“في الشعر الجاهلي” كتاب طه حسين الذي أربك الدارسين – مصدر24

“في الشعر الجاهلي” كتاب طه حسين الذي أربك الدارسين

الجميع تسابق على شتمه والإساءة إليه قبل قرابة قرن، ليفرج مؤخرا عن الوثيقة التي برأته من تهمة الإساءة إلى الدين الإسلامي ونشره كتابا يتضمن “خرافات وتكذيبا للكتب السماوية”. إنه طه حسين الأزهري الدرعمي والسوربوني “سارق النار” والمبصر الوحيد في “جوقة العميان”. أما كتابه فهو “في الشعر الجاهلي”، الكتاب الذي أربك الدارسين وقلب الموازين.

أُفرج أخيرا عن الوثيقة التي تضمنت التحقيق مع طه حسين بإشراف محمد نور بك رئيس نيابة مصر في 19 أكتوبر 1927.

وقال رئيس النيابة في عريضة الحيثيات آنذاك إن “مؤلف الكتاب لم يكن غرضه الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها”.

وكان رئيس النيابة قد بدأ التحقيقات بعد بلاغ صادر من مؤسسة الأزهر قدم في 30 مايو 1926 يتهم فيها الدكتور طه حسين بأنه ألف كتابا يطعن في القرآن، ويشكك في الروايات والأحاديث الصادرة بشأنه، وقد جاء الكتاب تحت عنوان “في الشعر الجاهلي”.

غنيمة حرب

طه حسين بدوره استبق الحدث وتوجس من عواقبه في مقدمة الكتاب التي يقول فيها “وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه”. وفعلا هذا ما لقاه الكتاب المثير للجدل “في الشعر الجاهلي”عندما نشره في عام 1926، وكأنه كان يتوقع أن تثور ثائرة الأزهر على الكتاب. قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت أن رأيه قصد به الإساءة المتعمدة للدين أو للقرآن. مُنع الكتاب من البيع وقدم طه حسين للمحاكمة بتهمة إهانة الإسلام، لكن القاضي محمد نور حكم ببراءته وقال “إنه (الكتاب) رأي أكاديمي لأستاذ في الجامعة ولا يٌمكن اتخاذ أي إجراء قانوني ضده، وذلك لعدم توافر القصد الجنائي”.

ترى، ما عساه أن يكون هذا الكتاب الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في أواخر عشرينات القرن الماضي، أي في مرحلة نظن فيها أن الأمية كانت تضرب أطنابها، وأن القراء والمهتمين يُعدون على أصابع اليد الواحدة؟ ثم أن حكم القضاء كان متفهما ومتسامحا أكثر مما هو عليه هذه الأيام، بدليل أنه قضى بعدم سماع الدعوى المقامة ضده، وبرّأ المفكر المستنير من التهم الموجهة ضده.

كتاب أراد صاحبه أن يتطرق إلى لغة الشعر الجاهلي وهل أن شعراء ما قبل الإسلام حقيقة أم خيال من صنع بيّاعي الكلام
كتاب أراد صاحبه أن يتطرق إلى لغة الشعر الجاهلي وهل أن شعراء ما قبل الإسلام حقيقة أم خيال من صنع بيّاعي الكلام

تبدأ الحكاية بسيرة صبي مصري كفيف (1989 – 1973) عانى الفاقة والحرمان وسط بيئة يكتسحها الجهل والتخلف، وبين عائلة كثيفة العدد وفقيرة الحال في صعيد مصر. كل العوائق التي كانت ضده من جهل وخصاصة وتخلف وحرمان وشعوذة وتسببت في مأساته التي كان أبرزها فقدانه البصر، كان طه حسين لها بالمرصاد حين وعى وتفتح وعيه على العلوم الحديثة والثقافات الغربية التي تمسك بها مثلما يتمسك غريق وساع للنجاة بنفسه وببلده.. طه حسين فقد البصر لكنه لم يفقد البصيرة.

أدرك طه حسين مبكرا أن لا شيء ينقذه وينقذ بلده من الواقع المتردي غير العلم والمعرفة الذين تميز بهما الغرب، فأمسك بالأمر كغنيمة حرب، وكلفه ذلك ما كلفه من غربة نفسية وازدراء اجتماعي وسط واقع يعمل كل شيء فيه ضده.

كان على الشاب الذي أبدى تفوقا مذهلا منذ طفولته في الكتاتيب وما تلاها من المراحل الأزهرية (نسبة إلى الأزهر) فالدرعمية (نسبة إلى دار المعلمين) ثم السوربونية (نسبة إلى جامعة السوربون) أن يشكك في كل ما تلقاه عن طريق ثقافة النقل التي جانبت العقل.

وكان من الطبيعي أن يتسلح بفلسفة رائد الحداثة الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650) في مقولته الشهيرة “أنا أشك، إذن أنا موجود”. أعمل طه حسين معوله في كل ما تعلمه ولقنوه إياه فلم يستسلم لكل ما هو جار لدى الآخرين مجرى الحقيقة المطلقة، فكان مثل المعري الذي كتب عنه إحدى أهم أطروحاته، وهو الكفيف مثله، يشكك في كل ما قاله الأقدمون واعتبروه قيمة ثابتة.

أول ما بدأ طه حسين بدكّه في الشعر الجاهلي هو التشكيك في صحة روايته وحقيقة تدوينه، وخلص إلى أن غالبه منحول، ومنسوب إلى من جاء بعده في صدر الإسلام وعصر التدوين، أي في الفترة التي انتشرت فيها الكتابة وصار فيها للشعر رواة يبيعون ويشترون في الأسواق، وينسجون على منوال الأسلاف، تماما كما يفعل الصينيون الآن في التجارة العالمية.

“في الشعر الجاهلي” كتاب أراد صاحبه أن يتطرق إلى لغة هذا الشعر، والزمن الذي كُتب فيه، ولماذا كُتب، وهل أن شعراء ما قبل الإسلام حقيقة أم خيال من صنع بياعي الكلام والمتاجرين به لشتى الغايات.

ما حقيقة شعراء مثل عنترة وامرئ القيس وطرفة بن العبد.. وغيرهم؟ هل ينتمي هذا القول إليهم أم هو مجرد نظم وضعه أصحابه على نفس الشاكلة بطريقة لا تخلو من مهارة وحرفية تمحو الأثر وتتوه الدارسين والمدونين كما فعل حمّاد الراوية في الكوفة، والملقب بـ”حماد الكذاب” آنذاك؟

أغرب ما أثار طه حسين في كتابه هو كيف غفل شعراء هذا العصر المسمى بـ”الجاهلي” على تصوير حياتهم الروحية فبدت لنا وكأنا جافة وخالية من المشاعر الدينية، فكأنما نحن إزاء ثلة من الشعراء اللادينيين أو الملحدين الذين لا تعنيهم عقيدة أو إيمان، في حين أننا نتلمس بيئة معنية بأسئلة الوجود والعدم، كما هو الشأن في قصائد أمية بن أبي السلت أو خطب قص بن ساعدة ونثرياته.

عجز هذا الشعر عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين، فهو يُظهر حياة غامضة جافة بريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على الحياة العامة. فيطرح السؤال: كيف لقبائل عربية ضحت وحاربت من أجل دينها لا تظهر هذه الحياة الدينية في شعرها؟

ويتساءل صاحب الأطروحة الأكثر إثارة في تاريخ الأدب العربي: إذا كان هذا الشعر ينتمي إلى قبائل متفرقة (القحطانيون في اليمن، العدنانيون في الحجاز)، والنقوش والنصوص أثبتت أن هناك فرقا جوهريا بين لغة القحطانيين والحجازيين، إذن من المفروض أن يظهر اختلاف في لغة شعر هذه القبائل لكننا لا نرى

 شيئا في الشعر الجاهلي. فها هو القرآن الذي أتى بلغة واحدة وهي لغة قريش ولهجتها، ما أن تناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا. يطرح طه حسين السؤال “إذن كيف استقامت أوزان الشعر الجاهلي وبحوره وقوافيه ولغته لقبائل العرب كلها على الرغم من تباين لغاتها ولهجاتها؟

عبدالكريم حمو: طه حسين لم يكن سوى ثمرة من ثمرات الاستشراق

ويعطي طه حسين الدليل ويقيم الحجة بقوله “مثلا امرؤ القيس قحطاني، يمني حسب الرواة، وشعره قُرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد اللغة. فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز؟ بل في لغة قريش؟”.

يبرز هذا واضحا في كتابات الناقد والموسوعي المصري شوقي ضيف (1910 – 2005) تلميذ طه حسين ووريث كرسيه في مجمع اللغة العربية، والذي كان بدوره أستاذ أحد جهابذة مدرسي الأدب الجاهلي عبدالحفيظ السطلي، الذي تشرفت شخصيا بالتعلم منه في جامعة دمشق.. هل أنا، ومن حيث لا أعلم، أحد تلاميذ أساتذة طه حسين من أمثال كارل بروكلمان أو ريجيس بلاشير من اللذين قال عنهم طه حسين “وكيف نتصور أستاذاً للأدب العربي لا يَلم ولا ينتظر أن يلم بما انتهى إليه الفرنج من النتائج العلمية حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ولغاته المختلفة؟ وإنما يُلْتَمَس العلمُ الآن عـند هؤلاء الناس”؟ ويضيف المفكر الليبرالي الممتن للغرب الأوروبي في كل معارفه “ولا بد من التماس المعرفة عندهم حتى يتاح لنا نحن أن ننهض على أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترد ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا وآدابنا وتاريخنا”.

وكان لا بد لهذا الرأي من حملات وردود لاذعة من طرف الأوساط النقدية في الكتابة العربية من أمثال حمو عبدالكريم الذي وإن أقر بفضل المستشرقين في الإضاءة على الأدب العربي قديمه وحديثه، فإنه يعتبر أن طه حسين لم يكن في الحقيقة سوى ثمرة من ثمرات الاستشراق، ومُبشّرا بالمبادئ والأصول التي دعا إليها المستشرقون في مجال دراسة الأدب، وعلى صعيد الرؤية العامة للأدب العربي الكلاسيكي في عصوره المختلفة.

ويستشهد في ذلك بما جاء في كتاب إدوارد سعيد الشهير عن الاستشراق بقوله “وكانت العلاقة بين المستشرق والشرق بصورة أساسية تأويلية، فإذا وقف المستشرق والباحث أمام حضارة أو منجزة ثقافية نائية لا تكاد تفهم، قلّص الإيهام عن طريق الترجمة، والتصور المتعاطف.. بِيد أنَّ المستشرق بقي خارج الشرق الذي بقى نائيا عن الغرب”.

سيرة طه حسين الذاتية كانت بمثابة دراما حقيقية، وملحمة بطل قهر الظلام والجهل والفقر. وقدّم المصري، والشرقي عموما، على أنه إنسان جدير بالعيش الكريم، يتوق إلى الأنوار وهو يفكر ويدهش ويمتع، متحديا واقعه المرير، ومتجاوزا لثقافة الترهات والقبول بالمنقول دونما تفكير أو تمحيص كما هو الشأن في قضية الشعر الجاهلي التي زعزعت قناعات أولئك الذين يقبلون بالكلام على عواهنه دون أن يعيدوا فيه النظر والتمحيص.. التمحيص، ألم يقل ابن خلدون الذي قدم فيه طه حسين أحد أهم أطروحاته “التاريخ في باطنه لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتمحيص”؟

قبل أن ينجز كتابه الشهير عن الشعر الجاهلي الذي كان بمثابة القنبلة المدوية في الأوساط الأدبية والنقدية، عاد طه حسين إلى

مصر من فرنسا سنة 1915، أقام فيها حوالي ثلاثة أشهر أثار خلالها معارك وخصومات متعددة محورها الكبير بين تدريس الأزهر وتدريس الجامعات الغربية الأمر الذي حدا بالمسؤولين إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة المعطاة له لتغطية نفقات دراسته في الخارج، لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار، فعاد إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي ولكن في العاصمة باريس، فدرس في جامعتها مختلف الاتجاهات العلمية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث وأعد خلالها أطروحة الدكتوراه الثانية وعنوانها “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”، وكان ذلك عام 1918 إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، والنجاح فيه بدرجة الامتياز، وفي غضون تلك الأعوام كان قد تزوج من سوزان بريسو الفرنسية سويسرية الجنسية التي ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر على اللغة الفرنسية واللاتينية، فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد.

سارق النار

Thumbnail

كان لهذه السيدة عظيم الأثر في حياته، فقامت لهُ بدور القارئ، فقرأت عليهِ الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تمت كتابتها بطريقة برايل حتى تساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً وقد أحبها طه حسين حباً عظيما، ومما قاله فيها أنه “منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم”، وكان لطه حسين منها اثنان من الأبناء هما أمينة ومؤنس.

طه حسين كان نموذجا للمثقف الموسوعي والملم بالمفهوم الجاحظي للكلمة، فالمتتبع لجميع مؤلفاته يكتشف أنه كتب في كل شيء، نقدا وتاريخا وتحليلا وتوثيقا، ودراسات استشرافية مذهلة أهمها “مستقبل الثقافة في مصر”، الكتاب الذي سبق عصره.

وفي كل ما كتب لم يحد طه حسين عن منهجه العلمي وسلوكه الليبرالي حتى في المرحلة الناصرية التي غلب عليها طابع الأدلجة والتجييش. يكفي أن تتطلع على كتاب “في الشعر الجاهلي” حتى تكتشف أن طه حسين لا يأخذ بالمسلّمات، ولا يستقر عند يقين في نظر المجموعة.. إنه مختلف، ويتفوق على نفسه في كل ما كتبه. فعلى صعيد الإبداع الأدبي ما زالت قصصه ورواياته تنشر مثل “دعاء الكروان” و”المعذبون في الأرض” و”صوت باريس”، حتى أن نجيب محفوظ اعترف قبل وفاته أنه قد استلهم فكرة ثلاثيته من قصة طه حسين “شجرة البؤس”. ولا ننسى هنا سيرته “الأيام” التي تعد فتحا غير مسبوق في السيرة الذاتية العربية.

نزار قباني: ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى إنما نحن جوقةُ العميانِ

طه حسين، وبعد مرور ما يزيد عن نصف قرن على وفاته، لا يزال محط تقدير واحترام فائقين حتى في أحلك الظروف وأكثرها انحطاطا وتهميشا للثقافة والمثقفين، إذ تحتفظ الذاكرة التونسية، مثلا، بزيارته التاريخية إلى تونس فجر استقلالها سنة 1957 وإشرافه على تأسيس دار المعلمين العليا فيها، ومحاضرته التي أبدى فيها كبير إعجابه بذلك “التناغم الرشيق بين الدين والدنيا، والذي يندر مثيله في العالمين العربي والإسلامي” وذلك أثناء لقائه بشيوخ جامع الزيتونة. هذه العلاقة التاريخية المميزة بين المفكر الليبرالي المصري وجمهور محبيه في تونس جعلت أخيرا الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري في تونس “الهايكا” تتخذ قرارا بوقف بث برنامج إذاعي لمدة أسبوع بعد سخرية أحد مقدميه من عميد الأدب العربي طه حسين.

وفي بيان أصدرته منذ أيام أكدت “الهايكا” أنها قررت إيقاف برنامج “أحلى صباح” الذي يتم بثه على القناة الإذاعية الخاصة “موزاييك أف.أم” لمدة أسبوع من تاريخ بلوغ القرار، وذلك للمخالفة الجسيمة التي تضمنتها تلك الحلقة من البرنامج، والتي تمثلت في “المس من الاحترام الواجب لكرامة الإنسان من خلال السخرية من أصحاب الإعاقة البصرية”. كما قرر المجلس عدم إعادة بث الحلقة موضوع القرار وسحبها من الموقع الإلكتروني الرسمي للإذاعة ومن جميع صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لها والالتزام بتنفيذ قرار الهيئة وعدم الالتفاف عليه بأي شكل من الأشكال.

إنه طه حسين الذي قال عنه نزار قباني:

“إرمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى

إنما نحن جوقةُ العميانِ

أيها الأزهريُّ يا سارقَ النارِ

ويا كاسراً حدودَ الثواني”.

'