في عالم المضاربة والرهان لا مستقبل للتكنولوجيا الذكية – مصدر24

في عالم المضاربة والرهان لا مستقبل للتكنولوجيا الذكية

من المضاربة في أسواق المال إلى الرهان على حالة الطقس، تبذل محاولات حثيثة لتطوير أنظمة ذكية قادرة على التنبؤ بالنتائج. ولكن في عالم “من لا يقبل فيه الخسارة لا يحقق الربح”، لن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى إوزة تبيض ذهبا.

لندن – يكفي أن نعلم أن ما يتم تداوله في أسواق المال يتجاوز يوميا 6 تريليونات دولار، لندرك حجم الإغراء الذي يشكله هذا الرقم بالنسبة إلى الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا الذكية، وحجم الجهود التي تبذل للوصول إلى نظام ذكي مؤتمت يكون بمثابة كلمة سر تفتح كهوف أسواق المال وتقلل من المخاطر التي يتعرض لها المضاربون.

والمضاربة هي شراء الأسهم والسندات والسلع الأولية والمعادن الثمينة والمواد الغذائية، على أمل أن يرتفع سعرها في موعد لاحق لبيعها وتحقيق ربح سريع. أو عكس ذلك، القيام ببيع سلعة لا تمتلكها على أمل انخفاض سعرها وشرائها من جديد. وعادة ما توصف المضاربة بأنها معاملات محفوفة بالمخاطر هدفها الاستفادة من التقلبات قصيرة المدى.

ما يرى فيه البعض مفتاحا للحصول على كسب سهل، يرى فيه آخرون كابوسا قد يقضي على عمليات المضاربة في أسواق المال التي لا يمكن أن تستمر إلا بوجود أعداد من الخاسرين تعادل على الأقل أعداد الرابحين.

في حقيقة الأمر، ما كان لأسواق المال أن توجد إلا بوجود عوامل ثلاثة: الأول، وجود السلعة. والثاني، وجود بائع وشاري. أما العامل الثالث فهو وجود خاسر أو أكثر مقابل كل رابح. ولطالما تحدث المضاربون والخبراء في أسواق المال عن استحالة وجود معادلة أو طريقة رابحة مئة في المئة.

شموع يابانية

هل يزيح الذكاء الاصطناعي ثور وول ستريت رمز القوة والجرأة الشهير من مكانه في مدينة نيويورك مستقبلا؟

البحث عن الإوزة التي تبيض ذهبا ليس وليد الحقبة التكنولوجية، بل نجد بدايات لهذا البحث مع “الشموع اليابانية” وهي تقنية ما زالت مستخدمة حتى اليوم، وتعتبر من أشهر طرق التحليل الفني للأسهم أو بورصة العملة، ويرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر، حيث كان اليابانيون يتاجرون في سوق الأرز، وقام مضارب يسمى هوما مونهيسا بابتكار تقنية فنية لتمثيل سعر الأرز وتحليله وسميت هذه التقنية بالشموع اليابانية.

تعتبر الشموع اليابانية تقنية فريدة من نوعها لقراءة رد فعل السعر والتعرف على نفسية المضاربين من خلال مجموعة من النماذج التي تعطي إشارات مبكرة ذات قيمة كبيرة للمحللين.

محاولات عديدة بذلت منذ ذلك الوقت للبحث عن مؤشر يتنبأ بحركة الأسواق، ومئات المناهج والكتب ادعت القدرة على تدريب المضاربين لتحقيق الربح السهل. لم يصدق أي منها. ولم تتجاوز نسبة الربح والخسارة الخمسين في المئة، ليبقى قانون الاحتمال والصدفة سيد الموقف، ويبقى الربح من نصيب الأكثر التزاما بقانون الصدفة، أو من لديه معلومات مسبقة عن قرارات قد تؤخذ وتؤثر على الأسعار سواء هبوطا أو صعودا.

ولكن، الخبر في عالم المال ليس خبرا بعد أن ينشر. وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن القرارات الكبرى في البيع والشراء تؤخذ بناء على الشائعات. ولا تنفع هنا مئات المؤشرات، فهي لا تقدم معلومات مفيدة لقراءة مستقبل حركة الأسواق، بل يقتصر دورها على عرض بيانات ومعلومات عمّا جرى في الماضي.

هناك فرق جوهري بين المضاربة في أسواق المال، التي ينظر إليها بمثابة نوع من المقامرة، وبين الاستثمار على المدى الطويل المبني على توقعات مدروسة.

لا يولي المضاربون اهتماما كبيرا بالقيمة الأساسية للأوراق المالية، بل ما يشغلهم هو ملاحقة التحركات السريعة لأسعارها اليومية، وبمقدورهم من حيث المبدأ التداول في أي سلع تجارية أو أداة مالية.

طرة ونقش

وما يجمع عليه الخبراء أن الرهان على الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بحركة الأسهم والأسواق المالية، لن يمنح فرصا أكثر لتحقيق نسب أعلى من الربح وتجنب الخسارة، ولكنه قد يقدم خدمة كبيرة إذا ما اعتمد للقيام آليا باتخاذ القرارات، فهو بذلك يحرر المضارب من الضغط النفسي ومن التردد في اتخاذ قرار البيع والشراء. حيث يرى الخبراء أن التردد في اتخاذ القرار أسوأ صفات المضارب عادة.

كل من جرب التعامل في أسواق المال سمع النصيحة التي تقدم للقادمين الجدد: الشرط الأول لتحقيق الربح هو وضع المشاعر جانبا، يجب أن يتم التعامل في تلك الأسواق كالآلة، مجردا من المشاعر. ومن أفضل للقيام بذلك من الروبوتات؟

يمكن للروبوت أن ينفذ أي خطة بسيطة عددا لا متناهيا من المرات دون أن يقع ضحية لمشاعر الخوف من الخسارة، أو الطمع في جني ربح أكبر.

في أفضل الأحوال، لن تحقق الأتمتة سوى نتائج متقاربة بين الربح والخسارة، لا يهم أخيرا من يرمي قطعة النقد في الهواء، فهي ستستقر إما “طرة” أو “نقش”؛ بعد محاولات متكررة عديدة سنصل إلى مرحلة يكون العدد فيها متساويا بين الاحتمالين.

الذكاء الاصطناعي لن يكون عنصرا حاسما في المستقبل لتبقى المضاربة على المدى المنظور نشاطا محصورا بالبشر

هذا يفسر لماذا لا تخضع الحكومات الأرباح الناجمة عن المضاربة للضرائب، لأن المضارب حتى وإن حقق الربح في مرحلة ما، سرعان ما سيعود إلى الخسارة. تماما كما في بيوت القمار.

الخيار الثاني أمام المضاربين لاتخاذ قرار البيع والشراء هو تحليل الأخبار، ليس الاقتصادية والمالية فقط، بل الأخبار السياسية والبيئية والعلمية أيضا. الإعلان، مثلا، عن نجاح شركة تصنيع أدوية في تطوير دواء لعلاج مرض مزمن سيرفع من سعر أسهم الشركة بشكل درامي. الذين سمعوا بالخبر في طور الإشاعة سيجنون الربح الأكبر.

في حالات مثل هذه لا يوجد الكثير ليقدمه الذكاء الاصطناعي. الحروب والأوبئة والظواهر الطبيعية، كلها عوامل يمكن بمعرفتها مسبقا تحقيق الربح. العوامل التي تتحكم في الأسواق أكثر من أن تحصى. والإشاعة سيد الموقف.

الخوارزميات والتعلم العميق والذكاء الاصطناعي تقنيات قائمة على بيانات ومعلومات حصلت في الماضي، لا نحتاج إلى الذكاء الاصطناعي لمعرفة أن الغزو الروسي لأوكرانيا سيحدث أزمة ترتفع على إثرها أسعار المواد الغذائية. أو أن الغزو سيحدث أزمة في الطاقة ترتفع بسببها أسعار النفط والغاز.

المتغيرات التي تؤثر على سعر الأسهم والعملات أكثر من أن تعد أو تحصى، بعضها يمكن معرفته أو التنبؤ بحدوثه، ولكن الكثير منها تتحكم فيه الصدفة والعشوائية.

يمكن، لو أحسنا تحليل المعطيات الاقتصادية، أن نتنبأ مثلا برفع سعر الفائدة أو خفضها، وبالتالي التنبؤ بانخفاض قيمة الدولار أو ارتفاعها. ولكن هل يمكن التنبؤ مثلا بحجم الخسائر الناجمة عن إعصار قبل حدوثه، أو كما في حالة فايروس كورونا بحجم الخسائر المترتبة على الجائحة قبل حدوثها؟

من حسن حظ أسواق المال أن الذكاء الاصطناعي لن يكون عنصرا حاسما في الكثير من الحالات، وأن هذه الأسواق ستبقى على المدى المنظور نشاطا محصورا بالبشر، تسهل التقنيات الحديثة القيام به ولكنها لا تحل مكانهم.

'