فنان سوداني يجمع الواقع بالحلم في لوحات تجريدية – مصدر24

فنان سوداني يجمع الواقع بالحلم في لوحات تجريدية

كمال هاشم الفنان التشكيلي وجرّاح العيون السوداني، تشبّعت عيناه وهو يافع بما يفرزه نهر النيل من حضارة وثقافة وفنون، فجسّدها وهو كهل، في لوحات تجريدية/سريالية احتفت، ولا تزال تحتفي، بكل أصيل في الفنون الأفروإسلامية التي منحته كما منحت أقطاب الفن الغربي قبله، إمكانية التحليق في فنون ما بعد الحداثة.

كانت الفنون الأفريقية عامة والأفروإسلامية خاصة، أحد أهم المصادر للفنون الغربية الحديثة منذ نشأتها الأولى، ومن بينها لوحات بيكاسو “آنسات آفنون” الأشهر التي قلبت عالم الفن رأسا على عقب.

لوحات انطلقت من مرتكزات أفريقية الملامح للأقنعة في وجوه الفتيات ورسومات الأصباغ البدائية الطبيعية على الجلود والخشب، وأصبحت هذه الأفكار بما تحمله من جرأة تقليدا في العديد من عواصم الفنون العالمية من قبل الفنانين الجدد في لوحاتهم والتجهيزات الفنية الأخرى وتصميم الرقصات والأقنعة الملونة كعروض “البرفورمنس” وفنون الأداء والموسيقى والسمات المعمارية البدائية، والتي أصبحت من عناصر فنون ما بعد الحداثة.

بالإضافة إلى رسومات الأرواح الشريرة والأساطير والقصص في المدونات الأفريقية، كأنها من مصادر لوحات رائد السريالية ماكس آرنست والمنحوتات العاجية الطولية، التي كانت سببا في ابتكارات جاكوميتي ورسومات ولوحات مودلياني وأعمال هنري مور ومنحوتاته ذات الفراغات البينية العملاقة.

تأثير وتأثر

كمال هاشم: أميل إلى الحرية في الموضوعات والأسلوب، دون التقيّد بمدرسة

هي إحدى مناطق البر الأصلي لفن الرسم الحديث، والتي اكتشفت عندها مفاصل التغيير وابتكرت من خلالها نظريات اللون والفهم التشكيلي الحديث، فكل الصراعات الحديثة في الفن التي ظهرت في القرن العشرين من الدادئية والوحشية والتجريدية بأنواعها، والتكعيبية كأسلوب ابتكره بيكاسو بعد التقاطه من الأقنعة والرسومات الأفريقية الملونة بألوانها الصريحة، كانت قد ساهمت مع فنون حضارات إنسانية أخرى في ترسيخ فكرة الفن الجديد بمختلف مدارسه واتجاهاته.

وللفنان التشكيلي السوداني كمال هاشم المولود في الخرطوم عام 1962، تجربة فنية غنية بالمفردات الأفريقية والإسلامية والموروث الجمالي للقارة السمراء، فالفنان والطبيب الجرّاح المتخصّص في جراحة العيون والمتحصل على شهادة إضافية بكالوريوس فنون جميلة (قسم التلوين) من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في العام 2018 يشتغل بوعي جديد قديم، ولكنه متكئ على مدركات حسية أخرى تتقن التعامل مع اللون وأشكال المنجز الحضاري المتّفق عليه من الذائقة البصرية وعملية الإبصار ونظرياتها العلمية الدقيقة.

وقد اكتسبها الجرّاح هاشم في عمله في مجال طب وجراحة العيون وصاغها هو نفسه الفنان التشكيلي في أبهى صورها، حيث رهافة التعبير مع أناقة التكوين في عمل فني معاصر جدا يتماهى مع المنجز العالمي للفن الحديث من القرن العشرين، ومدارس اللاشكل التي تعاقبت على تاريخ فن الرسم بطزاجة الروح المفعمة بحيوية سحرية في إخراج مفرداتها وتأثيث الفراغ بسينوغرافيا اللون وظلاله.

وفي أحيان أخرى يقترب أكثر من عوالم أكبر السرياليين بتلقائية الفنان الأول وبفكر الفيلسوف المطلع على مفاصل آخر ما تم إنجازه في فن الرسم.

في تجربته الفنية لا يهتم هاشم بالمنظور والنقل الحرفي للأشياء كأنها حدسية الطفولة ليرى العالم دون أي تعقيدات، كل الأشياء تأتي مجتمعة في نفس واحد مرتكزاته معرفية ذات أساس علمي ودوافعه عاطفية خالصة في أغلبها.

تجربة منفردة

رسم أشبه بطباعة مدونات أفريقية
رسم أشبه بطباعة مدونات أفريقية

مصادر الإلهام عند الفنان السوداني متعددة من الحضارات القديمة والرموز الأفريقية والإسلامية، وأشكال التشريح المقطعي بالكمبيوتر والمناظير الحديثة للعيون وعوالمها اللامتناهية من الأشكال والألوان ذات الأبعاد المتعددة، تلك التي ترصدنا من الداخل وتمسح تفاصيل من حياتنا في صور ومقاطع ملونة.

أعمال هاشم تختصر حالة السريالية الأولى، من أحلام عابرة، وصور مهترئة من الذاكرة، ونخيل، وبيوت، وكراسي، وانتظار، وبيادق ومزاهير، وصور من بواكير الحياة، ومدن، وزخارف ورسومات الملابس المحلية، وأحاديث الليل، وقصائد شعر ملونة، وتكوينات هندسية متجاورة بألوان السجاد.

هي أكواب موضوعة، ومساحات شطرنج وبيادق، وصور كأنها عراك في الداخل، وشاعرية اللحظة عند اللقاء مع الأحبة، وبيوت الطين، وغابات نخيل، وقصائد مكتوبة بألوان وأخرى مطبوعة بأحبار، وفتاة تجلس في فسحة الوقت، وعناق ونزوح ولقاء، ووقفة ورموز، ورسومات السجاد تتشكل في صيغ أخرى، ونساء ورجال. وقاطع من صور لقرنية العين ومرشحات البصر.

الفنان كمال هاشم يحافظ دائما على الخيط الرفيع بين الإفاقة والغفوة، الواقع والحلم، فتجده يرسم التداعيات الأولى لأحلام غامضة وفي أحيان أخرى تقترب من المحاكاة المباشرة للحياة اليومية بكل تفاصيلها وقصصها بصيغ تجريدية واهتمام كبير بالألوان وتجاورها.

فالأولى حالة سريالية أصيلة من الموروث المحلي في الأساطير الأفريقية قبل أن يتم تنظيرها من قبل جماعة أندريه برايتون وبيانه المعلن في بداية القرن العشرين صحبة شعرائه ورساميه المعتمين، والثانية اختيار دقيق للألوان وتنسيق للمفردات واستحضار أو بالأحرى استعادة لذكريات وأحلام منفلتة من خزائن الذاكرة الأفريقية الملونة بمنطق البكر مع إدراك ودراية لكل المكتسبات المعرفية من قراءات متعدّدة واطلاع على تجارب الفن السوداني بشكل خاص والفن الأفريقي والعالمي بشكل عام.

وحول تجربته التشكيلية، يقول هاشم “دافعي لممارسة الفن التشكيلي هو المحبة، حيث أهرب من عنت الحياة اليومية لأجد الراحة والسكينة في العمل الفني”. أما في ما يتعلق بكيفية ممارسته وطبيعة مواضيعه، فيؤكّد “أميل إلى الحرية في الموضوعات والأسلوب والأدوات ولا أجد ضرورة في التقيّد بالمدارس الفنية والقيود الأكاديمية”.

رهافة في التعبير وأناقة في التكوين
رهافة في التعبير وأناقة في التكوين

'