سوزان وجسيكي امرأة حديدية حوّلت يوتيوب إلى إمبراطورية للترفيه والتعلّم – مصدر24

سوزان وجسيكي امرأة حديدية حوّلت يوتيوب إلى إمبراطورية للترفيه والتعلّم

مثلما يقال في المثل العربي “رب ضارة نافعة”، وبما أن أضرار العام 2020 كبيرة ومتنوعة وقد عانى منها سكان الأرض طويلا، فإنه على الجانب الآخر هناك من تلقّفها وبنى عليها ازدهاره الاقتصادي.

الحديث يتركز أساسا حول المستفيد الأول من اختلاف الظروف وتقلّبها، أي شبكات الإنترنت والمواقع الإلكترونية والمنصات الافتراضية العديدة، وخصوصا في مجال الترفيه، وقد حدث ذلك حين بدأ الناس بمختلف جنسياتهم وأماكنهم بالبحث عن التسلية وملء الوقت الطويل زمن الحجر المنزلي.

موقع يوتيوب الشهير هو الأكثر استخداما على الإطلاق بين كل تلك المواقع، فهو من يلبي كافة الأذواق ويقدم الأجوبة عن أي شيء يخطر ببال مستخدميه، وهو أيضا الوحيد المتاح أمام كل الأشخاص ليكونوا في الجانبين “البائع” و”المشتري”، وليس مقتصرا على استقبال المستهلكين مثل شبكة نتفليكس ونظيراتها. والفضل في ذلك يعود إلى إدارة سوزان وجسيكي التي تُلقب بالمرأة الحديدية. فمنذ تسلمها إدارة يوتيوب عام 2014 وهو يتطوّر ويزدهر يوما بعد يوم.

صاحبة “كراج غوغل”

سياسة وجسيكي صارمة حول ما يتعلق بالترويج للأفكار الإرهابية والتطرف في محتوى يوتيوب، ولذلك قامت بإزالة كل ما يتعلق بالجماعات المتطرفة التي كانت ترى أن الموقع يشكل جسراً لها للتواصل مع الشباب.

الكثيرون لا يعرفون أن تلك السيدة الناجحة كانت أيضا من أهم العوامل المساعدة لنشأة محرّك البحث الشهير غوغل، فالكراج الذي بدأ العمل فيه كل من لاري بايج وسيرجي برين، وهما الشريكان المؤسسان لغوغل، تعود ملكيته إلى وجسيكي، وهي صاحبة الفضل في استمرار الشراكة الناجحة بين الرجلين، لأنها منعتهما من بيع شركتهما في بداية تأسيسها بمبلغ مليون دولار، وأقنعتهما بأن المستقبل يخبّئ الكثير من الثروات المالية لهم جميعا، لأنها كانت تعمل في المجال التكنولوجي قبل ولادة غوغل، وقد اكتسبت خبرة جيدة في عدة محطات أهمها شركة “إنتل” العالمية. كل ذلك شكّل لديها بصيرة بأن فكرة غوغل لا تحتاج إلا إلى الوقت حتى تسيطر على الشبكة العنكبوتية.

ولدت وجسيكي في كاليفورنيا عام 1968، والدها ستانلي الذي ينحدر من أصول بولندية كان مدرس فيزياء في جامعة ستانفورد، وكان المشجع العلمي الأول لابنته في كل أحلامها منذ الطفولة. وقد وقف إلى جانبها في قرارات مختلفة تخص دراستها، إضافة إلى والدتها إيستر التي تنحدر من أصول روسية يهودية صاحبة الدور البارز في ما أحرزته وجسيكي حتى يومنا هذا.

اهتمت وجسيكي في مرحلة الثانوية بالكتابة وأسهمت في نشر عدة مقالات في مجلة المدرسة، وكان الجميع من حولها يظن أنها ذاهبة إلى المجال الأدبي، وقد أكدت لهم ذلك عندما قررت في العام 1986 دخول جامعة هارفارد والتخصص في الأدب والتاريخ. وبالفعل تميّزت جدا وتخرجت عام 1990 بشهادة تقدير، لكنها في الوقت ذاته شعرت بأن طموحها الدراسي لم يتوقف واختارت أن تدرس مجالا مختلفا، فاتجهت إلى جامعة سانتا كروز لدراسة الماجستير في الاقتصاد. وبدأت حياتها المهنية بالعمل في الإدارة الاستشارية في شركة “ويبر”، ومن ثم انتقلت إلى شركة أخرى “باين” وفي ما بعد ذهبت إلى “إنتل”.

شعرت وجسيكي بأن هناك ما ينقصها في مجال تخصصها ويحدّ من تطورها، فقررت دراسة إدارة الأعمال في جامعة أندرسون بكاليفورنيا. وبما أنها عاصرت نشوء مشروع “غوغل” منذ البداية، قرّر كل من بايج وبرين، أن يوكلا مهمة إدارة إعلانات الشركة لها، لتكون بذلك المديرة الأولى للتسويق والمشرف الرئيسي على الهوية البصرية لمحرك البحث وتختار شعاره الأول، وتترأس في وقت لاحق قسم خدمات إعلانات الفيديو الخاصة بـ”غوغل”. وكان ذلك بالتزامن مع الظهور الأول لموقع مشاركة الفيديو الشهير على الإنترنت يوتيوب على يد كل من تشاد هورلي وجواد كريم عام 2005. وبدأت حينها الشركة الجديدة المنافسة مع إعلانات غوغل، وهذا ما أثار حفيظة وجسيكي التي عملت جاهدة على الاستحواذ على يوتيوب، وكانت “عرّابة” الصفقة الشهيرة والكبيرة، وهي شراء الموقع لصالح غوغل في شهر نوفمبر من العام 2006.

الحرب على الإرهاب والوباء

تطور عمل وجسيكي اللافت يجعلها بمثابة "الجوكر" الذي يستطيع الحلول في أي مركز قيادي، ولذلك نجدها تتنقل بين المناصب والمهمات الصعبة بشكل ناجح وسلس.
تطور عمل وجسيكي اللافت يجعلها بمثابة “الجوكر” الذي يستطيع الحلول في أي مركز قيادي، ولذلك نجدها تتنقل بين المناصب والمهمات الصعبة بشكل ناجح وسلس.

من الصفقات الرابحة التي أتمّتها وجسيكي وتعتبر من أكبر إنجازات غوغل، شراء موقع “دبل كلك” المتخصص في صناعة الإعلانات على الإنترنت وتقديم الخوادم أيضا، والذي تأسس في نيويورك عام 1996 من قبل أوكونور ودوايت، وكان لا يزال لديه زبائن كبار من أمثال كوكا كولا، وموتورولا، لوريال وغيرها، وتمت الصفقة عام 2008 وكلفت غوغل حينها حوالي 3 مليارات دولار.

تطور عمل وجسيكي اللافت يجعلها بمثابة “الجوكر” الذي يستطيع الحلول في أي مركز قيادي، ولذلك كانت تتنقل بين المناصب بشكل ناجح وسلس إلى أن تم الاتفاق من قبل مجلس إدارة شركة غوغل على أن تكون المديرة التنفيذية لموقع يوتيوب بعد تراجع الأرباح عام 2014. ومنذ توليها لمنصبها عملت على إطلاق خدمات جديدة للموقع محتواها يهدف إلى خدمة المهتمين بالرياضة والعائلة والموسيقى.

ومنذ أن تولت مهامها ارتفعت نسبة الأرباح بشكل لافت، وازدهر الموقع كثيرا وبات الوجهة الأساسية لمستخدمي الإنترنت الباحثين عن الترفيه أو التعلّم أو حتى العمل، حيث أن الموقع الشهير قدّم مهنة العصر وهي “اليوتيوبر” المتاحة أمام أي شخص لديه محتوى يجذب الجمهور، وهي أيضا مهنة ذات موارد مادية كبيرة جدا. وأصبح يوتيوب عالما بحد ذاته وسوق عمل رائجا يحلم به الأشخاص وخصوصا الأطفال، حسبما تذكر دراسة أجريت في السويد حول أحلام الأطفال المستقبلة وما هي المهن التي يرغبون بها، وكانت النتيجة أن معظمهم كان يريد أن يصبح “يوتيوبر”.

سياسة وجسيكي صارمة في ما يتعلق بالترويج للأفكار الإرهابية والتطرف في محتوى يوتيوب، ولذلك قامت بإزالة كل ما يتعلق بالجماعات المتطرفة التي كانت ترى أن يوتيوب جسر مهم للتواصل مع الشباب وبث الأفكار السوداء بينهم، وكان ذلك تماما بعد استغلال تنظيم الدولة الإسلامية داعش للموقع في بث الكثير من المقاطع، حيث أسس التنظيم حينها قنوات تبث الفيديوهات والخطاب المتطرف.

وجسيكي من النساء المناصرات لعمل المرأة في الحقل التقني التكنولوجي، لذلك قامت برفع نسبة الإناث العاملات في يوتيوب من 24 إلى 30 في المئة، وهي كثيرا ما تقول إنه “على المرأة أن تطالب بنفسها بما تستحقه”.

لا مكان لنظرية المؤامرة

حملة يوتيوب ضد السياسات التجهيلية دشّنتها وجسيكي مبكرا معلنة أن الموقع سيبدأ بعرض نصوص وملفات فيديو لمحاربة الخداع ونظريات المؤامرة
حملة يوتيوب ضد السياسات التجهيلية دشّنتها وجسيكي مبكرا معلنة أن الموقع سيبدأ بعرض نصوص وملفات فيديو لمحاربة الخداع ونظريات المؤامرة

من الخدمات التي أنشأتها وجسيكي في الأعوام السابقة، وكانت ذات فائدة مادية كبيرة هي “يوتيوب بريميوم” مدفوعة الأجر، وهي خدمة الاشتراك التي تقدم الموسيقى دون انقطاع، وأشرطة فيديو دون إعلانات، وأيضا من المشاريع الناجحة “يوتيوب تي في” وهي تشبه شبكات الترفيه مثل نتفليكس وأمازون، والتي بدأت بإنتاج أعمال درامية ذات مستوى رفيع جدا. هذا ليس كل شيء يمكن ليوتيوب أن يقدّمه لنا. فحاليا يتم تطوير خدمة داخل الموقع تسمح للمستخدمين بتحميل مقاطع فيديو قصيرة من داخل التطبيق، والاستفادة من الموسيقى المرخّصة التي تمتلكها المنصة والموجودة في

قائمة “يوتيوب ميوزك”، لتكون منافسة للتطبيق الشهير “تك توك”، وعن ذلك تقول وجسيكي إن الشركة تتطلع إلى الانتقال إلى ميزات الفيديو القصير، مضيفة أن “الفيديوهات القصيرة للغاية بمدة زمنية لا تتجاوز 15 ثانية تعتبر مكانا مثيرا للاهتمام بالتأكيد لدخوله، وعلينا أن نفكّر فيه”.

بالإضافة إلى إتاحتها الخبر الجديد المتعلق بكورونا كل جزء من الثانية، قامت وجسيكي بحظر المحتوى المضلّل الذي يتلاعب بالعقول حول الوباء ذاته. وخاصة في ما يتعلق بالعلاج، فقد قام يوتيوب بحذف ما سمّاها بـ”الادعاءات المضللة” حول لقاحات فايروس كورونا، وأعلنت إدارته أن “أي مقاطع فيديو تتعارض مع إجماع الخبراء من السلطات الصحية المحلية، ومؤسسة الصحة البريطانية، أو منظمة الصحة العالمية، سيُعمَل على إزالتها فورا”. ومع نهاية العام 2020 كان يوتيوب قد قام بإزالة 200 ألف مقطع فيديو صنفه كمحتوى خطير حول الفايروس.

وقبل ذلك كانت وجسيكي قد شنّت حملة ضد النظريات التجهيلية، معلنة أن يوتيوب سيبدأ في عرض نصوص من مقالات ويكيبيديا ومواقع أخرى إلى جانب ملفات الفيديو لمحاربة الخداع ونظريات المؤامرة، لتقديم وجهة نظر بديلة لتسجيلات مصورة تشكك في العلم أو تصف مؤامرات بخصوص أحداث مثل هبوط أميركا على سطح القمر. وقالت وجسيكي حينها “سيظل بمقدور الناس مشاهدة ملفات الفيديو لكن ستكون لديهم في الواقع إمكانية للحصول على معلومات إضافية”.

خرجت وجسيكي من عام الوباء منتصرة بفضل إدارتها للظروف الجانبية الموازية للحالة التي خلقها كوفيد – 19. ولم تنتصر ماديا وحسب، بل استطاعت أن تقدّم نموذجا للنجاة بوسيلة متعددة المهام، إعلاميا وثقافيا وسياسيا وترفيهيا وأكاديميا، تكاد تكون وحدها مجموعة مؤسسات تحت اسم واحد يوتيوب.

'