في غياب أمير الحداثة – مصدر24

في غياب أمير الحداثة

لدي أسباب شخصية تجعلني أحبه. ولكنها أسباب ليست ملزمة لأحد. لذلك سأتحاشى طرحها. فما أراه أنا قد لا يكون حقيقيا بسبب الحب. وقد يكون صنيع عاطفة سيكون من الصعب تفكيك عناصرها والوصول إلى جذورها والتعرف على تجلياتها.

غير أن زيارتي إلى بلده البحرين بعد أيام من وفاته جعلتني أكتشف أن ما أحمله إليه من حب لم يكن حالة شخصية بل كان حدثا جماعيا. الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الراحل كان محبوبا بطريقة قد لا يتوقعها الكثيرون في بلد صعب مثل البحرين.

فالرجل الذي عُرف بحزمه وصلابته لم يكن كثير الظهور في الإعلام، غير أنه كان حريصا على أن يفتتح المعرض السنوي للفن التشكيلي البحريني. تلك هي المناسبة التي تعرفت من خلالها عليه.

مناسبة ليست سياسية كان حضوره فيها يهبها طابعا مهيبا.

لم تتح لي فرصة سؤاله عن سر شغفه بالرسم. هل كان يتمنى أن يكون رساما؟ ولكنني بعد وفاته طرحت على سياسي صديق سؤالا لطالما شغلني هو “مَن يقف وراء التحديث والمعاصرة في البحرين؟” فقال “هو” في إشارة إلى الأمير الغائب. إنه رجل يحب الجمال ويغريه في الحياة أن يكون بلده جميلا وعلى قدر لافت من المعاصرة.

ينتمي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة إلى جيل المؤسسين. الجيل الذي عاصر الاستقلال بل وساهم في صناعته وصياغة صورته. كان قويا وصلبا في الدفاع عن البحرين المستقلة التي تفك ارتباطها ببريطانيا وتقاوم الأطماع الإيرانية. في ذلك بدا ممثلا لكل الشعب بكل فئاته. فالرجل القوي لم يعرف إلا بحرين واحدة بشعب واحد.

لقد عُرف بنزعته القومية. وهو ما وضعه في مصاف الزعماء الكبار في المنطقة. وكان مثاليا في ميله إلى سلام الأقوياء المنفتح على المحيط العربي وعلى الآخرين بطريقة متوازنة. كان صانع توازنات داخلية وخارجية مدهشة. لذلك لم تكن العواصف لتخيفه.

هو رئيس الوزراء الأكثر بقاء في منصبه في العالم العربي. ذلك صحيح، وكان ذلك ضروريا بالنسبة إلى البحرين. فالبحرين ليس كمثلها بلد. بلد صغير ولكنه مليء بكل شيء. يكفي أنه كان دائما محل نزاع بين الحضارات. “دلمون” كانت المحطة الأبرز في تاريخه. لا تزال مفاجآت كثيرة ترقد نائمة تحت سطح أرضه. إنه بلد قديم أدرك الأمير خليفة بن سلمان أية مسؤولية تقع على عاتقه وعاتق أخيه أمير البلاد السابق الشيخ عيسى بن سلمان في الخروج به إلى بر العصر الحديث. وكان لهما ما أرادا.

لقد شهدت البحرين قفزات حضارية بطريقة مدروسة في مختلف مجالات الحياة. أتذكر أن عدد الطلاب البحرينيين الذين كانوا يدرسون في جامعة بغداد في سبعينات القرن الماضي كان كبيرا. أما اليوم، فإن جامعة البحرين هي واحدة من أكبر الجامعات في المنطقة.

أما مشهد المنامة المعماري فإنه يضعها في مصاف المدن الحديثة. لقد بنيت بعقل تنويري وعزيمة لم تثنها عن المضي إلى هدفها الأحداث التي تعبر عن سوء فهم أو فقر خيالي.

ولأننا نتحرك في إطار جغرافي محدد فعلينا أن نعترف أن رائد تلك الاندفاعة النضرة والخلاقة نحو مواكبة العصر كان رجلا واحدا هو الزعيم الذي أراد لشعبه أن يتخلص من سلبيات الماضي ومظاهره الرثة.

كنت كلما ذهبت إلى البحرين أرى مباني جديدة ويتغير المشهد. فكنت أفكر بعيني مصممها الحالمتين. وحين وصلني نبأ وفاته قلت لنفسي “لقد مات سعيدا”.

لقد أنجز استقلالها وكان ذلك مشروعا سياسيا غير أن مشروعه الأهم كان حضاريا. فالرجل لم يكتف بالتحرك في إطار سياسي وهو قاد حكومة بلاده لعقود طويلة، بل اجتهد أيضا في بنائها بدءا من التعليم وانتهاء بالصورة الجمالية مرورا بالأوضاع المعيشية للمواطنين والخدمات الأساسية التي تشكل أساسا للبنية التحتية.

لقد عبر بالبحرين الأزمات وحماها من العواصف وأسس لسلوك سياسي سيكون قاعدة للتعامل داخليا وخارجيا بالنسبة إلى مَن تدرب على يديه. وأنا على يقين أن نهجه بشقيه السياسي والاقتصادي سيتم تطويره بما يناسب العصر ويفتح طريقا إلى المستقبل الذي نظر إليه بعينين حالمتين.

شخصيا كنت أتمنى أن أراه وهو يفتتح المعرض السنوي القادم للفنانين التشكيليين البحرينيين ولكني على ثقة من أن يده التي صافحت أيدي الجميع في السابق سيكون أثرها واضحا على كل يد.

إنها يد الرجل الذي أحب الجمال وصنع بلدا جميلا.

'