كتاب يشرّح تضخّم الذات في زمن الإنترنت – مصدر24

كتاب يشرّح تضخّم الذات في زمن الإنترنت

فيسبوك وتويتر وإنستغرام وسواها ليست لعبا مسلية، بل هي أدوات تشكل الروح الجديدة للأفراد، حيث تعدهم بأن يكونوا، شأن أقوياء هذا العالم، مقروئين ومسموعين، بعد أن وجدوا فيها وفي الإنترنت عموما إجابة عن شعورهم بالإحباط، وعن تجاهل الحكام لمطالبهم والاعترافِ بحقوقهم. وقد غذّى التواصل التكنولوجي المفرط في نفس كلّ فرد شعورا زائفا بالقوة، ما يفسّر انفجار الغضب في الكثير من المجتمعات.

تشهد أوروبا في الأعوام الأخيرة موجات احتجاج عارمة لم تفلح كورونا في إخمادها، إذ غالبا ما تعود حالما يُعلَن عن انفراج ولو عارض، وقد اتسمت تلك التحركات بالعنف وتحدي السلطة والقوانين، وباعتمادها الشبكة الإلكترونية في تنظيم صفوفها.

ولئن كانت التحركات السابقة تعبيرا عن سخطها على المنظومات السياسية والاقتصادية المتعاقبة التي لم تفلح في القضاء على التفاوت والبطالة وتعديل القدرة الشرائية على ضوء غلاء المعيشة، فإنها ازدادت حدّة بعد أن صار كل فرد مزوّدا بتكنولوجيات رقمية فتحت أمامه هوامش جديدة من العمل، بالمفهوم النضالي، ما منحه وزملاءَه شعورا بالقوة، وخلق اضطرابا في ممارسة الحكم وتنفيذ القوانين والقيام بما تقتضيه البلاد من إصلاحات.

وفي فرنسا وحدها، تعدّدت الاحتجاجات وتنوّعت ما بين السترات الصفراء والمدافعين عن البيئة والمناهضين للعنصرية والمطالبة بحقوق المرأة.. بشكل مستمر عطّل مسار الحكم. فما الذي جعل الفرد أكثر تشدّدا من ذي قبل، تشدّدا يصل حدّ العنف والإضرار بالأملاك الخاصة والعامة؟

بضائع قوية

إريك سادان: الفرد المستبد وجد في الوسائط الرقمية فرصة للتعبير عن غضبه

في كتابه الأخير “عصر الفرد المستبد”، يصف المفكر الفرنسي إريك سادان، المتخصّص في التكنولوجيات الرقمية، هذا التطوّر المذهل الذي حوّل، في بضعة أعوام، الفردَ المواطن الذي يحترم الإطار العام، إلى فرد مستبد يرفض منح ثقته للسلطة السياسية ولو كانت منتخبة ديمقراطيا، مثلما يرفض الاعتراف بما هو واقعي كالأحداث والعلاقات والآراء، ما يسيء إلى فكرة الحوكمة المشتركة، التي باتت شبه مستحيلة، مؤكّدا على الصلة بين الثقافات الرقمية كالجوّال وأجهزة الكمبيوتر وبين ظهور ما أسماه “الفرد المستبد”.

وفي اعتقاده أن كل فرد مبحر على الشبكة صار يسمح لنفسه بالطعن في حق وجود عناصر تخالف حقيقته، التي لا تعدو أن تكون سوى حقيقة بنيت حول حياة في هذا الموقع أو ذاك من “مجموعته”. وبعض “اللايكات” التي يحصل عليها إثر كل رأي، توهمه بأن رأيه، حتى وإن جرفته آراء أخرى في خضم المنشورات التي لا تتوقف أبدا، له قيمة، وسوف يحسب له حساب، والحال أن مسار الإنترنت الذي لا يني يتكرّر ويتجدّد، يحكم بانحسار الحقل الواقعي وزيادة عدم الاكتراث لدى الآخرين.

لتفسير تلك الظاهرة، يبيّن سادان كيف مرّ الغرب الأوروبي من الفردية الليبرالية في منعطف القرن الثامن عشر، تلك المرحلة التي كانت تحمل مُثل التفتح والانعتاق في إطار مشترك، إلى الليبرالية الشرسة في الثمانينات، حيث باتت صورة “الرابح” الفرد مقدّمة على سرديات المغامرات المشتركة.

وكان من آثار ذلك إحساس بالمعاناة في العمل، وعدم الظهور اجتماعيا، ولا جدوى الذات. فقد تميّزت تلك المرحلة بتزايد التفاوت، وتدهور الخدمات العامة، ما جعل الأفراد، البسطاء بخاصة، يشعرون أنهم انتُزعوا من ذواتهم، وصاروا على هامش المجتمع.

ويقف سادان أيضا عند محطات تطوّر المستحدثات التكنولوجية في العشريتين الأخيرتين من كمبيوتر “أي ماك” لشركة “أبل”، الذي يحوي كل شيء، إلى تطبيقات التعارف والتلاقي التي تسمح باختيار العلاقات المستقبلية كما يختار المرء بضائع في الأسواق، ويعود إلى نقطة الانطلاق حين ابتكرت الصناعة الرقمية أدوات وأجهزة وحدودا مشتركة بينها، تعطي لمستخدميها إحساسا بأنهم وُهبوا قوة مضاعفة، ويتجلى ذلك خاصة في المواقع الاجتماعية عن طريق تعبير كل واحد عن آرائه وأحقاده.

وكان لذلك أثر على السلوك: كالتطهير النفسي اللاشعوري والتنفيس عن الأنا في فيسبوك، وانتصار الأفكار في مئة وأربعين حرفا في تويتر على حساب الفعل المجسّد، ونهاية التحفظ على الصورة بفعل السيلفي، والتصرّف في الشخصية كعلامة تجارية في إنستغرام، علاوة على تطبيقات أخرى، مثل أوبر، تتيح التقويم المتبادل. كل ذلك حوّل الأفراد إلى بضائع وأوهمهم في الوقت نفسه بأنهم يملكون قوة جبارة، بمقدورها أن تتحكم في كل شيء، وتجعل كل شيء خاضعا لإرادتها.

ذاتية مخيفة

كتاب “عصر الفرد المستبد” يؤكّد أن العالم يزداد عنفا وهياجا، ما قد يقود إلى حرب الجميع على الجميع

“الفرد المستبد”، كما يصفه سادان، لم يعد يثق في رجال السياسة، ويحس بأنهم يغمطون حقه، ويتجاهلونه، فوجد في الوسائط الرقمية فرصة كي يعبّر عن غضبه، ولسان حاله يقول “لا أحد يتحدّث عني، إذن سأتحدّث عن نفسي لمن هم مثلي”، ما أدّى إلى تصوّر متضخّم للذات.

ذلك أن المجتمع، حين تحوّل أفراده إلى مقاولين يرتبون حياتهم كما يهوون، ترك روابطه المشتركة القديمة تتفسّخ لصالح مؤسسات رقمية، عرفت كيف تشدّ الانتباه وتستقطب الطاقة، تلك الطاقة التي كانت في ما مضى في خدمة الالتزام السياسي والعمل الجمعياتي أو النضال من أجل قضية عادلة.ففي عصر الفرد المستبد، يسعى كل فرد إلى الترويج لذاته على نحو ينبذ ويرفض كل قانون مخالف لقانونه الخاص. وبما أنه نتاج للتنمية الذاتية فإنه لا يقبل أن يحكمه أحد. وفي هذا خطر على الحياة المشتركة والعيش الآمن.

والنتيجة، عالم يزداد عنفا وهياجا، حيث تحوّلت كلّ خصوصية إلى مصدر لمطالب مشطة، دون أن يمتلك أحد شرعية القيام بدور الوسيط، لتقريب وجهات النظر، أو حل المشكلة، ما قد يقود إلى “حرب الجميع على الجميع”. ومع ظهور “الفرد المستبد” بات مفهوم واقع مشترك يترنّح، والسبب تضخّم الذات على نطاق واسع، ذلك الذي أوجدته وحثّت عليه، لأسباب تجارية صارت اليوم معلومة، التكنولوجيات الحديثة، وفي مقدمتها المواقع الاجتماعية والسمارتفون.

يقول سادان “ما أسميه الفرد المستبد هو عدد كبير من الأفراد، ما عادوا يثقون في المنظومة المشتركة والخطاب السياسي، بسبب توالي الخيبات منذ نصف قرن، فلجأوا إلى أنفسهم، للتعبير عن غيظهم”. ولكن استبدادهم بالرأي، وتضخّم ذواتهم، نتيجة إفراطهم في الاعتماد على العوالم الافتراضية، قد يهدّدان مصير المجموعات البشرية أصلا.

'