دعوة إلى حوار يؤسس لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي – مصدر24

دعوة إلى حوار يؤسس لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي

دعوة إلى حوار يؤسس لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي

ما من علم آخر تطور بسرعة مذهلة مثلما حدث مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، واختلط فيه الواقع مع الخيال، مثيرا عاصفة من الجدل العلمي والأخلاقي، ونظر إليه البعض بوصفه حلاّ سحريا لكل مشاكل العالم الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، ورأى فيه البعض الآخر سلاحا خطيرا، خاصة إن وظف توظيفا خاطئا. لتدارك ما قد ينجم عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي، كان لا بد من الدعوة إلى حوار على مستوى العالم، يؤسس لقواعد أخلاقية، ويشكل رؤية جماعية وخطة عمل استراتيجية يلتزم بها الجميع، رغم التشكيك في إمكانية السيطرة على المارد الذي فرض وجوده بيننا.

لندن – تواجه البشرية اليوم حقبة جديدة، يمكن القول معها إننا على وشك اختبار ثورة هي أشد تأثيرا من الثورات السابقة مجتمعة، والتي كان آخرها الثورة الصناعية.

مع بداية تكنولوجيا المعلومات ظن معظمنا أن ثورة جديدة قد بدأت، إلا أن التكنولوجيا الرقمية وما تبعها من تطور مذهل في الاتصالات، لم تكن سوى تمهيد للثورة الأكبر في تاريخ البشرية، وهي بالطبع ثورة الذكاء الاصطناعي.

أحدثت الثورات السابقة تغيرات عميقة وتبدّلا في البنى الفكرية والاجتماعية للتجمعات البشرية، كان تأثيرها أشبه بالهزات، خاصة ما ترتب عليها على الصعيد الأخلاقي.

نحن نقف عند فجر حقبة جديدة، تعمل فيها الثورة التكنولوجية على تغيير حياتنا بسرعة هائلة، الذكاء الاصطناعي هو الحدود الجديدة فيها للإنسانية، الأمر الذي رافقه تبدّل كبير في الطرق التي نعمل وفقها ونتعلم من خلالها، وحتى تلك التي نتشارك فيها العيش سوية.

ويمر الذكاء الاصطناعي بنمو هائل، من خلال تطبيقات يتزايد عددها في مختلف القطاعات، بما في ذلك الأمن والبيئة والبحث والتعليم والصحة والثقافة والتجارة.

وبمجرد عبور هذه الحدود، سينقلنا الذكاء الاصطناعي إلى شكل جديد من أشكال الحضارة الإنسانية، قد لا يحسم الجدل الدائر فيها حول قدرة الذكاء الاصطناعي على الاستقلالية، وأن يصبح قائما بذاته، أو أن يحل مكان الذكاء البشري. رغم ذلك علينا جميعا أن نتأكد من تطور التكنولوجيا الجديدة وفق نهج إنساني، قائم على معايير أخلاقية نبيلة وعلى احترام حقوق الإنسان.

معايير أخلاقية

خطوة أبعد من الإنسان
خطوة أبعد من الإنسان

في سعينا المحموم هذا نواجه سؤالا حاسما حول ماهية المجتمع الذي نريده غدا، فثورة الذكاء الاصطناعي لم تفتح فقط آفاقا جديدة ومثيرة، لكنها جلبت معها أيضا اضطرابا أنثروبولوجيا واجتماعيا يتطلب دراسة متأنية.

طالت التحولات الناجمة عن الثورة التكنولوجية، مختلف آليات التعليم، حيث يجري من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي تطوير تلك الآليات، ولن تبقى أدوات التعليم والطريقة التي نتعلم بها ونكتسب من خلالها المعرفة أو ندرب بها المعلمين، هي نفسها بعد اليوم، حيث يصبح اكتساب المهارات الرقمية جزءا لا يتجزأ من صميم البرامج التعليمية.

غدت العلوم الإنسانية، مثل التاريخ والفلسفة والأدب، حاسمة في عالم سريع التغير أكثر من أي وقت مضى. حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الثقافة على نطاق واسع. مثال على ذلك الصور المستخدمة لإعادة بناء التراث، وفي تطبيقات عديدة بمجال العلوم، لاسيما في البرامج البيئية.

هذا بالطبع إلى جانب الاتصالات والمعلومات، التي باتت تعتمد بشكل مباشر على التقدّم المحرز في الذكاء الاصطناعي، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير والوصول إلى المعلومات.

رغم أن الذكاء الاصطناعي يشكل مصدرا هاما للتنمية في مجتمعاتنا، إلا أنه يثير أيضا قضايا أخلاقية خلافية كبرى. كيف يمكننا التأكد من أنه لن يشكل انتهاكا لحقوق الإنسان، من خصوصية وسرية البيانات إلى حرية الاختيار وحرية الضمير؟ وهل يمكن ضمان حرية التصرف، عندما تكون رغباتنا متوقعة وموجهة؟ كيف يمكننا ضمان عدم تكرار الصور النمطية الاجتماعية والثقافية في برامج الذكاء الاصطناعي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين الجنسين؟ هل يمكن برمجة القيم، وإن أمكن ذلك، فبواسطة من؟ كيف يمكننا ضمان المساءلة عندما تكون القرارات والإجراءات مؤتمتة بالكامل؟ وكيف نتأكد من عدم حرمان أي شخص، أينما كان موقعه في العالم، من فوائد هذه التقنيات؟ كيف يمكننا ضمان تطوير الذكاء الاصطناعي بطريقة شفافة بحيث يكون للمواطنين الذين تتأثر حياتهم به رأي في تطويره؟

للإجابة على هذه الأسئلة، يجب أن نميز بين الآثار المباشرة للذكاء الاصطناعي على مجتمعاتنا، والعواقب التي بدأنا نشعر بها بالفعل، وتداعيات ذلك على المدى الطويل. وهذا يتطلب أن نشكل رؤية جماعية وخطة عمل استراتيجية بعيدة المدى.

فرصة للتنمية

ثورة جديدة تعيد صياغة الفكر الإنساني في الألفية الثالثة
ثورة جديدة تعيد صياغة الفكر الإنساني في الألفية الثالثة

لن يستطيع العالم التنصل من تقديم ضمانات حول استخدام التكنولوجيات الجديدة، خاصة تلك القائمة على الذكاء الاصطناعي، بما يخدم المجتمعات ويخدم التنمية المستدامة. وهذا يتطلب تطوير تطبيقات تتوافق مع الحقوق الأساسية التي تشكّل مستقبلنا الديمقراطي.

وتدعو جهات فاعلة عديدة مثل الشركات ومراكز البحوث وأكاديميات العلوم والدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وجمعيات المجتمع المدني إلى إطار أخلاقي لتطوير الذكاء الاصطناعي. وبينما يتزايد الفهم للقضايا المطروحة، تحتاج المبادرات ذات الصلة إلى تنسيق أكثر فاعلية.

سد الفجوات

مشكلة عالمية، تتطلب أن يكون التفكير فيها على المستوى العالمي أيضا، لتجنب اتباع نهج “الانتقاء والاختيار” في الأخلاقيات. علاوة على ذلك، يلزم اتباع نهج شامل، بمشاركة من هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها وبرامجها، إن نحن أردنا إيجاد طرق يوظف من خلالها الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية المستدامة.

 

تلعب منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) دورا نشيطا في الجدل القائم، خاصة لما تتمتع به من سنوات خبرة طويلة في أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا. لقد صدر عن المنظمة العديد من التقارير والنشرات الإعلانية، بما في ذلك المتعلقة بالروبوتات، مثل تقرير اللجنة العالمية لأخلاقيات المعرفة العلمية والتكنولوجيا حول أخلاقيات الروبوتات في عام 2017.

وتتمتع المنظمة أيضا بخبرة في تطوير الأدوات المعيارية، بما في ذلك الإعلان العالمي بشأن الخارطة الجينية البشرية وحقوق الإنسان في عام 1997، والإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان في عام 2005.

وهناك توصيات صدرت عن المنظمة تؤكد ضرورة مشاركة القارة الأفريقية مشاركة كاملة في التحولات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، ليس فقط بوصفها مستفيدا من التكنولوجيا، ولكن أيضا كمشارك من المنبع، وإتاحة الفرصة أمام أبنائها للمشاركة المباشرة في تنميتها.

تشمل التوصيات أيضا المساواة بين الجنسين، ومجابهة التحيز في مجتمعاتنا، لضمان عدم حدوث ذلك في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. أخيرا، يجب تمكين الشباب من خلال تزويدهم بالمهارات التي يحتاجونها للحياة في القرن الحادي والعشرين، لتسهيل اندماجهم في سوق العمل المتغير.

وتلعب اليونسكو أيضا دورا رئيسا في سد الفجوات القائمة، التي قد تتعمق بفعل الذكاء الاصطناعي. ومن شأن القضاء على التفرقة بين البلدان والأجناس، من حيث الموارد والمعرفة، أن يفتح المجال أمام المزيد من البشر للمساهمة في التحول الرقمي الجاري.

وتعد اليونسكو، برسالتها الإنسانية وبُعدها الدولي، وبما تضمه من باحثين وفلاسفة ومبرمجين وواضعي سياسات وممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني، المكان الطبيعي للنقاش حول هذه القضايا الأخلاقية.

وتعمل المنظمة على عقد جلسات نقاش حول الذكاء الاصطناعي في العديد من مناطق العالم، تضم طيفا واسعا من الخبراء. وكان النقاش الأول، الذي دار في مراكش بالمغرب، في يناير عام 2018، قد ركز على الذكاء الاصطناعي وأفريقيا.ويمكن أن يؤدي الحوار في النهاية، بموافقة الدول الأعضاء، إلى تحديد المبادئ الأخلاقية الرئيسة الضرورية للسير جانب التطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي.

ينتظر من اليونسكو، باعتبارها منتدى يسمع فيه صوت كل شخص ويحظى بالاحترام، أن تؤدي دورها على أكمل وجه، وتقوم بتعميق النقاش الدائر حول التحولات الرئيسية في عصرنا، ووضع مبادئ تضمن استخدام التقدم التكنولوجي لخدمة الصالح العام.

إن وعد الذكاء الاصطناعي، والقضايا الأخلاقية الكامنة فيه، هو أمر رائع، وستؤدي استجاباتنا لهذه التحديات إلى تغيير الصورة التي نعرفها حول العالم. يجب أن نجد معا أفضل الحلول لضمان أن تكون تنمية الذكاء الاصطناعي فرصة للبشرية، حيث تقع على عاتق جيلنا مسؤولية الانتقال إلى مجتمع يتحقق فيه العدل والسلام والازدهار ليطول الجميع دون استثناء.

الذكاء الاصطناعي.. الحدود الجديدة للإنسانية
الذكاء الاصطناعي.. الحدود الجديدة للإنسانية

'