فعل “تكالب” يثير أزمة غياب مدوّنة لفظية للإعلام العربي – مصدر24

فعل “تكالب” يثير أزمة غياب مدوّنة لفظية للإعلام العربي

لم ينجح الاتحاد العام للصحافيين العرب في إرساء مدوّنة لفظية للإعلام العربي، لتلافي حساسية بعض المصطلحات أو الأفعال ذات الدلالة المسيئة لبعض الدول العربية دون غيرها. كما أن هذه المصطلحات لم تخطر على بال صحافيين تسببوا في مشكلات وأزمات بين الدول بسبب استعمالها في تقارير صحافية أو نشرات أخبار.

فعل “تكالَب” هو الأكثر إثارة للأزمات بين شعوب عربية لو لم تجد أزمة سارعت إلى افتعالها. وكان الفعل “المسيء” سببا في غضبة لبنانية على صحيفة “اليوم السابع” المصرية، إذ نشرت في 11 يناير 2021 تقريرا عنوانه “اللبنانيون يتكالبون على متاجر الأغذية لتخزين احتياجاتهم قبل الإغلاق الشامل”.

فاشتعلت ردود الأفعال اللبنانية الغاضبة، ولم تقتصر على مواطنين لديهم فائض من الغيرة والبراءة وحُسْن النية، بل شملت أيضا وزيرة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال منال عبدالصمد، وقد ثارت للكرامة الوطنية، وأرسلت إلى وزير الخارجية شربل وهبة تطالبه باستدعاء السفير المصري في بيروت؛ للاحتجاج على ما نشرته الصحيفة من كلام “مسيء بحق الشعب اللبناني”.

في ظل غياب حُسن النية بين الشعوب العربية، لم يفكر الاتحاد العام للصحافيين العرب منذ تأسيسه عام 1964 وعقد مؤتمره الأول بالكويت عام 1965، في صوغ مدوّنة لفظية للإعلام العربي.

هذا الاتحاد، الذي يضم نحو عشرين نقابة واتحادا، لم ينجح في إرساء مثل هذه المدوّنة المقترحة، وبوجودها وتعميمها يكون الاقتراب من كلمة “حسّاسة” أو فعل ذي دلالة مسيئة، موجبا للمساءلة، إن لم يكن لتوقيع عقوبة ولو رمزية. وما أكثر الألفاظ العربية الفصيحة التي تحمل معانيَ طيّبة في بلد عربي، ولكنها في بلد آخر تُستقبح ويستحيل نشرها؛ لانطوائها على معانيَ عنصرية أو تحقيرية، لم تخطر على بال مواطني وصحافيي البلد الأول.

من الطبيعي في نشرة الأخبار بالتلفزيون المغربي سماع مذيع يعلن بدء “حملة تحسيس للمواطنين بكذا”، يقصد التوعية.

في ظل غياب حسن النية بين الشعوب، لم يفكر الاتحاد العام للصحافيين العرب في صوغ مدوّنة لفظية للإعلام العربي

 ولكلمة “تحسيس” دلالة حسّية في مصر وفيها تسمع حوارا لبطل فيلم يقول إنه يعمل في مؤسسة محترمة، وليس في “طابونة”، وهي المخبز، والكلمة مسيئة في المغرب. وفي الشام تكون كلمة “لبوة” امتداحا للمرأة القوية الواثقة، ولكن وصف امرأة مصرية بالكلمة ذاتها يشعل حريقا شعبيا. وكذلك نداء “يا امرأة” أو “يا مَرَة” ولو من امرأة مثلها، ولا تحتمل الكلمة إهانة في غير مصر. وقد اعترضت دولة عربية على ترشيح دبلوماسي، اسمه أو لقبه “زامل”، وامتنعت عن إيضاح سبب الرفض، للدلالة المحلية غير سوية للصفة.

في تونس ربما يسألك أحدهم: “أنت معرّس؟”، بمعنى متزوج، فإذا كنت مصريا فسوف تسمع حرف السين كأنه صاد، وتثور على ما تعتبره طعنا في أخلاقك، ولن يكبح الغضب إلا افتراض حُسن النية من السائل. ومن الحساسية المصرية للكلمات أن للفظ “وسخ” معنى أخلاقيا لا يتجاوز مصر إلى الكثير من الدول العربية.

 وقبل سنوات كتب محسن زايد المسلسل التلفزيوني المصري “الحاوي”، وأخرجه يحيى العلمي. ولما عرض المسلسل في المغرب تغيّر عنوانه إلى “البهلوان”.

منطق التحايل يصلح لعمل ترفيهي حديث، ويصعب أن يشمل قصة “الحاوي خطف الطبق” لنجيب محفوظ، أو كتابا تراثيا، ولو بدافع تهذيبه، مثل “الحاوي في الطب” لأبي بكر الرازي.

في مصر لا يثير فعل “تكالَب” حساسيات، ولا يدلّ “التكالُب” على أي صلة بالكلاب. وقبل سنوات اعترض سوريون على ورود هذا الفعل في تقرير لوكالة رويترز عن “تكالُب السوريين على كذا”، وتم تصحيح الفعل وأعيد بثّ التقرير.

ولكن المؤسسات الإعلامية المصرية تخلو تقريبا من دليل مهني لفظي، “ستايل بوك”، يوّحد كتابة أسماء الأماكن والأعلام والمعالم، ويتفادى الأفعال التي لا تحظى باتفاق عربي على دلالتها الاصطلاحية. وفي صفحة واحدة بصحيفة مصرية يسهل أن تجد، على سبيل المثال، ثلاث صيغ لاسم رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتانياهو”، “نتنياهو”، “نتينياهو”. وللنشرة العربية لوكالة رويترز صيغة “توحيد” للمصطلح، ولو وجد هذا “التوحيد” ما أثيرت أزمة “التكالُب”.

في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة: “تكالب القوم على الأمر: حرصوا عليه”، ويلي هذا التعريف معنى معجميّ حرفيّ لا يفكر فيه المصريون، وهو “تكالبوا على الشيء: تواثبوا كما تفعل الكلاب”. ولا أظن اللبنانيين “تواثبوا”. وفي “معجم المعاني” في الإنترنت: “التكالُب على المال: التسارُع، التواثب عليه طمعا، التهافت حرصا وطمعا”. وأظن هذا ما تعنيه الصحيفة المصرية من تدافع اللبنانيين، مثل غيرهم في مثل هذه الأزمات، على متاجر الأغذية لتخزين احتياجاتهم قبل الإغلاق بسبب فايروس كورونا. وليس في اللفظ نيّة إساءة، إذ سارعت الصحيفة إلى الاعتذار بعد تنبيهها إلى خطأ غير مقصود أصبح خطيئة، وحذفت اللفظ المسيء، وأصبح العنوان “اللبنانيون يتزاحمون..”.

الاتحاد العام للصحافيين العرب منذ تأسيسه عام 1964 وعقد مؤتمره الأول بالكويت عام 1965، لم يفكر في صوغ مدوّنة لفظية للإعلام العربي

وأوضح موقع اليوم السابع أنه قرر تصحيح “عنوان غير موفق عن الشأن اللبناني في إطار مادة منقولة عن إحدى الوكالات الإخبارية البارزة عربيا، وذلك تقديرا لمشاعر الشعب اللبناني ودرءا لأي شبهات أو سوء فهم قد يمس بالعلاقات السياسية والشعبية الراسخة بين البلدين.. يؤكد تحمله للمسؤولية الأدبية عن الأمر تجاه الأشقاء في لبنان الحبيب، ومن هذا المنطلق فقد بادر بتصحيح العنوان على وجه يُرضي الأشقاء، متقدما باعتذار خالص ومُحب لجموع اللبنانيين، وواثقا في أن مساحة المودة تنفي عنا أي قصد للإساءة، وأن بين مصر ولبنان من التقدير والأخوة ما يضمن لنا قبول التصحيح والاعتذار”.

وفي هذه الحالة كان ناقل الكفر كافرا. فوكالة أنباء الشرق الأوسط بثت التقرير، ونشرته مواقع منها صحيفة “الشروق” الخاصة.

 ولا يزال غوغل يحتفظ بعنوان التقرير، وأول 21 كلمة منه “شهدت المحال التجارية لبيع المواد الغذائية في لبنان تكالبا كبيرا من قبل المواطنين اللبنانيين الراغبين في شراء احتياجاتهم وأغراضهم، على وقع…”.

ولعل انتباه اللبنانيين إلى “اليوم السابع” جعل “الشروق” تحذف التقرير، وإن ظل يطل برأسه عند البحث، فإذا حاولت قراءته، فاجأتك هذه الرسالة “عفوا، هذه الصفحة غير متاحة حاليا”، كما يفاجئك استمرار غضب لبنانيين رغم الاعتذار، واعتبارهم ما جرى تعمّدا للإهانة ومساسا بالكبرياء الوطنية. وهذا العصب الشعبي العاري يسِم مجتمعات تعيش في اللغة، أو تلخّص الوطن في الحاكم.

ففي أكتوبر 2017 سخر الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إياد مدني من عبدالفتاح السيسي. في ذلك الحفل بدا “الأمين” ثقيل الظل، بافتعاله دعابة للباجي قائد السبسي. وفقد مدني منصبه، بعد غضب مصريين مما رأوه إهانة وطنية. وأتأمّل مثاليْ مصر ولبنان، وأتذكر سباب رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في سبتمبر 2016 وقوله في مؤتمر صحافي قبل حضوره قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا، إن أوباما “ابن عاهرة”، وهدد بتمريغه “في الوحل مثل خنزير”، ولم تستنفر صحف أميركا. وبعد شهرين قال إن الأميركيين “قردة أغبياء”. وما فعله أوباما أنه ألغى اجتماعا مع دوتيرتي ولم “يتكالب” الأميركيون على ردّ الإهانة.

'