سيل سياسي في السودان يهدد بجرف الصوفية بعيدا – مصدر24

سيل سياسي في السودان يهدد بجرف الصوفية بعيدا

سيل سياسي في السودان يهدد بجرف الصوفية بعيدا

شكلت الصوفية في السودان حالة خاصة مقارنة بنظيراتها في باقي الأقطار العربية، من خلال خوضها في العمل السياسي منذ سطوع نجمها، وكان لزعاماتها إسهامات بارزة لاسيما في المنعطفات التاريخية التي عرفها السودان وآخرها ثورة ديسمبر 2018. هذه الحالة تقود إلى البحث في تموقع هذه الطائفة ما بعد الرئيس عمر حسن البشير خصوصا مع حالة السيولة السياسية التي يشهدها هذا البلد وعودة المنظومة القديمة للتحرك وتكثيف ضغوطها على السلطة القائمة.

طوى السودان صفحة الرئيس عمر البشير لكنه لا يزال يصارع لتفكيك المنظومة القديمة المتغلغلة في مفاصل الدولة، وتعمل على استغلال ارتباك السلطة الانتقالية، المشكلة من تحالف العسكر والمدنيين من خلال اللعب على وتر التناقضات بين الطرفين، والتحديات التي تواجه كليهما لاسيما على الصعيد الاقتصادي، في ظل استمرار التصدع بين المركز والهامش الذي لا يمكن جبره دون أن يتحقق السلام الشامل بما يعنيه ذلك التخلص من “وهم” تفوق ثنائية “الإسلام والعروبة” على باقي الأعراق والأديان والإثنيات في ربوع السودان.

المعركة التي يخوضها هذا البلد ليست سهلة خصوصا وأن القوى الإسلامية الحاضنة للمنظومة السابقة بدأت ماكنتها في التعافي في ظل ما تحظى به من دعم وإسناد قوي من أطراف إقليمية، وهي تتحرك اليوم على أكثر من مستوى فإلى جانب محاولاتها العزف على الوترين الطائفي والعرقي في الهامش، تحاول لفت الأنظار إليها في المركز عبر تحركات احتجاجية تستثمر في الأزمة الاقتصادية.

تثير إمكانية نجاح القوى الإسلامية بجناحيها الإخواني والسلفي مخاوف السودانيين بالنظر إلى تاريخ البلاد الحافل بمثل هذه الردات والانتكاسات، وتدفع هذه الهواجس إلى قناعة بضرورة استعادة النسق الثوري والتفاف جميع المكونات حول دعم المسار الانتقالي، التي بدا جزء منها على غرار التيار الصوفي، شبه مغيب ويتعاطى من منطلق أن مهمته انتهت بسقوط البشير، وأن الكرة اليوم في ملعب “القادة الجدد”.

ومثل التيار الصوفي في السودان رافدا أساسيا للحراك الشعبي الذي أطاح بالبشير في أبريل 2019، وشكلت معاقله على غرار النيل الأبيض وأم درمان المدينة التوأم للعاصمة الخرطوم أبرز حواضن التحركات التي تفجرت في ديسمبر 2018 لتنهي عهدا من حكم استغل العباءة الدينية ليكتم على أنفاس السودانيين لنحو 30 سنة.

لا يعني ذلك أن جميع زعماء الصوفية تبنوا منذ البداية نهج التغيير وانخرطوا في مشروع الإطاحة بحكم البشير وأركانه، فهناك من تلك الزعامات الروحية من فضل الحياد والجزء الآخر تبنى وجهة نظر النظام على عواهنه لاعتبارات تتعلق بنزعة هؤلاء “الشيوخ” نحو الاستقرار، ولنجاح البشير في “ترويض” مخاوف البعض الآخر دون تجاهل واقع ارتباط بعضهم بمصالح ذاتية معه.

حالة التراجع التي بدت عليها الصوفية ما بعد البشير تبدو من وجهة “الأنصار” مبالغا فيها ذلك أن هذا التعبير ينسف جهود أحزاب وقوى سياسية ولدت من رحم هذا التيار للتموقع وإثبات الذات في المشهد الجديد، وإن كانت حالة السيولة الجارية تعاندها، دون تجاهل واقع سعي بعض القوى من داخل السلطة لتحييدها.

إعلاء الفرد على الطائفة

سليمان سري: لابد أن يكون للطرق الصوفية دور فاعل في المرحلة الانتقالية

يوجه جزء من الأنصار أصابع الاتهام لبعض الأحزاب المشكلة لتحالف قوى الحرية والتغيير في مساعي تغييب التيار الصوفي وركنه على الهامش. هذه الاتهامات لا تخلو من وجهة نظر باعتبار أن جزءا من النخب السودانية التي صعدت إلى السلطة لديها اعتقاد راسخ بأن أحد الأسباب الرئيسية في ضعف السودان وتراجع دوره الحضاري يكمن في ارتهانه للعصبية العرقية والدينية، وهناك نوع من الحساسية لدى بعضهم حيال التعاطي مع أي طائفة أو تيار ديني بما في ذلك الصوفية رغم المعروف عنها اعتدالها ووسطيتها.

لا تخفي مجموعة من النخب السودانية من داخل السلطة أو من خارجها هذه القناعات وهي تطالب بضرورة الرهان على الفرد كأساس لأي عملية بناء وليس على أي جماعة أو طائفة أو قبيلة أو إثنية. وقد تكون هذه النوازع أحد الأسباب الضمنية خلف ما يتعرض له حزب الأمة القومي -الذي يعد واجهة سياسية لطائفة الأنصار- من محاولات لتهميشه داخل ائتلاف قوى الحرية والتغيير، الأمر الذي دفع رئيسه الصادق المهدي في أبريل الماضي إلى الانتفاض وتجميد عضوية حزبه مؤقتا في التحالف المدني الشريك في السلطة الانتقالية.

وسبقت هذه الخطوة مواقف لا تخلو من حدة أطلقها حزب الأمة تجاه شركاء في الائتلاف المدني مصوبا أساسا على الجناح اليساري، ومطالبا بضرورة إعادة هيكلة التحالف. ويخشى كثيرون من أن يذهب الحزب وزعيمه الصادق المهدي بعيدا في مواجهة عملية تهميشه كأن يسعى لفتح قنوات تواصل مع المنظومة القديمة بتمثلاتها الأمنية والإدارية ولاسيما الحزبية والسياسية على غرار حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي وغيرهما.

ولعل ما يعزز هذه المخاوف المبادرة التي طرحها زعيم طائفة الأنصار مؤخرا حول ما يسمى بالعدالة الترميمية والتي قال إنها يجب أن تطبق على من كانوا مع البشير ثم انحازوا إلى الثورة بما يشمل ذلك المطلوبين جنائيا.

وأثارت تلك المبادرة ضجة كبيرة حتى أن البعض اتهمه بأنه بات يمثل الوجه الناعم للمنظومة القديمة وأنه يسعى لانتشالها لعله تساعده في استعادة شيء من مكانته التي فقدها ولما لا العودة إلى سدة الحكم التي سبق وبلغها خلال فترتين زمنيتين 1967 – 1969 و1986 – 1989، وانتهت كل منها بانقلاب آخره ذلك الذي جرى على يد البشير.

“الأمة” بين السياسة والطائفة

تبقى الأطراف الساعية لتحييد القوى الممثلة للتيار الصوفي على غرار الأمة القومي أقلية حيث أن الغالبية الموجودة في السلطة وعلى رأسهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك تدرك الحاجة لاستنهاض طاقات كل المكونات بما يشمل الصوفية لإنجاح المرحلة الانتقالية التي تعد حاسمة حيث سترسم مستقبل هذا البلد على مدى العقود القادمة.

كما أن عملية اختزال تمثيلية التيار الصوفي العريض في حزب الأمة القومي تجانب الكثير من الصواب ذلك أن الأخير يخوض صراعاته في غالب الأحيان من منطلقات سياسية وليس طائفية، ولئن يحاول الحزب العريق في الساحة السودانية إلقاء مسؤولية تراجعه على الطرف المقابل لكنه في واقع الأمر يتحمل الجانب الأكبر من تلك المسؤولية لجهة حالة “الترهل التنظيمي” التي بلغها وتذبذب سياساته في السنوات الأخيرة.

ويقول المتحدث باسم التحالف العربي من أجل السودان سليمان سري لـ”العرب” إن حزب الأمة القومي يشكل قاعدة للكثير من شيوخ الصوفية لكنه ينحّي الأبعاد الطائفية المرتبطة بالصوفية لصالح اتخاذ مواقف سياسية تحقق مصالحه العليا، ولعل ذلك ما جعله يشن حملة ضد رئيس مركز تطوير المناهج عمر القراي، الذي يسعى لتغيير جميع المناهج المتطرفة واستبدالها بأخرى تنشر الثقافة الصوفية الوسيطة.

ويعتبر سري أنه يجب التمعن في تجربة البشير مع التيار الصوفي حيث عمل خلال فترة تواجده في السلطة على استمالة الطرق الصوفية بما يتمتعون به من قدرة فائقة في التأثير على أتباعهم عبر فرض الولاء والطاعة، وقد دفعهم نحو الانخراط في كيانات سياسية ثم تمكن في ما بعد من جعل جزء مهم منهم يقفون في صفه.

خزان شعبي

زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي يطرح مبادرة حول ما يسمى بالعدالة الترميمية تشمل من كانوا مع البشير ثم انحازوا إلى الثورة بمن فيهم المطلوبون جنائيا
زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي يطرح مبادرة حول ما يسمى بالعدالة الترميمية تشمل من كانوا مع البشير ثم انحازوا إلى الثورة بمن فيهم المطلوبون جنائيا

على خلاف التيارات الصوفية المعروف عنها انطوائها وزهدها في معظم الأقطار العربية، فإن الصوفية في السودان تشكل حالة خاصة منذ انتشارها في هذا البلد في عهد دولة سنار (1504 – 1821)، ولطالما كانت في قلب المعادلة السياسية وشكلت زعاماتها أحد المؤثرات الرئيسية في المشهد السوداني قديما وحديثا.

تقول بعض الدراسات إن نحو 70 في المئة من السودانيين صوفيون بالفطرة أي أنهم يشكلون خزانا مهما على السلطة الحالية ضمان تأييدهم وإلا فإنها ستجد نفسها في وضع صعب في ظل وجود قوى إسلامية لا تخلو سياساتها من براغماتية سيكون من صالحها فتح صفحة جديدة مع هذه الطائفة وكسب ودها في معركة استعادة السلطة.

ويقول المتحدث باسم التحالف العربي من أجل السودان لابد أن يكون للطرق الصوفية المنتشرة في ربوع السودان دور فاعل في المرحلة الانتقالية، لاسيما في مواجهة الخطابات المتطرفة لتنظيم الإخوان، الذي ما انفك يحاول الوقيعة بين مكونات المجتمع لإفشال المرحلة الانتقالية، وعاد ليستبطن مجددا لغة التكفير”.

ويضيف سري أن “خطط تطوير الإعلام في السودان يجب أن تأخذ في الاعتبار إفساح المجال أمام القيادات الصوفية لاسيما المسيسة منها لتوجيه خطابات معتدلة إلى الجمهور، لتكون بديلا عن الجرعة الدينية التي جرى الاهتمام بها بما يخدم نظام البشير البائد، وأن ظهور شيوخ الطرق الصوفية الذين لديهم شعبية واسعة بين المواطنين سيكون من أجل دحض خطابات السلفية التي صدرها فلول البشير كبديل عن الوجوه التي لفظها الجمهور”.

ويتوقع أن يكون للطرق الصوفية دور أكبر الفترة المقبلة، بعد أن اندمج عدد من الكيانات الصوفية الصغيرة داخل التجمع الاتحادي الديمقراطي الذي لديه تواجد فاعل في داخل تحالف قوى الحرية والتغيير، والملاحظ أن خطاباته أضحت أكثر وسطية وأقل صداما مع تيارات علمانية كالت لها العداء، وقد يمهد هذا الاعتدال لدور أكبر في مواجهة الحركة الإسلامية.

'