عودة الحراك الاجتماعي تنذر بدخول تونس منعطفا أكثر قتامة – مصدر24

عودة الحراك الاجتماعي تنذر بدخول تونس منعطفا أكثر قتامة

يكشف المشهد التونسي في علاقته بالاحتجاجات الواسعة التي تعيش على وقعها غالبية مدن ولايات (محافظات) البلاد منذ عدة أيام، عن صور تشابكت عناصرها في استعادة مناخات التوتر بتحركات صاخبة قد تنوّعت عناوينها السياسية والاجتماعية، فراكمت أشدّ مشاعر الإحباط واليأس. وبدأت هذه التطورات تضغط بشكل لافت وسط غضب مُتصاعد لدى فئة الشباب المُهمش، الذي فقد الأمل والثقة في الطبقة السياسية الحاكمة للبلاد طيلة العشرية الماضية، وهو ما ينذر بدخول البلاد منعطفا أكثر قتامة.

تونس – تدفع الأحداث، التي عاشتها تونس مؤخرا رغم التشابه الكبير بينها وما شهدته البلاد قبل عشر سنوات، والتي أطلق عليها “ثورة الحرية والكرامة”، من حيث اعتماد المقاربة الأمنية للتصدي لها هذه المرة، نحو منعطفات أخرى يصعب معها تحديد أبعادها وتداعياتها وذلك بالنظر إلى سرعة انتشار الاحتجاجات وتوسع رقعتها على طول خارطة البلاد.

ولا يُستبعد معها أن تخلق المنعطفات المُرتقبة عن معادلات جديدة، مقاربات اقتصادية واجتماعية مُغايرة، لتلك التي سادت خلال العشرية الماضية، لاسيما وأن هذه الاحتجاجات التي اتسمت بالعفوية، وبالعنف كذلك في أحيان كثيرة، فرضت إيقاعها على الرئاسات الثلاث، ومختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية والفاعلين السياسيين.

وخرج المئات من الشبان الغاضبين إلى الشوارع، في تحركات احتجاجية رفعوا خلالها شعارات من قبيل “لا خوف ولا رعب الشارع ملك الشعب”، وأخرى مُنددة بالتهميش، والإقصاء، وغياب التنمية والتشغيل، وكذلك أيضا الحكومة برئاسة هشام المشيشي، ومختلف المكونات الحزبية، وخاصة منها تلك التي تُشكل حزاما سياسيا وبرلمانيا للحكومة.

وواجهت السلطات الاحتجاجات بالقنابل المسيلة للدموع، وبشن حملة تم خلالها اعتقال أكثر من 600 مُحتج في أنحاء البلاد، بحسب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، خالد الحيوني، الذي لم يتردد في وصف المحتجين بـ”المشاغبين والمخربين” الذين قال إن “أعمارهم تتراوح بين 15 و25 عاما”.

وقد تم الدفع بوحدات عسكرية انتشرت في شوارع عدد من مدن أربع ولايات (محافظات)، وهي سوسة والقصرين وبنزرت وسليانة، لحماية المؤسسات والمقرات الحكومية و”تحسبا لتطور الأوضاع جرّاء أعمال الشغب والتخريب في عدد من جهات الجمهورية”، وفق الرائد محمد زكري، الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع.

انفصام الطبقة السياسية

كمال العكروت: الطبقة السياسية المنتخبة منفصلة تماما عن الواقع التونسي

صحيح أن غالبية القوى السياسية والحزبية تقول إن ما يجري على مستوى الشارع من حراك صاخب، عكسه منسوب غضب المُحتجين الذين خرجوا إلى الشوارع في مدن وقرى 21 محافظة من أصل 24، لم يُفاجئها، وكان مُتوقعا بالنظر إلى أن شهر يناير أصبح يتميز في تونس بكثرة الاضطرابات الأمنية والاحتجاجات الاجتماعية.

لكن الصحيح أيضا هو أن هذه الطبقة السياسية، وفي مقدمتها حركة النهضة الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي، انتابها الكثير من القلق الذي اقترب كثيرا من الارتباك والهلع اللذين ارتسما في بياناتها وردود أفعالها التي سعت فيها إلى إفراغ هذه الاحتجاجات من بعدها السياسي والاجتماعي، من خلال ربطها بحفنة من “المخربين والمنحرفين الذين يسعون إلى الفوضى”.

وبدا واضحا أن تلك الطبقة السياسية بخطابها الإعلامي، وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، لم تستوعب بعد تطور المزاج الشعبي الذي بدأ يتبلور على قاعدة رفض الواقع الراهن الذي يتسم بأزمة عميقة تعصف بالبلاد، تجلت ملامحها في تزايد الخلافات والانقسامات السياسية والحزبية، وتدهور الأوضاع على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية.

ودفع هذا الخطاب، الأميرال كمال العكروت، المستشار السابق للأمن القومي التونسي، إلى القول إن “ما لا يبشّر بخير على خلفية الأحداث الأخيرة التي تعيش على وقعها البلاد، هو أن الطبقة السياسية المُنتخبة أصبحت مُنفصلة تماما عن الواقع التونسي”.

وأشار في تدوينة نشرها على صفحته في فيسبوك إلى أنه “لم ير من السياسيين من هو واع بأهمية الاستباق واتخاذ الإجراءات العملية الكفيلة بتهدئة الوضع”، مُعتبرا أن “الأتعس من ذلك هو أن الواقع الوحيد الذي يهمّ السياسيين رغم الوضع الاجتماعي والأمني الحرج والقابل للانفجار في أيّ وقت، هو السباق على السلطة والمصالح الشخصية والحزبية الضيّقة”.

ويُظهر الخطاب الذي اعتمده رئيس الحكومة، المشيشي، في كلمته التي توجّه بها إلى الشعب في خامس يوم من الاحتجاجات عن عمق الأزمة في البلاد، فقد أعرب فيها عن تفهمه لأسباب الاحتجاجات، واصفا غضب المُحتجين بـ”المشروع”، وصوتهم بـ”المسموع”.

غير أنه لم يُقنع المُحتجين، لأن كلمته خلت من أي تعهدات أو إجراءات حكومية قادمة، واكتفى بالقول إن “الأزمة حقيقية والغضب مشروع وواجبنا تجاه استحقاقاتكم من تشغيل وتعليم وتكوين من أولوياتنا، بعيدا عن الشعارات والمزايدات التي مللتم منها ومللنا منها مثلكم”، ذلك أنه إذا كانت الحكومة قد ملّت الشعارات والمزايدات فماذا يقول رجل الشارع العادي؟

وكان المشيشي قد وصف التحركات الاحتجاجية بأنها “غير بريئة”، لافتا في كلمة ألقاها خلال اجتماع مع القيادات الأمنية العليا بوزارة الداخلية إلى أن “أعمال النهب والسرقة والاعتداءات على الممتلكات الخاصة والعامة لا تمت بصلة للتحركات الاحتجاجية، والتعبيرات السلمية التي يكفلها الدستور والتي نتفهمها ونتعامل معها بالحوار الجاد والبحث عن الحلول الكفيلة بالاستجابة لتطلعات التونسيات والتونسيين”.

أزمة حكم

Thumbnail

قرأ مراقبون في كلمة المشيشي أن الدولة تعيش بالفعل أزمة حقيقية، وأن ذلك مقدمة لتهدئة الأوضاع مؤقتا بما قد يُقلص من اتساع خارطة الاحتجاجات التي وُصفت بأنها سابقة لم تعرف تونس مثلها حتى أثناء “الثورة” التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وأمام التطورات الأخيرة، حذر الرئيس قيس سعيد في كلمة توجه بها إلى شباب التقى بهم مساء الاثنين الماضي خلال زيارة قام بها إلى أكبر أحياء ولاية (محافظة) أريانة غرب العاصمة من “الذين يتحركون في الظلام، ويُتاجرون بفقر الشباب، وبؤسهم، هدفهم في ذلك بث الفوضى وليس تحقيق مطالب الشعب”. ودعا المُحتجين إلى “عدم التعرض لأي كان لا في ذاته ولا في عرضه ولا في ممتلكاته”، مؤكدا على “حق الشعب في الشغل والحرية والكرامة الوطنية”.

وبينما سعى ممثلو التحالف البرلماني الداعم للحكومة في بيانات صدرت عن مجلس شورى حركة النهضة وحزب قلب تونس إلى اتهام المحتجين بإثارة الفوضى، والارتهان لأجندات مشبوهة، سارعت المعارضة إلى اتهام الحكومة بـ”الفشل” في معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والتي يُنظر إليها على أنها المُحرك الرئيسي لهذه الاحتجاجات.

وعبّر عن هذا الموقف، النائب زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب، حيث قال في تصريحات إن هذه الاحتجاجات لها ما يُبررها بعد مرور عشر سنوات على الثورة دون أن تُحقق أهدافها في التنمية والتشغيل، وهو ما تؤكده أرقام عمليات سبر الآراء التي تُبين أن جزءا كبيرا من التونسيين لم تعد لديهم ثقة في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

واعتبر أن الثورة في تونس قامت على استحقاقين كبيرين، سياسي واجتماعي، وقال إن “الاستحقاق السياسي اليوم مشوب بكل الشوائب، وكذلك أيضا الاستحقاق الاجتماعي الذي لم يتحقق منه أي شيء، لذلك فإن هذا الشباب الذي يتظاهر ويحتجّ يشعر بأنه بات خارج النظام”.

وتجد هذه القراءة صدى لها في مختلف قراءات المُتابعين للشأن التونسي، الذين سبق لهم أن توقعوا حدوث مثل هذه الاحتجاجات، وحذروا من “ثورة ثانية”، أطلقوا عليها اسم “ثورة الفقراء والجياع”، ما لم تُسارع السلطات التنفيذية إلى إجراء حزمة كبيرة من الإصلاحات العاجلة لمعالجة الأزمة، بما يستجيب لتطلعات الشعب.

وذهب النائب الصافي سعيد في مداخلة له خلال جلسة برلمانية إلى القول إن “من طرد بن علي وأسقطه هو الجيل الذي ترعرع في ظل نظامه ومن يقوم اليوم بالاحتجاج هو جيل الثورة وينبغي على البرلمان والحكومة الاستجابة لمطالبه”.

وفيما اعتبر الصافي سعيد أن “الشعب لا يعجبه اليوم لا الرئيس ولا المجلس ولا الحكومة، ونحن ذاهبون إلى الظلام ومهددون بالكنس”، ربط النائب منجي الرحوي الاحتجاجات بحالة الفقر والتهميش وقال في مداخلة له خلال نفس الجلسة، إن “الأحداث الأخيرة هي نتاج للفقر وتجاهل أبناء الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية لمطالبهم المشروعة في التشغيل والكرامة وتحقيق أبسط مقوّمات العيش الكريم”.

وشدّد على أن من يقف وراءها، “هو طرف واحد وهو الجوع والفقر والحرمان، وهو الطرف الذي وحّدهم ودفعهم إلى التظاهر والاحتجاج بالليل والنهار”، داعيا في نفس الوقت إلى ضرورة “المشاركة فيها ودعمها وتأطيرها وتقديم ما يمكن تقديمه لها من أجل أن تصوّب هذه الحركة الاحتجاجية مسار الثورة، بعد أن تمّ خنق مسارها”.

ولم يتردد القيادي في حزب التيار الشعبي غسان بوعزي في وصف ما جرى بـ”الانتفاضة الشعبية” التي تبقى الحل الأنسب لمقاومة ما وصفها بـ”عصابة الإخوان”، وذلك في إشارة إلى حركة النهضة الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي.

وأكد في بيان أن حزبه يدعم هذه الاحتجاجات بشكل واضح وصريح، ذلك أن تونس “تقبع حاليا تحت حكم إخواني بغيض حيث تحكمها جماعة ومرشد اخترقا كل مفاصل الدولة، وقد تمكنت هذه الجماعة وفي ظرف عشر سنوات من تبديد كل آمال الشعب في الشغل والحرية والكرامة الإنسانية والسيادة الوطنية”.

وقال إن ما تعيشه تونس منذ مدة من احتجاجات متصاعدة شملت العديد من الجهات وخاصة المناطق والأحياء الأكثر فقرا وتهميشا “هو نتيجة حتمية منتظرة لحصيلة عشر سنوات من حكم تحالف تجار الدين والمافيا المالية”، واصفا الأسباب التي أدت إلى ذلك بأنها “عميقة جدا”.

وبين هذا الرأي وذاك الموقف، تُجمع الدوائر السياسية في البلاد على وصف الأزمة في تونس بأنها “أزمة حكم مُتحركة”، و تفتح على أزمة اقتصادية حادة، تسببت في هذا الاحتقان الاجتماعي المتواصل، الذي يُنذر بانفجارات قوية في كل لحظة نتيجة فشل جميع المقاربات التي اعتمدتها الحكومات المُتعاقبة منذ العام 2011، في إيجاد الحلول المناسبة لبناء اقتصاد قادر على تجسيد تطلعات المواطن.

وتتجلّى هذه الأزمة من خلال حالة الانقسام السياسي الحاد، وتدهور الوضع الاقتصادي، الذي يعكسه انهيار قيمة الدينار، وتواصل توقف الإنتاج، وارتفاع حجم المديونية الخارجية التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وتزايد نسبة التضخم، إلى جانب ارتفاع البطالة والفقر والانقطاع عن التعليم، وانهيار كل الخدمات والمرافق العمومية والحيوية من صحة وتعليم ونقل وبيئة وثقافة.

'