“ذات الشعر الأحمر” صراع الآباء والأبناء – مصدر24

“ذات الشعر الأحمر” صراع الآباء والأبناء

من أبرز العلاقات البشرية علاقة الأب بابنه، حيث تتسم هذه العلاقة بالكثير من التناقضات العاطفية وغيرها، فنجدها إما متوترة أو تقوم على الطاعة أو في خلاف، حيث أن هذه العلاقة لا تعرف نمطا واحدا. ومن هنا عرفت البشرية في أساطيرها الكثير من العلاقات الغريبة والمشحونة بين الآباء وأبنائهم سواء في أمثولات تتحدث عن الآلهة أو في أساطير مثل أوديب وغيرها. لكنّ أورهان باموك الروائي التركي، خير أن يدخل إلى علاقة الأب بابنه من مدخل روائي مختلف تماما.

يصور التركي أورهان باموك؛ الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2006، في روايته “ذات الشعر الأحمر” مفارقات من العلاقات المتوترة بين الآباء والأبناء، من خلال سرده حكاية بطله جام شيلك الابن الذي وجد نفسه بعيدا عن والده الذي اعتقل لأسباب سياسية، والذي يقع ضحية ابن لم يعرف عنه شيئا، استدل إليه بعد إجرائه تحاليل دم عرّفته إلى والده البيولوجي الذي لم يتصالح معه قط، بل رأى فيه الغريم والعدو، وعمل على القضاء عليه وقتله.

يقرّ بطل الرواية، الصادرة عن منشورات المدى في بغداد بترجمة جلال فتاح رفعت، بأنه كان يود أن يكون كاتبا، ولكنه بعد حادثة صارت معه أصبح مهندسا جيولوجيا ومقاولا. ويلفت إلى أنه ما دام قد عزم على سرد أحداث قصته فيرجو ألا يساور الشك قراءه بأن الأمر انتهى إلى غير رجعة وحسب، بل يجد نفسه منغمسا أكثر فأكثر في أدق تفاصيل الأحداث التي عاشها.

صورة ضبابية

 يستذكر الراوي، وهو في عقده الخامس، أنه في منتصف الثمانينات كان يعيش في شقة بعمارة قصر الزيزفون، وكان يمضي أوقاتا في صيدلية والده التي كان اسمها صيدلية الحياة التي لم يكن يرتادها إلا قلة قليلة من الزبائن، وكان والده يقتل فراغه بمتابعة التلفزيون، وفي بعض الأحيان كان أصدقاؤه، ممن يتعاطون السياسة، يزورونه ليتناقشوا في ما بينهم.

مفارقات من العلاقات المتوترة بين الآباء والأبناء
مفارقات من العلاقات المتوترة بين الآباء والأبناء

يذكر أن والده اعتقل أكثر من مرة، في بداية الثمانينات حين وقع انقلاب كنعان أفرين العسكري، واعتقل مئات الآلاف من الناس على إثره، ومرة أخرى بعد بضع سنوات، وذلك على خلفية ممارسته السياسة وصداقاته مع بعض السياسيين، وكانت الأسرة تدفع ضريبة سجنه المديد، ما كان يزيد الشقاق بين أفرادها.

يحكي صاحب “متحف البراءة” أنه في غياب الأب كبر الابن الذي تنقل بين عدة مهن، عمل في مكتبة لبيع الكتب، وكان يقرأ كثيرا، ما ساهم في تشكيل وعيه باكرا، وحلم أن يصبح كاتبا، تحت تأثير رب عمله الذي كان يقدمه للكتاب الذين يزورونه بأنه سيصبح كاتبا مثلهم في المستقبل. وبعد غياب الأب توطدت العلاقة بين الابن وأمه التي كانت تؤكد له أنه يجب أن يكسب مقعدا في كلية مرموقة قبل أي شيء، وتقبلت قراره في أن يكون كاتبا على أنه مجرد مزحة.

يتناول كيفية اختفاء حضور الأب تدريجيا من حياة الابن، فذات يوم ألقى الطفل نظرة إلى خزانة ملابس والده فلاحظ اختفاء ملابسه من الدرج، إلا أن زجاجة عطر التبغ والكولونيا الخاصة به ما زالتا في محلهما. ولم يكن يتحدث هو وأمه عن والده قط، حتى أن صورته الضبابية كانت ماضية في طريقها إلى الزوال من مخيلته.

تعرف الراوي إلى الأسطى محمود حفار الآبار، الذي طلب منه العمل لديه، وعرض عليه أجرا جيدا، وبعد معارضة من والدته، انضم إلى الأسطى محمود الذي أصبح بمثابة أب رمزي له، احتضنه وحرص على أن ينقل إليه تجاربه المتراكمة عبر سنوات عمره، وكان يحكي له كثيرا في الليالي التي كانا يقضيانها في مواقع العمل.

يصف الأسطى محمود بأنه كان واحدا من أولئك الأسطوات الثرثارين، من الممكن أنه يمتلك شيئا من البلاغة التي يمتاز بها القدماء من أمثاله، ولكنه كان يهزأ بأسلافه الذين كانوا يحملون غصنا متفرعا ويذرعون الأرض جيئة وذهابا ويقرؤأون الأدعية وينفخون شمالا وجنوبا للعثور على المياه. كان يعتبر نفسه آخر حبة في عنقود أسطوات الصنعة القدامى الذين امتهنوا حفر الآبار. ويقول بأنه لم يكن متبجحا بل كان متواضعا، وبفطرته السليمة أيقن أن الانقراض سيحل بهذا الجيل حتما.

يقارن بين والده والأسطى محمود، يذكر أن والده لم يكن يستشيره في أي أمر قط، ولا يشركه في المسائل الكبيرة ذات الأهمية، تماشيا مع عادة الكتمان والحفاظ على السرية التي اكتسبها جراء العمل في السياسة، بينما قام الأسطى محمود بطرح أفكاره عليه قبل أن يتخذ قراره، وكان يشعر بأنه يوليه رعاية أبوية ويفي بوعده، إذ قطع عهدا على نفسه ألا يسمح له بالنزول إلى البئر، وألا يحمّله أكثر من طاقته، لأنه شعر بأنه يشفق عليه ويوليه أقصى اهتمامه.

آبار وأسرار

الواقع كما تراه المرأة مختلف تماما (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
الواقع كما تراه المرأة مختلف تماما (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

 يشير إلى أن الآبار كانت بمثابة الخزان لأهل إسطنبول يرمون فيها أشياءهم من أجل إخفائها، مثل السيوف والملاعق والجماجم والبنادق والمسدسات والدمى والأمشاط وغيرها من حاجيات لا تخطر على بال، ويتساءل أليس غريبا حقا أن يدفن الإنسان حاجياته الثمينة في البئر، وعلام يدل هذا التصرف يا ترى.

يصادف امرأة ذات شعر أحمر، تلقي عليه نظرة خاطفة، يلمح مسحة الحزن التي شابت الابتسامة المطبوعة على شفتيها المدورتين، وكان قوامها ممشوقا ترتسم على محياها تعابير رقيقة وجذابة وتزداد ألقا حينما تبتسم. وبفضل رؤيته للمرأة ذات الشعر الأحمر بدأ يشعر كم كانت الأشياء المحيطة به رائعة، وشعر أن العالم برمته وكل شيء كان جميلا يبعث السرور في النفس والروح.

يحكي كيف أثر فيه دلالها وخلب لبه، خصلات شعرها الأحمر كانت تأتلق في النور بشكل رائع.

نظرت إلى وجهه باستغراب وكأنها تعرفه قبل هذا. كأنها تقول ما الذي أتى به إلى هنا؟ في اللحظة التي كانا تقابلا فيها وجها لوجه وتأمل الواحد منهما وجه الآخر، وكأن كل واحد منهما كان يفتش عن ذكرى كانت تجمعهما في يوم ما، أو يتحرى عنها.

البشر يشبهون الآبار من خلال احتفاظهم في داخلهم بكثير من الأسرار والتفاصيل
البشر يشبهون الآبار من خلال احتفاظهم في داخلهم بكثير من الأسرار والتفاصيل

وكان يشعر أنه كلما ذهب في إغفاءة انبثقت النجوم أمام ناظره وحضر وجه المرأة ذات الشعر الأحمر أمام عينيه. ولم تفارق صورتها مخيلته حتى في أشد الأوقات حرارة، وكان يجد في تلك الأحلام متعة تجعله مشدودا إلى الحياة بأواصر متينة وكان فيها الشيء الكثير مما يمنحه الأمل والتفاؤل.

يستحضر الراوي جام أسطورة أوديب الذي قتل أباه، وأنه لم يره أحد وهو يقتله، ولم يقم أحد بتجريمه في مدينة طيبة التي شد إليها الرحال. ويتخيل كم هو بشع أن يقترف المرء جريمة نكراء كقتل الأب، ثم يتمكن من الإفلات من العقاب، ويصبح ملكا ويتزوج أمه وينجب منها أطفالا، ثم حين أدرك أنه قد تزوج من أمه فقأ عينيه بيده وهجر المدينة إلى مكان آخر.

وبالموازاة معها يستحضر حكاية قائدين شرقيين، حيث يتقاتل الأب والابن، ويقتل الأب ابنه، على الضد من حكاية أوديب. وكأن صراع الأساطير بين الشرق والغرب يرد في سياق اختلاف الثقافة ليبرز كيف أن للشرق أساطيره المناقضة لأساطير الغرب، ليصل إلى رأي أن الحياة هي التي تعيد روح الأساطير.

ينتقل في الفصل الأخير للحكي على لسان المرأة الراوية، يعنون الفصل بـ”امرأة ما ذات شعر أحمر”، يعيد صياغة الأحداث من وجهة نظرها، ومن زاويتها للتاريخ والحكايات، ويلفت على لسان المرأة التي كانت ممثلة مسرحية، إلى أنها كانت على بينة من تقليد أساطير الحياة وقصصها أو على معرفة بتلك الحكايات القديمة التي ليست دليلا لإثبات تهمة القتل على ابنها الذي اتهم بقتل والده الذي كان ينازعه على المسدس بجوار البئر الذي سقط فيه.

ينوه باموك في روايته بطريقة غير مباشرة إلى أن البشر يشبهون الآبار من خلال احتفاظهم في داخلهم بكثير من الأسرار والتفاصيل التي تختزن بدورها الكثير من الحكايات التي تحمل العبر، وتنفتح على التأويلات، وتساهم في كشف الأسرار المخبوءة في النفوس.

يقول باموك عن عمله إنه أراد أن يروي قصة واقعية عن رجل ماهر في حفر الآبار ومساعده. وإن هذين الشخصين كانا يعيشان في الأرض المجاورة للمكان الذي عاش فيه صيف عام 1988. وكانا آخر الحفارين الذين يعملون بأساليب قديمة، ولاحظ أن علاقتهما أصبحت بمرور الزمن مثل علاقة أب مع ابنه، ووجد تلك العلاقة مميزة، وأراد أن يوثقها بطريقته الروائية.

'