روما.. حاضرة عريقة تمجد الحياة الحلوة – مصدر24

روما.. حاضرة عريقة تمجد الحياة الحلوة

“روما مدينة مفتوحة” هل قالها روبرتو روسليني وهو أحد أبنائها المهمومين بصورتها المخادعة، من أجل إغراء عشاقها بأن هيامهم بها لن يتحول إلى قيد جنوني؟ ما من أحد دخل إلى روما إلا وطافت في خياله وبعاطفته تلك الجملة. فروما فعلا لا تغلق بابا أمام زائرها. إنها تستقبله في مطار ليوناردو دافنشي بحفاوة لا يتوقعها. هناك شارع طويل مسقف بأغصان الأشجار الخضراء يقوده من المطار إلى قلبها.

أنت في عاصمة هادريان الذي أحببتَه من خلال رواية مارغريت يورسنار. يمكنني أن أنظر من خلال عينيك إلى المدينة التي أحببتها والتي لا تزال مخلصة إلى كل العصور العظيمة التي مرّت عليها.

في بناية واحدة يمكنك أن ترى العصر البيزنطي والقرون الوسطى وعصري الباروك والروكوكو ومن ثم تنفتح على الرومانسية في القرن التاسع عشر. إنها روما مدينة مفتوحة على كل العصور، غير أنها في الوقت نفسه قد تتحول في لحظة خاطفة إلى اللامكان الذي يؤسس لمجموعة من الأمكنة المتلاحقة.

حكايات خيالية مع الطعام

روسليني وصل إلى مدينة أخرى. ذلك قدره. فروما هي جمع من مدن متناثرة، وهي ذلك الزقاق الذي جلست في أحد مطاعمه من أجل كأس نبيذ فجلب لي النادل قبل ذلك الكأس صحونا ممتلئة بالمعجنات، ولم يقل لي إنها هدية من صاحب المحل، بل كانت جزءا من الفاتورة المعروفة سلفا. يمكنك أن تتعرف على كرم روما في مطاعمها ومقاهيها وحاناتها. الناس هنا تأكل وتشرب كما لو أنهم يرسمون أو يؤلفون أشعارا أو روايات. غير أني شخصيا أشكّ في أنهم يتذوقون شيئا سوى المعجنات. ولأنني أكره المعجنات فقد صار عليّ أن احتاط بطريقة غريبة نوعا ما. أطلب مأكولات لا يطلبها أحد أو أن أعيش على ما أجلبه طازجا من السوق وأتوقف عن الطبيخ.

ولع الإيطاليين بالأكل يصل إلى الدرجة التي يُلتهم معها جزء كبير من أحاديثهم الممتعة والمروية بصوت عال. لكل واحد منهم حكاية جديدة مع أكلة ما. تجارب إن نظرت إليها بعمق يمكن اعتبارها نوعا من الطقوس التي لا يمارسها أيّ شعب آخر. وكما كنت أتوقّع فإن السياحة فقدت الجزء الأكبر من زخمها بسبب كوفيد – 19 غير أن المطاعم والحانات تغص بالبشر كما لو أن السياحة في أوج حالاتها.

روما تنفتح على كل العصور، غير أنها في الوقت نفسه قد تتحول في لحظة خاطفة إلى اللامكان، الذي يؤسس لمجموعة من الأمكنة المتلاحقة 

وما يميز الخدمة في تلك الأماكن أنها تقوم على نظام عائلي. غير مرة أكتشف أن الرجل الذي جلب إليّ الطعام وحدثني عن مواده ومن أين جلبها وكيف تمّ التعامل معها هو صاحب المطعم نفسه أو ابنه أو ابن أخته. نظام الخدمة المؤقت غير مشاع كما يبدو في روما. يمكن أن تراه عن بعد فتبتعد وكأنك تتحاشى الوقوع في تجربة مؤلمة قد تدفع علاقتك بالمدينة إلى نوع من التعقيد.

ينصحك عامل الخدمة الذي قد يكون أحيانا صاحب المطعم نفسه بتناول طعام بعينه لأنه يناسب مزاجه الغذائي. ذلك لا يحدث إلّا في روما أو في مدن إيطالية عريقة أخرى. ذلك ما يهب علاقة الإيطاليين بالطعام طابعا تاريخيا. فيشتبك الطعام حينها بالعمارة والرسم وتخطيط المدينة والحدائق والكنائس ومقياس درجة الحرارة في الفاتيكان لكي تكون الفوضى الإيطالية نوعا النظام الذي يمكن أن ينتج كاتبا عظيما مثل إيتالو كالفينو.

عوائل ترث الكنوز الفنية

روما مدينة حظ كما يتوهم رماة النقود المعدنية في فونتانا تريفي
روما مدينة حظ كما يتوهم رماة النقود المعدنية في فونتانا تريفي

روما هي منجم مدن كالفينو اللامرئية التي أضاع الطريق إليها الكثير من الكتاب العرب بالرغم من ألف ليلة وليلة هو كتابهم.

يُقال لك “إنك سترى لوحتين من كرافاجيو فنان عصر النهضة في الكنيسة الوحيدة المفتوحة في ساحة بوبولو”. في الطريق إلى ذلك المكان ستمر بعجائب روما وهي التي يمكنها أن تنسيك كرافاجيو لا لشيء إلا لأنك ستصل متأخرا وتكون الكنيسة قد أغلقت أبوابها. في طريق العودة إلى ساحة فينيسيا تدخل إلى كنيسة فترى لوحات كثيرة لا تعرف أسماء رساميها. أنت على يقين من أن بعضهم يرسم على طريقة كرافاجيو ولكنك لن تحسم أمرك معهم. يُقال إن كرافاجيو هو شيء آخر. سيكون عليك أن تعود إلى الكنيسة في اليوم التالي.

ما يعوّضك تلك الخسارة أن واحدة من عجائب روما التي زرتها قصر يعود إلى إحدى العوائل الرومانية العريقة، تضم مقتنياته الكثيرة أعمالا لكرافاجيو إضافة إلى رافائيل وبروغيل وفيلاسكز. ولكن روما في مكان وما فعله بي فيلاسكز من خلال لوحته تلك في مكان آخر. فيلاسكز رسم البابا بنديكت ولكن الأيرلندي فرانسيس بيكون أعاد رسم تلك اللوحة بأسلوبه. كانت لوحة بيكون عظيمة لكنني لطالما حلمت برؤية لوحة فيلاسكز. كان الإلهام موجودا في مكان ما غير أنني لم أعثر عليه في متحف مشهور. وأخيرا وقفت أمام تلك اللوحة. لقد صُدمت حين رأيت تلك اللوحة وحدها في غرفة خاصة بها. تليق بها العزلة غير أنها عزلة تُخيف. ليس بسبب ما فعله بيكون بل بسبب ما تنطوي عليه لوحة فيلاسكز من جمال خارق. إنها واحدة من أعظم لوحات الرسام الإسباني الذي سبق لي وأن رأيت عددا من لوحاته في مدن عالمية مختلفة.

قلت لنفسي “مع ذلك اللقاء وصلت إلى أقصى ما أريد” أتنقل بدعة بين السلالم الإسبانية وساحة نفونا بقدمي حالم. شباب هنا وشباب هناك والصخب يمدّ خيطا بين الطرفين كما لو أن روما ليست إلا حدثا جانبيا. غير أن غاريبالدي تذكرك تماثيله المنتشرة في كل مكان بزمن الوحدة. إيطاليا ليست هادريان وحده بل هي غاريبالدي أيضا. أضحك مع الرومان. هناك شيء من روما في كل طبخة. روما تحب نفسها لذلك تتذوقها من خلال الطعام في كل لحظة.

الحوادث التي لم تقع

العاصمة الإيطالية مدينة ساحات
العاصمة الإيطالية مدينة ساحات

“كأنك تتجول في متحف” في تلك الجملة نصف الحقيقة. روما ليست متحفا فقط. إنها خلاصة حياة تتسرب بين أصابع فتية مرحين قد لا يعرفون شيئا عن تاريخ مدينتهم. فجأة ينبعث الصخب في أزقة روما الضيقة فتشعر أن الأغاني تحيط بك من كل جانب وهناك حشود من الراقصين الذين لا يرون من أبنية روما التاريخية وكنائسها ومسارحها القديمة سوى القشرة

التي يمكن اعتبارها خلفيات لعدد لا يُحصى من الأفلام. هناك مَن يقترح عليك أن تذهب إلى الفندق الذي التقت فيه صوفيا لورين لأول مرة بمارسيلو مسترياني وهناك من يقودك إلى الكنيسة التي دخلتها أودري هيبورن بحثا عن فم الأسد الذي يمكن أن يُطبق على يدها ولم يكن سوى نافورة ماء.

روما متحف. ذلك صحيح. وهي مدينة عيش مباشرة. ذلك صحيح أيضا. ولكن أعجب ما فيها أنها تصلح أن تكون فضاء لفيلم طويل جدا، كم تمنيت لو أن روبيرتو بينيني استمر في إخراجه تتمة لفيلمه الرائع “الحياة حلوة”. سيكون من الصعب عليك أن تتحاشى النظر إلى قبة الفاتيكان. ما من شيء له علاقة بالقداسة. فمقرّ البابوية هو الآخر جزء من المشهد العام لمدينة ليست مسنّة. فهي تنبعث مع كل صيحة فرح تخترق دروبها لتصل إلى ساحاتها. ما أكثر تلك الساحات. روما مدينة ساحات.

لا يمكن أن تمشي كيلومترا من غير أن تمر بعدد من الساحات. كل ساحة منها تكتظ بالتماثيل التي صارت جزءا من الصورة التي تمثل الحياة الحلوة كما يعيشها الناس لا كما يتخيلها مخرجو الأفلام.

فروما في جزء منها هي مدينة حظ كما يتوهم رماة النقود المعدنية في فونتانا تريفي. النافورة التي تبتلع النقود من غير أن يتأكد أحد من حظه الحسن. غير أن الثابت أن العاصمة الإيطالية تهب زوارها فرصا كثيرة لالتقاط الجمال والتمتع بصداقته والتنقل بخفة بين صفحات كتابه المفتوح على كل الأزمنة.

ولع الإيطاليين بالأكل يصل إلى الدرجة التي يُلتهم معه جزء كبير من أحاديثهم الممتعة
ولع الإيطاليين بالأكل يصل إلى الدرجة التي يُلتهم معه جزء كبير من أحاديثهم الممتعة

'