فوضى أميركية عارمة – مصدر24

فوضى أميركية عارمة

حتى الفوضى التي قادها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في العلاقات مع حلفاء بلاده الأوروبيين لم تكن بمستوى الفوضى التي يقودها الرئيس جو بايدن الآن في العلاقات مع دول الخليج.

ولقد وفرت الأزمة الأوكرانية للرئيس بايدن ما ينشغل به، إلا أن الملفات المفتوحة في المنطقة تكشف إلى أي مدى تفشل إدارته في ترتيب أوراقها أو علاقاتها أو مصالحها مع دول المنطقة.

هذه الدول نفسها يبدو أنها لم تعد ترغب بمساعدته، لأنها باتت على قناعة بأنه لن يخرج من فوضاه، وأنه حالة ميؤوس منها، وأنه حتى وإن قدم وعودا فإنه لا يمتلك في نفسه العزيمة لتنفيذها وأن من الأفضل لعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أن تنتظر رئيسا آخر.

أول الفوضى بدأ من موقف عدائي تجاه السعودية، وآخر بارد تجاه الإمارات. ولم ينته بالتورط في محادثات مع إيران من أجل العودة إلى الاتفاق النووي، لن يفعل سوى أن يزيد من الفوضى، ليس في المنطقة وحدها، وإنما في واشنطن نفسها أيضا.

مع السعودية كانت الاتهامات المتعلقة بمقتل جمال خاشقجي مجرد غطاء لموقف عدائي مضمر تجاهها عثر على ذريعته ليكشف عن طبيعته كضغينة مسبقة حيال تخلي هذا البلد عن التصرف كقوة تابعة تنتظر الحماية. وهي ضغينة يردد الإعلام الأميركي أصداءها من دون توقف. لقد تحولت إلى أيديولوجيا يتبناها كل من ينظرون إلى السعودية كخزانة نفط ومال، يجب أن تُعطي ولا تطلب.

تحرر القرار الدفاعي والأمني السعودي منذ اندلاع الحرب في اليمن، بعث برسالة أثارت القشعريرة في واشنطن، لاسيما وأن الرياض بادرت إلى إنقاذ الرئيس عبدربه منصور هادي من الأسر، ومن ثم اتخذت قرار دعم الشرعية اليمنية عسكريا من دون استشارة الولايات المتحدة أو طلب مشاركتها.

هذا هو الأساس الذي جعل واشنطن تردد أسطوانة “ضبط النفس” الباكية على الضحايا المدنيين للحرب.

التعاون منقطع النظير بين الرياض وأبوظبي أسسَّ لشراكة استراتيجية بين البلدين تمتد على مساحة واسعة من التعاون والتنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي، وهو ما بعث برسالة أخرى تسببت في نزلة برد في البيت الأبيض، لم ينج الرئيس بايدن من عطاسها حتى اليوم. مرة تقول إدارته إنها سوف تزود الإمارات بطائرات أف – 35، ومرة تتردد، ثم تعود لتقدم الوعود، ثم تعود لتتردد، حتى قررت أبوظبي أن تعلن على نحو مباشر أن العلاقة مع واشنطن بلغت مستوى من الإجهاد، أو “اختبار القابلية على الإجهاد”، يقنعها بألّا تأمل من هذه الإدارة أي شيء.

لا تدعم دول المنطقة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتعرف حجم المخاطر التي يتعرض لها النظام الدولي إذا ما نجح الرئيس بوتين في أن يفرض شروطه

ذهب وزير الخارجية أنتوني بلينكن لمقابلة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد في المغرب، وخرج منها ليقول إن اللقاء كان “رائعا”. والروعة فيه أنه كان صريحا، ما جعله لا يجد شيئا آخر ليقوله بشأن ما جرى البحث فيه. الملفات التي تم استعراضها في هذا اللقاء كشفت حجم الفوضى التي صنعتها إدارة البيت الأبيض، وكشفت لماذا لم تعد المنطقة قادرة على الثقة بقدرة الرئيس بايدن على تجاوز العثرات التي وضعها بنفسه لنفسه.

لقد اختار الرئيس بايدن أن يتفاهم مع لا أحد، حتى لم يعد من المنطقي لأي أحد أن يمد له يد العون. وها هو يغوص في وحل العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. لا هو قادر على المضي قدما بتوقيعه، ولا هو قادر على التخلي عنه بعدما استثمر فيه الكثير من الضجيج.

تفاؤلات المرشد الإيراني علي خامنئي بأن المحادثات النووية تمضي في الطريق الصحيح تعكس بحد ذاتها تشاؤمات الرئيس بايدن من النتائج.

فبالرغم من أن إيران ما تزال تضع شروطا، من قبيل رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وأن تقدم واشنطن ضمانات بعدم التراجع عن الاتفاق، فإنها في الواقع لا تريد أكثر من تحرير أموالها المحتجزة، والتي تتجاوز 100 مليار دولار، وأن تعود لاستئناف تصدير النفط بما يوفر لها ما لا يقل عن 300 مليار أخرى خلال السنوات الثلاث المقبلة. وبالتالي، فحتى لو جاءت إدارة جديدة نقضت الاتفاق النووي من جديد، أو عادت لتفرض عقوبات على إيران، فإن طهران تكون قد تزودت بحزمة من المال تكفي لمناورات طويلة. أما ما تحقق من تقدم في أعمال تخصيب اليورانيوم، فإنها ستعود لتحققه من جديد في فترة زمنية أقل من السنتين التي احتاجتها لكي تبلغ نسبة تخصيب تصل إلى 60 في المئة. الخبرات والخرائط موجودة. والتقنيات متوفرة. والمواد الخام على “قفا مَنْ يشيل”.

تفاؤلات خامنئي تقول بالأحرى إن ما تحقق حتى الآن يكفي بحد ذاته، حتى ولو لم يمكن أن تضاف إليه تنازلات جديدة من واشنطن. أما تشاؤمات بايدن، فتقول إن إلغاء العقوبات على إيران سوف تقلب عليه الغالبية في الكونغرس، وأن حزبه بسبب الاتفاق مع دولة تمارس الإرهاب سوف يمنى بالهزيمة في الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل. وإن إيران لن تكف عن أعمال زعزعة الاستقرار، وإنها سوف تواصل تهديد المصالح الأميركية في المنطقة. وبينما امتلاك قدرات نووية هو مجرد خطر وهمي أو مبالغ فيه، فإن تمويل إيران بمئات من المليارات سوف يعود ليغذي المخاطر الحقيقية التي عجزت الولايات المتحدة عن التصدي لها.

لا تدعم دول المنطقة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتعرف حجم المخاطر التي يتعرض لها النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة إذا ما نجح الرئيس بوتين في أن يفرض شروطه على أوكرانيا. ولكنها لا تجد مبررا للشراكة مع من لا يتصرف كشريك يجرؤ على تحمل مسؤولياتها ويؤدي واجباتها.

لقد اختار الرئيس بايدن أن يصنع فوضى حتى في العلاقة مع دول القرن الأفريقي. وظل يتصرف من دون أن يجري مشاورات مع الضفة الأخرى للبحر الأحمر لكي يُثبت لمَنْ لم يتيقّن بعد أنه لا يعرف ماذا يفعل. وأنه مثل الفيل في متجر خزف. كلما تحرك، تهشمت من حوله القوارير.

المؤسف في هذا الوضع كله، هو أن الوقت قد فات على الاستدراك. لا هو قادر على أن يتجاوز عثراته. ولا دول المنطقة قادرة على الثقة به. والأزمة الأوكرانية سوف تظل تعطل قدرته على التركيز، أو العودة إلى الملفات التي ترك أوراقها مبعثرة.

سنتان أخريان من الصبر ليستا زمنا طويلا. والفشل الذي سيكشف عن نفسه في الاتفاق مع إيران، سوف يكفل أن تعثر الولايات المتحدة على رئيس يعرف كيف يستدرك.

'