قيس سعيد يختار مفردات “الاستنزاف” بدل رسائل “المواجهة” – مصدر24

قيس سعيد يختار مفردات “الاستنزاف” بدل رسائل “المواجهة”

اللعب على المفردات وفق ما تقتضيه المتغيّرات التي تكاد لا تهدأ على الساحة السياسية التونسية، بات السمة الطاغية التي تطبع خطابات الرئيس قيس سعيد. فبدل مواجهة معارضي مواقفه لفك طلاسم الجمود المعرقل لأي حلّ محتمل، توحي اللهجة المتغيرة في آخر خطاباته بأنه دخل مرحلة استنزاف مع احتدام الخلافات مع رئيس الحكومة الذي يواصل الاستقواء برئيس البرلمان.

تونس – عاد الرئيس التونسي قيس سعيد مرة أخرى ليبعث برسائل نارية جديدة إلى خصومه السياسيين دون ذكرهم بالاسم، استعمل فيها مفردات من القاموس الحربي التي أصبحت لا تخلو منها خطاباته، وكلماته التي تتالت منذ توليه سدّة الحكم في الثالث والعشرين من أكتوبر من العام 2019.

ورغم مضي نحو 15 شهرا على وجوده في قصر قرطاج الرئاسي لم يتوقف قيس سعيد عن اللجوء إلى تلك المفردات الحربية في سياق حديثه عن الأزمة المركبة التي تعصف ببلاده، دون أن نرى تجسيدا لها على أرض الواقع، حيث تناثر إيقاعها بعيدا عن اهتمامات الشعب.

ومع مرور الوقت، أصبحت تلك المفردات مادة للتندّر السياسي على صفحات التواصل الاجتماعي مرفوقة ببيانات حرب 1967 (النكسة)، التي كانت تبثها إذاعة “صوت العرب” بلسان المذيع المصري الشهير أحمد سعيد، والذي عُرف بأسلوبه الحماسي، الذي أكسبه شهرة تجاوزت مصر إلى غالبية الأقطار العربية.

لكن ذلك، لم يحل دون مواصلة الرئيس سعيد في هذا الأسلوب الخطابي، حيث كثف من استحضار تلك المفردات الحربية، التي توحي لسامعها وكأن تونس تخوض حربا تحرّرية ضد عدو غاشم، لينتقل بسرعة من الحديث عن أن “الصواريخ على منصاتها جاهزة للإطلاق”، إلى التأكيد على استعداده لخوض “حرب استنزاف طويلة”.

وجاء هذا التحوّل الذي بدا فيه قيس سعيد وكأنه انتقل من خطاب حرب 1967 التحريضي والتعبوي لرفع المعنويات، إلى مفردات حرب الاستنزاف التي تلتها، مُتزامنا مع احتدام الصراع في البلاد بينه وبين رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي اختار الاستقواء برئيس حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي الذي يرأس أيضا البرلمان التونسي.

وعكست الكلمة الأخيرة للرئيس سعيد التي ألقاها مساء الثلاثاء الماضي بحضور زهير المغزاوي، أمين عام حركة الشعب وغازي الشواشي، أمين عام حزب التيار الديمقراطي، هذا التحول الذي يشي بشكل أو بآخر، بدخوله مرحلة الاستنزاف التي تتطلب تبديل مفردات خطابه، وتعديلها وفقا لمساحات الصراع المفتوحة، وما تستدعيه من مقومات “الصمود والثبات”.

وفي هذه الكلمة التي دامت نحو عشر دقائق وبثتها الرئاسة التونسية في موقعها على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، تطرق قيس سعيد إلى مسألة الحوار الوطني الذي تُنادي به مختلف القوى الفاعلة لبلورة خطة إنقاذ تُخرج البلاد من أزمتها، حيث رفض ضمنيا الذهاب إلى هذا الحوار وفق الآليات المطروحة حاليا.

التصعيد الذي بدا في خطاب الرئيس متدحرجا نحو الحسم، تراجعت حدته في آخر خطاباته مركزا على إنهاك الخصم

وقال بأسلوبه المعتاد، موضحا رؤيته وشروطه لتنظيم مثل هكذا حوار وطني، إنه يريده “أن يكون جمعا واجتماعا حول الصدق والثبات والأمانة، ولا نحب أن يكون جمع تكسير كما يريدون وكما يشتهون، وكما يمنّون أنفسهم بمثل هذا الحوار”، دون أن يحدد هؤلاء الذين اكتفى بالإشارة إليهم بضمير الغائب “هم”.

وتردّد ضمير الغائب كثيرا في هذه الكلمة، حيث تابع “..هي حرب استنزاف طويلة أرادوها من أجل المناصب والأموال، لكن ليتأكدوا أن محاولات الاستنزاف فاشلة، ومآلها مزبلة التاريخ”، ليستدرك قائلا “..سنواصل خوض المعركة، لن نتراجع، ونحن لا نخشى ساحات الوغى”.

وأضاف “إذا كان قدرنا أن نخوض هذه المعركة، فإننا لا نقبل إلا بالانتصار، الدولة ليست دمية يُحركها من يُحرّك الخيوط، وليست كرة تتقاذفها الأقدام وليست فريسة تحوم حولها السباع والضباع، وما أكثرها هذه الأيام وسيادة الوطن ليست معروضة للبيع..”.

والمُتمعّن في مجمل هذه المفردات، يستطيع أن يلمس بسهولة أن الرئيس سعيد لم يخرج من قاموس الخطاب الحربي بتلاوين عناوينه، التي تتغير وفقا لطبيعة المعركة، وقوة الخصم أو “العدو”، وتبعا لتطورات جبهات السجال التي يبدو أنه فتحها في أكثر من اتجاه.

ويتضح ذلك من خلال مجمل الخطابات السابقة للرئيس سعيّد، وخاصة منها خطابه قبل الأخير الذي أمطر فيه الغنوشي ومعه المشيشي بـ”صواريخ” سياسية وأخرى دستورية، حيث استحضر فيه المقولة الشهيرة “البحر من ورائكم، والعدو أمامكم” للقائد العسكري الإسلامي طارق ابن زياد.

وقال في ذلك الخطاب مخاطبا مجمل الطبقة السياسية في بلاده، إن “كرسي الرئاسة ليس شاغرا، ولا ألعب دورا رمزيا كما يدّعي البعض”، كما أن “الشعب أمامكم وأنا واحد منه، والدستور وراءكم وأنا حريص على تطبيقه، فأين المفر؟”.

غير أن هذا التصعيد الذي بدا في خطاب الرئيس سعيد متدحرجا نحو حسم الأمر باتجاه وقف المناورات التي أطالت أمد الأزمة في البلاد، تراجعت حدته في آخر خطاباته الذي ركّز فيه على “حرب الاستنزاف” التي تستهدف مهادنة الخصم لإنهاكه، وليس مواجهته وإبعاد خطره.

وساهم هذا التحول الذي يبدو أنه على صلة بالأوراق التي يملكها والتي أدرك أنها ليست ذات جدوى، إلى حد كبير في بروز خيبة ارتسمت في سياق ردود الفعل المختلفة التي تناولت خطابه الأخير، بدت في معظمها غير مُطمئنة لمسار الرهان عليه لتغيير موازين القوى الحالية.

وتؤكد الرسائل المحمولة في خطابات الرئيس سعيد، وما تتضمنه بين سطورها من مفردات حربية نارية، هذه الخيبة، لأنها تتالت في سياق يختلف عن مسار ممارساته على أرض الواقع التي تشي بأنه ليس في وارد اتخاذ الخطوات الضرورية التي من شأنها إنتاج الحلول لإخراج البلاد من أزمتها وفق مقاربة واقعية لا تخلّ بالثوابت.

'