور”.

***

الآن، وقد أصبح السجال بشأن الكفر والإيمان يستدعي فرض عقوبات، للقسر والقهر والزجر، فالحقيقة هي أنها لن تنفع. لا في الدفاع عن الدين ولا في تحصين المجتمع من الكفر.

الإيمان بـ”القصص الخرافية”، كما يسمّيها إبراهيم عيسى، ليس مسألة حقائق مادية يمكن تقديمها لأيّ أحد. لأنها هي نفسها في الأساس لا تقوم على “حقائق مادية”.

الإيمان أقنوم من نوع آخر. أصل مختلف عن الماديات وبراهينها. ولا شيء يمكنه أن يجعل أيّ إنسان معاصر أن يقبل جوهرا غير ما يعتبره هو الجوهر الصحيح. هناك مادة، وهناك “لا مادة” اكتشف العلم وجودها مؤخرا. وكل منهما أصل مختلف عن الآخر، ولكل منهما فيزياء مختلفة.

ونحن على أيّ حال، أمام جوهرين لا يتّصل أحدهما بالآخر إلا بمقدار ضئيل. ومن يدري، فقد يكونان متداخلين على نحو لا نعرفه. واحد نراه ونلمسه، والآخر غير مرئي وغير ملموس.

بعبارة أبسط: الإيمان بغير المرئي شيء، والبراهين المادية شيء آخر. ونحن نعيش في عالم لا تسود فيه القيم المادية فحسب، ولكنه مدين بتقدمه العلمي والتكنولوجي وبرفاهياته كلها لتلك البراهين حصرا. حتى ليبدو الإيمان شيئا شاذا، والمؤمن كائنا غريبا. مُخرّف يعيش في “روحانيات” غير قابلة للّمس، ولا تحرك موتور السيارة عن بُعد.

ولكن، أهذه فعلا هي كل القضية؟ أفهل يتعين على الإيمان أن يحرك موتور السيارة لكي يُصبح جديرا بالأخذ به.

الإيمان أقنوم من نوع آخر. أصل مختلف عن الماديات وبراهينها. ولا شيء يمكنه أن يجعل أيّ إنسان معاصر أن يقبل جوهرا غير ما يعتبره هو الجوهر الصحيح

والواقع، هو أن البشر، على وجه الجملة، قبيلتان، يتحدث كل منهما بلغة لا تفهمها القبيلة الأخرى. والصدام بينهما يمكن أن يتحول إلى صراع يجرفهما إلى هاوية مشتركة، بين تطرف وتطرف مضاد.

الإيمان نور، ولكنه لا يشع في كل نفس. ولكي يشع، فإنه يتطلب إدراكا شخصيا أعمق بكثير مما يمكن أن يحققه أيّ نقاش هادئ ورصين. فما بالك بالقسر والقهر والزجر.

وفي الواقع، فإن إذكاء الرصانة في النقاش يمكن أن يوفر بديلا عاقلا، للضجيج الذي تتم إثارته كلما شذ أو انفلت أحدهم عن طريق. كما أنه يحفظ لكل طرف القدرة على التأمل في ما يشع في عقله أو نفسه.

وفي حين أن هناك إيمانا جاهلا، لأنه لا يبلغ بالمرء ذلك المقدار الضروري من الثقة، فهناك علم جاهل أيضا، لأنه لا يبلغ السعة في إدراك أنه لم يدرك إلا القليل. بعض العلماء يقول إنه كلما زاد علما، زاد معرفة بأنه جاهل.

المعنى من ذلك، هو أن “العلم” الجاهل لم يحقق التفوق الذي يجعله قادرا على تقديم كل الإجابات المطلوبة لألغاز الخلق. أما الإيمان الجاهل، فإنه يكتفي بالقسر والقهر والزجر لأنه لا يملك الكفاية من سعة النفس ليدرك أنه لم يبلغ إلا طرف النور الشحيح.

حرية النقاش، أو حرية الكلام، التي فتحت الطريق أمام التقدم العلمي، يمكنها هي نفسها أن تفتح الطريق أمام الإيمان ليبلغ مبتغاه.

مقدار من الثقة بالنفس يمكنه أن يجعل النقاش أقل إثارة للغرائز. وهو ما حصل في الغرب، الذي تعيش مادياته وروحانياته من دون تنازع شرس. تكفر، تؤمن. إنها قضية شخصية.

حبل الحياة قصير، على أيّ حال. ولكل امرئ الحق بأن يختار لنفسه ما بعده.

غمرتك جهالة العلم حتى تبلغ القبر لتبقى فيه، أو غمرك نور الإيمان حتى لتُبعث منه، مبروك عليك.

شخصيا ما عندي مشكلة إلى أين ستذهب. مشكلتي هي إلى أين سأذهب أنا.

'