حين تنتهي قضايا الفساد بالكشف عنها فقط – مصدر24

حين تنتهي قضايا الفساد بالكشف عنها فقط

تخرج قضايا التكسب والمحسوبية المرتبطة بمسؤولين كبار في الأردن إلى الفضاء الإعلامي بطريقة أو بأخرى، يتداولها الناس، يغضبون، تتعهد الحكومة بمكافحة الفساد وتنتهي القصة.

هذا ما اعتاد عليه الأردنيون منذ سنوات طويلة. غير أن المشكلة تطورت اليوم إلى شعور يتعزز لدى الناس بأن ثمة تماديا في تمرير تعيينات وصفقات خارج القانون والمعايير الرسمية من طرف شخصيات نافذة.

أدوات مكافحة الفساد في الأردن تبدو للوهلة الأولى قوية وجاهزة للتفعيل: توجيهات ملكية صارمة وواضحة،  ديوان للمحاسبة يعرض تقاريره على البرلمان ويتمتع هو باستقلالية ورئيسه بحصانة منصوص عليها في الدستور،  وهيئة للنزاهة ذات صلاحيات قانونية واسعة نظريا.

ماذا بعد؟ معظم الناس يفسرون التهاون في مكافحة الفساد بـ”غياب إرادة الإصلاح”. هذه العبارة الفضفاضة الغامضة، التي تلوّنَ معناها الحقيقي إلى أن اختفى تماما وراء عقود من الممارسات الحكومية والإدارية.

أيضا لا أحد يعرف على وجه الدقة من هو المسؤول عن تنفيذ “إرادة الإصلاح” إذا لم يكن رأس الدولة ولا التطبيقات الدستورية والقانونية ولا التعهدات الحكومية. وجرّب الأردن أشكالا مختلفة من الأجهزة الحكومية المعنية بمكافحة الفساد بما فيها دائرة المخابرات العامة.

من نافلة القول ربط الفساد في بلادنا العربية بالتركيبة الاجتماعية والقيم الثقافية السائدة وأيضا بطبقة رجال الأعمال ونفوذهم وعلاقاتهم مع السلطة. تعلمنا هذا وعرفناه. والأردن ليس استثناء.

التوريث يظهر واضحا في المناصب العليا ضمن تركيبة “الدولة العميقة” ونفوذها داخل الجهاز البيروقراطي في الأردن الذي يحكمه نظام ملكي وراثي. وسبق أن تولى رؤساء وزارات ووزراء مناصبهم بعد أن سبقهم آباؤهم فيها. وليس غريبا أن تجد في تاريخ المملكة الحفيد والأب والجد قد ترأسوا جميعهم حكومات من قبل.

صار توريث المناصب “حقا مكتسبا” وساحة للتنافس “الشرعي” داخل الطبقة الحاكمة والمستفيدين منها ومحاسبيهم. ومع تراكم التجارب والممارسات،  أصبح التوريث ملمحا رئيسيا من ملامح الفساد الواضحة مثل عين الشمس،  ويراها الأردنيون مع كل تشكيلة حكومية جديدة أو قائمة تعيينات في المناصب المهمة أو الحساسة.

في هذه الأيام يتحدث الأردنيون عن تعيينات خارج المعايير القانونية، منها لأبناء وزراء ونواب في البرلمان وأحدها لابن رئيس وزراء سابق وربما لزوجته أيضا. ثار الغضب على مواقع التواصل وحفلت الصحف والمواقع الإخبارية بمقالات تنتقد وتسأل وتحلل. لكن ما الجديد؟

هبطت أزمة كورونا على اقتصاد المملكة الذي يعاني أصلا من ضعف هيكلي وفقدان الكثيرين لوظائفهم وأعمالهم،  وهبطت على الناس أيضا الأخبار الثقيلة عن التعيينات وحرّكت لديهم الشعور بأن المحسوبية محصنة ولا يمكن إيقافها وأن المنتفعين منها لا يجدون أي حرج في تجاوز القوانين والأنظمة في أصعب الظروف.

وحتى في القيود والتدابير التي اتخذتها الحكومة لاحتواء فايروس كورونا، أطل الفساد برأسه أيضا وتدخلت شبكات المصالح في آليات وإجراءات إغلاق وفتح المنشآت الاقتصادية.

لا أحد يعرف على وجه الدقة من هو المسؤول عن تنفيذ "إرادة الإصلاح"
لا أحد يعرف على وجه الدقة من هو المسؤول عن تنفيذ “إرادة الإصلاح”

الآن يظهر منطق “الفزعة” وهو مناسب تماما لما يجري: ظاهرة معقدة يتعذر تفكيكها لكن يسهل الهجوم عليها في وسائل الإعلام،  مع كل خبر أو تسريب عن تجاوزات للقانون خصوصا في قضايا التعيينات والعقود الحكومية.

منطق الفزعة يتيح للحكومة ووسائل الإعلام والمدونين أن يهاجموا الفساد ويثقلوا عليه ويحذروا من عواقبه في كل مرة وبأصوات عالية،  لكنهم جميعا سكوت حين يتعلق الأمر بشخوصه واللاعبين الرئيسيين فيه.

في ظل غياب الشفافية الحكومية، لا يلام الصحافيون والمثقفون إذا تجنبوا الحديث صراحة عن قوى الفساد والشللية والمحسوبية مع وجود قوانين،  ولاسيما قانوني المطبوعات والنشر والجرائم الإلكترونية،  التي تفرض قيودا بالغة على حرية التعبير.

فزعة الحكومة المعهودة في مواجهة قضية فساد أو محاباة أو محسوبية توحي بأنها تكافحه هذه المرة وليست معنية أو مطلوبا منها أن تكافحه في كل مرة،  إلا إذا تسربت التجاوزات إلى وسائل الإعلام أو دخل الأمر في نطاق تصفية الحسابات.

العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لا تكاد تخلو خطاباته الرئيسية من الدعوة إلى تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد، وسبق أن أُدين أشخاص من الدائرة القريبة للملك بأحكام قضائية على خلفية ملفات تكسّب وهدر للمال العام،  ومنهم زوج عمته.

حتى قضايا الفساد الكبرى التي هزت الرأي العام في الأردن خلال السنوات الأخيرة واتهم فيها مدراء مخابرات ووزراء ومسؤولون كبار وتمت إدانتهم أو اتهامهم أو إحالتهم إلى التحقيق،  لا تخرج عن منطق الفزعة إذ سرعان ما يعود الفساد إلى سيرته الأولى.

منظمات دولية معنية بالنزاهة اعتبرت أن الفساد في الأردن يتغذى أيضا على جملة قوانين تنشأ حولها جماعات ضغط داخل الطبقة الحاكمة لمقاومة التحسينات والتعديلات حفاظا على مصالحها.

جماعات الضغط أو اللوبيات تمانع في إضفاء الطابع المؤسسي على العمل الحكومي وتريد الارتباط بأشخاص مؤثرين سواء داخل الجهاز البيروقراطي أو خارجه. وبهذا يتلاقى المستفيدون جميعا في شبكة من المصالح المتبادلة والقائمة على قانون أو مادة قانونية.

أذكر أن مديرا لمؤسسة إقراض حكومية تابعة لإحدى الوزارات في الأردن ظل يكافح ويدافع لسنوات عن مشروع قانون اعتبره ضروريا لتفعيل عمل المؤسسة وتعزيز استقلاليتها عن الوزارة ماليا وإداريا.

تشكلت حكومة جديدة وتولى هذا المدير الوزارة المقصودة. أخذ مشروع القانون الذي اقترحه ووضعه على أبعد رف.

'