“رسائل إلى فيرا” وجع الترحال والإبداع – مصدر24

“رسائل إلى فيرا” وجع الترحال والإبداع

تعتبر قصة الحب التي جمعت بين الكاتب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف وزوجته فيرا من أهم قصص الحب التي خلدها التاريخ الحديث، حيث كتب عنها نابوكوف نفسه في روايته “لوليتا”، كما استمر حبهما رغم تشعب علاقات الروائي وحياته المثيرة، وهو ما تبرزه الرسائل التي كان يتبادلها مع زوجته والتي تكشف جزءا من حياته وأدبه.

يضم كتاب ” إلى فيرا” مراسلات الأديب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف (1899 – 1976) إلى زوجته فيرا طوال عقود، يحتوي على 287 رسالة مكتوبة بين عامي 1923 – 1976، وهي تأتي مرتبة بحسب العقود، بحيث تظهر تطوره الكتابي وتراكم تجربته الحياتية، بالإضافة إلى نظراته في الأدب والحياة، ومعاناته أثناء أعماله التي قام بها، والمشقات التي واجهها حين كان يكتب في ظروف بائسة.

يبيّن الكتاب، الصادر عن دار الرافدين، ترجمة عبدالستار الأسدي، أبرز المحطات في حياة نابوكوف الذي تعرّف إلى فيرا في برلين وتزوجا سنة 1925 واستمر زواجهما لأكثر من نصف قرن كان خلالها كثير السفر والتنقل بين برلين وباريس وبراغ ولندن وصقلية وجنيف وسويسرا ونيويورك وفرجينيا، وكان يكتب لها العشرات من الرسائل.

أسرار شخصية

 يلفت المترجم في تقديمه للكتاب أنه لا بد من الإحاطة بكتاب نابوكوف للاطلاع على حياته بتفاصيل أسراره الشخصية والأدبية وعلاقاته المتشعبة بأوساط المجتمعات المختلفة التي اختلط معها وعاش بينها وهو الروسي المنفي طوع نفسه، الهارب من النظام الجديد، وقد عارضه هو ومن قبله والده الذي لجأ إلى برلين ليؤسس صحيفة رال اليومية.

ويشير إلى أن الكتاب يحظى بأهمية كبيرة لمن يريد أن يفهم الفن العظيم الذي خلفه نابوكوف، ليس لأنه كتاب أنطولوجيا يتضمن رسائله لزوجته، بل هو سيرة حياة كاملة، قصة الرحيل وما ذهب مع الريح وما لم يذهب، ويصف رحلته بأنها رحلة العذاب وسنوات العلقم والحرمان والألم والهجرة، ثم قصة تحول الزمان، فأيام الرخاء والمال والإقامة في عدة مدن.

الكتاب يحظى بأهمية كبيرة لمن يريد أن يفهم الفن العظيم الذي خلّفه نابوكوف لأنه سيرة حياة كاملة

يكتب صاحب “لوليتا” إلى زوجته في كل محطة من محطات حياته اليومية، يراسلها من مختلف المدن التي يمر بها، من بروكسل وبراغ وباريس ولندن وبرلين ومدن مختلفة في الولايات المتحدة بعد انتقاله إليها، يطلعها على أدق تفاصيل حياته وعمله وكتابته.

يخاطب زوجته بالقول إنه يحتاج إليها، ويصفها بحكاية الجن الخاصة به، وأنها الشخص الوحيد الذي يستطيع الحديث معه عن ظل سحابة مرت به، عن أغنية فكرة ما، ويخبرها بأن هناك مطعماً روسياً يقدم وجبات جيدة، وأن لا أحد يعرفه هناك، ولا يعرف من يكون أو من أين جاء.

يخبرها أنه منجذب لأفريقيا وآسيا، وأنه حصل على وظيفة وقاد فحم في فرن باخرة متجهة إلى الهند الصينية، ولكنّ هناك شيئين اضطراه للعودة إلى برلين، الأول أن والدته ستبقى وحيدة، والثاني يصفه بأنه سر غامض يسعى جاهداً أن يجد له حلاً من دون فائدة.

يتحدث لها عن حيرته، ويقول لها يا سعادتي، يا فرحي الذهبي، وأنه أصبح ملكها بكيانه كله، ذكرياته وقصائد شعره، وانفجاراته وأعاصيره الداخلية، وأنه ما عاد يكتب كلمة واحدة ما لم يسمع صوتها ينطق، ويدرك أن هناك أموراً يعجز عن البوح بها لها بر الكلمات، وعندما يكلمها بالهاتف فإنه يخطئ التعبير عما يشعر به.

سيرة حياة كاملة
سيرة حياة كاملة

يكتب لها أنه لا يتصور حياته ممكنة من دونها، ويبوح لها بتفاصيل كتابته اليومية، وسبل بنائه لأعماله المسرحية والروائية ولقصائده الشعرية، متى بدأ كتابتها، وكم كتب، ومتى توقف، يضعها في قلب التفاصيل ويحدثها عن كل ما يفعل وما ينوي فعله.

يقول لها لأنه بطيء جداً في الكتابة فقد أجل رحلته إلى برلين، ولكن بعد يوم كامل من وجع الإبداع، كتب فقط سطرين أو ثلاثة، واختصر مشهداً كاملاً من قصة قصيرة يكتبها، ويجد نفسه متخبطاً في وحل المشهد التالي، ويشعر بالتعب والإنهاك وكأن رأسه صار بيت كرات البولينغ وجفا النوم جفونه وصار لا يغفو إلا صباحاً، وخاصة وهو يكتب المشاهد الأولى من قصته، ثم يقوم بعدد كبير من التنقيحات وإعادة العمل والصياغات والإضافات والحذف هنا وهناك، وأن لا يجني أي ثمرة مرجوة، سوى السخرية المعهودة ذاتها.

الفن والمعجزات

 يصف لها صعوبة أحواله في برلين، وأنه قد تأخر بسبب شح المال، وما زاد الطين بلة هو مرض والدته، ثم إصابته بالزكام، ويقول إن هناك توافه تحيط به وهي كالأشواك تعيق حركته وخطواته، منها مثلاً كان أهله يتنقلون من شقة إلى أخرى، والإحباط يجثم على صدره، وأحاديث حزينة تغرقه، ولكن ما كان يفرحه حقاً هو أنه لم يبق إلا بضعة سطور على إنهاء ما بيده ثم كتابة النسخة الأخيرة بصورة نهائية.

يعبر لها عما يقض مضجعه، وأنه متعب ومنهك، وأصبحت كتابة الشعر تأخذ منه وقتاً وتفكيراً، وعندما يعود بالذاكرة إلى الوراء، كان يكتب قصيدتين في عرين دقيقة ولو أن الجودة مشكوك فيها لكن كان يكتب بمعجزة، بل كان يكتب وينجز معجزات صغيرة وما كان يفكر بالمعجزات، وأنها تأتي
وحدها..

يطلب منها ألا تمل منه، وأنه يعرف بأنه رجل ممل ومزعج، وغارق في عالم الأدب لكنه يحبها، ويحدثها بأن العقل هو ذلك الجانب السلبي في العملية الإبداعية، بينما الإلهام هو الجانب الإيجابي لها، وبالتقائهما تقدح الشرارة البيضاء والومضة الكهربائية للخلق المطلق والكامل، وأنه أصبح يشتغل سبع عشرة ساعة ويكتب ثلاثين سطراً في اليوم، دون أن يمسحها لاحقاً.

رجل عاشق وكاتب مغامر
رجل عاشق وكاتب مغامر

يكشف لها عن اقتناعه أن الفن هو الشيء الوحيد في الحياة الذي يهم، والذي يجب الاكتراث له، وأنه على استعداد لأن يتحمل كل العذابات الفظيعة عن الصينيين من أجل كتابة بيت فيه حكمة ما، وكذلك في الموضوعات الأخرى، وأن الذي يهم مثلاً في العلم أو الدين وما يثيره فيهما وما يستحوذ عليه هو اللون فقط.

يصف حياته في لندن سنة 1937 بأنها مرهقة، ويخبرها أنه ربما يحصل على وظيفة محاضر، وأن كل الدلائل والمؤشرات تقود إلى هذا الاستنتاج، ولو أن ما يقوم به في لندن يعتبر تافهاً وعبثاً بالمقارنة بما أنجزاه فعلاً في باريس لأن عليه أن يضيع
بضع ساعات يومياً للتنقل بالميترو، إضافة إلى ضوضاء المدينة التي يصفها بأنها تعتبر جحيماً، وخاصة المدينة السفلى “الأندرغراوند” رغم التنظيم الجيد وكثرة المصاعد والسلالم الكهربائية.

تخيم أجواء الحرب العالمية الثانية على بعض رسائله، ويكتب في رسالة أنه معافى ولكن أنباء الصحف تحمل أخباراً عن تحطيم قوات الحلفاء الخطوط الأمامية لدول المحور، وأنه يمضي أوقاته في مدينة ماكاليستر المملة والتي ليس فيها غير طيور البوم، المنتشرة في كل مكان.

يشار إلى أن نابوكوف ولد في مدينة سانت بطرسبرغ سنة 1899، في عائلة روسية أرستقراطية زاولت السياسة والصحافة، كان والده ديمقراطياً دستورياً وكاتباً في القانون الجنائي، وبعد ثورة أكتوبر السوفييتية، هربوا إلى برلين عام 1920، ثم اغتيل الأب سنة 1922 في حشد جماهيري فعانت الأسرة من قسوة العيش والهجرة والتشتت. كتب نابوكوف سبع عشرة رواية وأكثر من خمس وستين نصاً توزع بين القصة القصيرة والشعر والمسرح والسيناريو والعشرات من المقالات النقدية، ومن أبرز أعماله: لوليتا، الهدية، الدفاع، سيرة حياة الفارس سباستيان، وآدا، وعقد شؤم، وأمور شفافة، انظر إلى المهرجين تكلمي أيتها الذاكرة.. وغيرها من الأعمال.

'