فيلم “الفيلق” بطولات فردية تواجه الخراب – مصدر24

فيلم “الفيلق” بطولات فردية تواجه الخراب

الكثير من الأفلام تعود إلى أحداث تاريخية لتستعيد لنا تفاصيل الصراعات والحروب التي خاضها الناس في ما بينهم، أناس متمردون ثائرون يحاولون التحرر، وآخرون غزاة ومغتصبون أقوياء، وإن كانت أغلب هذه الأفلام تصر على إظهار أصحاب الحق قلة شريفة، يواجهون عدوا يفوقهم قوة وينتصرون أو ينهزمون كأبطال عظماء، فإن فيلم “الفيلق” خير أن يقدم صورة أكثر واقعية في تصويره لصراع البولونيين مع الروس.

وسط ضجيج أحداث الماضي بما فيه من حروب وصراعات، سوف نفتقد الإنسان في محنته العظيمة، فهو في وسط ذلك الصراع ليس إلا كائنا هشا تعصف به رياح الأقوياء، فلا يقوى على التماسك ولا يقدر على إهدار ذاته عندما يجد أنه أكثر هشاشة من مواجهة تراجيديا الحرب ودورات عجلتها الماحقة.

اقتربت السينما كثيرا من هذه التراجيديا الهائلة وخاصة تلك الحروب الطاحنة ومنها الحربان العالميتان فضلا عن الحروب الأهلية والإقليمية.

وهنا في فيلم “الفيلق”، البولوني الملحمي ذي الإنتاج الضخم للمخرج داريوز غاجيوسكي، ها نحن في وسط المحنة العظيمة.

بولونيا بلد لم تكن تعترف به القوى العظمى، وخاصة الإمبراطوريتين النمساوية والروسية، ولهذا فهو ليس إلا مكسر العصا بالنسبة إليهما، ومن خلاله تمضيان لتحقيق أهدافهما كقوتين عظميين.

يتصدى الفيلم لحقبة من التاريخ تتمثل في الصراع مع الإمبراطورية الروسية من خلال تحشيد البولونيين لمواجهة الروس.

واقعيا نحن لا نرى في البدء ذلك العدو الإمبراطوري الجاثم على الصدور، ولكننا نجد صداه القاسية في نفوس طوابير من الشباب المندفعين للانخراط في مواجهة لا أحد يعلم كيف ستنتهي ومتى ستنتهي.

وهي في الواقع نوع من المواجهة – المجازفة الخطيرة التي تتجسم من خلالها أبشع صور الإجرام والخوف من جهة، والاندفاع إلى النهايات الأكثر دموية من جهة أخرى، وما بينهما هنالك الإنسان وهو يخوض تلك المعاناة الطويلة وعدم قدرته على أن يلملم شتات نفسه ما بين العودة إلى البيت الأصلي وما بين مواجهة العدو الروسي.

هذه العلاقة المركبة قدّمها المخرج في نسق بصري مؤثر، وكانت الكاميرا خلال ذلك تتنقل بحرفية واضحة بين الأجواء المشتعلة ثم العودة إلى أكثر صور الحياة البشرية بساطة وحميمية.

نحن الآن في صيف العام 1915 وقد وصل البولونيون إلى طريق لا رجعة فيه بعدما أذلهم الروس، ولم يعترفوا بهم بلدا ولا وطنا قط، بل إن روسيا لا تريد أن تسمع من أي شخص أنه بولوني وهو ما يحصل في القسم الأخير من الفيلم، عندما يواجه الجنرال الروسي من أصول بولونية مواطنه رئيس الكتيبة في الفرق الشعبية.

منطقة روكينتا على الحدود بين الطرفين، سوف تصبح هي الميدان الذي سوف تتصارع فيه الإرادات، حيث يتجمع المقاومون القادمون من القرى البعيدة، وكلهم شباب وفتيات لا همّ لهم سوى أن يلحقوا الهزيمة بالروس.

يتم حشد تلك المواجهة لكي تصل إلى ذروتها على الرغم من عدم تكافؤ القوتين إلا أن وجهة النظر بكل تأكيد توجهت لصالح الثوار البولونيين.

وخلال ذلك لم يكن الفيلم ليخرج عن نطاق الحقيقة التاريخية ولهذا فقد أغرق في ملامسة الحياة اليومية الواقعية التي تعكس ما وقع قبل قرن من الآن من تمييز وإذلال، إلى الحد الذي يقبل فيه البولوني مجبرا لكي ينجو بنفسه بالعمل جاسوسا لروسيا على بلاده أو الموت على أيدي جنودها.

إنهم يساومون الأسرى فإما العمل لدى الروس أو الموت. وخلال ذلك سوف ينقلنا المخرج ببراعة بين بيئات متعددة تشهد كل ذلك الصراع مستخدما كما كثيفا من زوايا ومستويات التصوير والانتقالات التي تتميز بالسلاسة والموضوعية، فضلا عن توازن في عدم الإسراف في إظهار البولونيين على أنهم أبطال ومنتصرون، بل إنهم ينحتون حياتهم القاسية ويحاولون أن يجدوا مخرجا من الكابوس الذي يعيشونه.

خلال ذلك وفي قسم من المساحة الفيلمية هنالك الكثير من التحشيد المباشر وإثارة الحماسة، وذلك معتاد في أفلام تعبوية كهذه لكن في المقابل هنالك الكثير من الهم الواقعي والموضوعي الذي عبرت عنه الشخصيات وقد تم انتقاؤها من بيئات متعددة.

الحب وسط الحرائق

العلاقات الإنسانية هامش مهم في المساحة الفيلمية
العلاقات الإنسانية هامش مهم في المساحة الفيلمية

يقدم الفيلم العديد من الوقفات الإنسانية في إطار ملامسة ذلك الكائن الفرد وهو يواجه عاصفة الحرب، ولنبدأ مع شخصية جوزيك (الممثل سيباستيان فابينسكي)، فهذا الشاب المطارد مع المشاهد الأولى من الفيلم والذي يتميز بخفة الحركة يختبئ محاولا الإفلات من فرسان روس جاؤوا لاعتقاله.

وإذ يختبئ ويمر الفرسان بالقرب منه فلا يعثرون عليه ونشعر بالاطمئنان لنجاته، لكن ها هو وقد تحوّل فجأة إلى صيد سهل، وها هي الخيول تجرّه.

مثل هذه التحوّلات والمفاجآت نجدها تتكرر في أكثر من موضع، والحاصل أن الظروف هي التي سوف تخدم جوزيك إذ يصادف مرور الخيالة الذين يجرّونه بالقرب من مقاومين، سرعان ما يطلقون الرصاص وينقذون جوزيك.

في مشاهد أخرى نجد تلك الشخصية الغامضة الهامشية في ما يشبه المتسوّل الذي لا يعيره أحد أي أهمية، وبالكاد يعطيه المقاومون بعض الطعام في معسكرهم، لكن جوزيك الغامض سرعان ما يقلب الموازين.

في مشهد مؤثر في إحدى الساحات يصطاد قناصون أي عابر وبمن فيهم امرأة مسكينة مع طفلها وجنود متطوعون بولونيون، إلا أن ما لم يكن في الحسبان هو أن يتسلل جوزيك إلى حيث يختبئ أولئك القناصون ويستطيع أن يقتص منهم الواحد بعد الآخر، مما أثار آمر فيلق المتطوعين فيقرر أن يلحقه بهم ويلبسه بدلة الجنود المدافعين.

الفيلم التزم بالحقيقة التاريخية فأغرق في ملامسة الحياة اليومية الواقعية التي تعكس ما وقع قبل قرن من الآن
الفيلم التزم بالحقيقة التاريخية فأغرق في ملامسة الحياة اليومية الواقعية التي تعكس ما وقع قبل قرن من الآن

وخلال ذلك سوف يتعرف جوزيك إلى أوليا (الممثلة فيكتورا وولانسكا) التي ترتبط بعلاقة حب وثيقة مع تاديك (الممثل باروس غيلنر) وهو يمثل القدوة من بين المتطوعين لكنه ما يلبث أن ينتقل إلى ثكنة أخرى ليصاب بالرصاص، وغيابه سوف يكون كافيا للاقتراب من عالم جوزيك والارتباط معه في علاقة غرامية على فرض أن حبيبها قد أصيب ومات.

تشكل هذه العلاقات الإنسانية هامشا مهما في المساحة الفيلمية حيث يتم تسليط الضوء على يوميات عزلة وحزن جوزيك في مقابل فدائية أوليا التي تتمكن من المرور عبر البوابة الروسية حاملة طفلا مزيفا ثم لتتمكن هي وصديقة لها من النفاذ ووضع قنابل الديناميت ليتم نسف جسر عبر الانهار مما يؤدي إلى تحطم الجسر وانزلاق القطار إلى الهاوية.

لعل الصراع بين قوّتين غير متكافئتين كالذي شهدناه في هذا الفيلم بين ما يشبه وحدة الميليشيا البولونية في مقابل جيش إمبراطوية عالي التنظيم، يقدم صورة لصراعات مماثلة كثيرة، ولكنه هنا صراع يستند إلى إعادة بناء واستخدام للعناصر السمعية البصرية لإظهار قدرات الطرف الضعيف.

فإن كان الروس يمارسون أشكالا شتى من التعذيب والإذلال تجاه الأفراد وصولا إلى عمليات الإعدام لمن يثبت مقاومتهم، كما ظهر في القبض على الجنرال البولوني والجندي المتطوع جوزيك، فإن للمواجهة شكلا آخر. فالجغرافيا تتمثل في منطقة حدودية بين الطرفين، والجانب الروسي مدجج بسلاح المدفعية والمشاة وأما البولونيون فسوف يتم إظهارهم وهم قادمون أفواجا حاملين السيوف.

ولعل هذه من المشاهد الأكثر جمالية وبراعة تصويرا ومونتاجا وإخراجا، وكان من الواضح أن المخرج قد أولاها أهمية خاصة إذ شاهدنا كيف جعلت الجرأة والبطولات الفردية المحاربين المتطوعين البولونيين يعبرون تحصينات عدوهم والخنادق التي تم حفرها والخيول التي تتقافز فوقها ثم السيوف التي فتكت بالجنود الروس.

ومع تلك الجمالية المفرطة فقد كانت هنالك مبالغة في بعض الأحيان، فمع يقيننا بأن الجندي تاديك وآمره الجنرال قد قتلا في المواجهة، إلا أننا نفاجأ بهما وهما حيان يرزقان، ولا تسأل عن السر وكذلك الحال في قدرة جوزيك على العودة عبر الغابات المتجمدة والمساحات الشاسعة المفتوحة وهو الذي ينزف بعد إصابته بالرصاص في منطقة الكتف، إلا أن الثلاثة سوف نشاهدهم أحياء وكأن شيئا لم يكن.

العودة من الموت

المواجهة مجازفة خطيرة
المواجهة مجازفة خطيرة

لقد كان من الاستهلالات المقنعة العلاقة بين أوليا وتاديك وكلاهما متطوعان، فهذه العلاقة الجميلة في وسط الخراب والجراح والرصاص كانت بمثابة واحة جميلة وسط النار، لكن ما هو ملفت للنظر هو ذلك التحول الدرامي على مستويين، الأول هو صدور أمر بانتقال تاديك إلى فرقة حربية أخرى والثاني هو موت تاديك، وقد وصل أوليا نعيه، وبعد مدة غير محددة تشعر أوليا بالتعاطف لجهة جوزيك ثم تتطور إلى علاقة حب وبعد تطور تلك العلاقة يعود حبيبها الأول لتشكل عودته صدمة حقيقية بالنسبة إليها.

لا شك أن رسائل الجنود الغرامية وصور الحبيبات كلها تشكل علامة فارقة في مثل هذه الأفلام الملحمية الحربية، لكن المسألة هنا تتخذ شكل علاقة مباشرة إضافة إلى البطولة الفردية المميزة التي عبّرت عنها أوليا بعبورها الجسر الذي يحرسه الروس ثم تسللها إلى تحت الجسر وتلغيمه لقطع طريق الإمداد إلى الجيش الروسي.

الخط السردي والدرامي الذي تم تأسيسه في علاقة أوليا مع تاديك كان وقفة ضرورية في وسط الخط الدرامي المتصل للصراع والقتال، ومن جانب آخر رسخ صورة واقعية يومية من حياة المتطوعين رغم أنهم ينتظرون القدر المتربّص بهم إلا أنهم يعيشون حياتهم في وجهها الآخر الأكثر إنسانية.

على أن تلك العلاقة لم يكن كافيا ولا مقنعا المضي فيها إلى نهاياتها بل تم بث حبكة ثانوية ترتبط بعلاقة أوليا المستجدة مع جوزيك لكي نشهد المزيد من التحولات المرتبطة بالشخصية وهي تعيش واحدة من أشد أزماتها قسوة، فمن جهة كان هنالك الانكسار العاطفي، ومن جهة أخرى كان الموت الزاحف ممثلا في الحرب مع الروس.

الواقعية التاريخية

يقدم الفيلم من خلال تلك القصة الواقعية صورا من تاريخ قريب مما استوجب الحرص على الشكل الواقعي التاريخي في رواية الأحداث.

وتلك إشكالية أخرى في هذا النوع من الأفلام التي تحكي جوانب من سيرة شخصيات حقيقية ما دامت القصة قد بنيت على أساس أحداث حقيقية، لكن الحقيقة التاريخية ليست وحدها كافية ولا الواقعية التاريخية التي يجري اعتمادها في البناء الفيلمي، وإنما لا بد من شكل سينمائي يتجاوز قيود المصداقية والواقعية.

 ولهذا فإن الفيلم في تحشيده للشخصيات والوقائع قد ذهب بعيدا في مسار الواقعية التاريخية حفاظا على المصداقية ووفاء لذكرى الجنود والفدائيين الذين قاتلوا الروس، ومعلوم أنه غالبا ما تهدى أفلام من هذا النوع إلى أرواح أولئك الجنود، وكما هي الحال في العديد من الأفلام الأميركية عن مغامرات وحروب أميركا في العديد من الساحات.

تشكل معركة روكينتا وما قبلها وما بعدها محور أحداث هذا الفيلم الواقعية، وهي أحداث موثقة وصراع دام وطويل، لكن وكما ذكرنا فالمعالجة الفيلمية ليست بصدد الانغماس في الشكل الوثائقي، بل إن بنية الفيلم كانت بحاجة إلى المزيد من تعميق بناء الشخصيات وإيجاد أحداث سياسية واجتماعية تتكافأ مع مرحلة الصراع لوحدها.

'