ليس دفاعا عن السوريين.. ولكن غيرة على لبنان – مصدر24

ليس دفاعا عن السوريين.. ولكن غيرة على لبنان

لا أمل في أن يخرج لبنان من أزمته قريبا. لسبب بسيط أنه يبحث عن حلول غلط في مكان غلط.

دعونا أولا نوجّه الشكر إلى اللبنانيين الذين استضافوا لاجئين سوريين استجاروا بهم لمدة 11 عاما، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها بلادهم. والآن باتوا يعتقدون أن مشاكلهم سببها هؤلاء اللاجئين، بينما يحبس سياسيون غارقون بالفساد والعمالة ضحكة مكتومة، بعد أن نجحوا في حجب الحقيقة عن اللبنانيين واستطاعوا تضليلهم.

هناك أسئلة بسيطة كان على اللبنانيين أن يطرحوها على أنفسهم قبل أن يوجهوا غضبهم إلى لاجئ سوري اشترى ربطة خبز ليطعم صغاره وراحوا يشبعونه ضربا وركلا.

هل يمكن أن يتسبب مليون أو مليون ونصف لاجئ سوري بأزمة اقتصادية في لبنان، بينما أضعاف مضاعفة من أعداد اللبنانيين داخل لبنان يعيشون في دول الهجرة، موزعين بين دول الخليج وأوروبا والأميركيتين ودول آسيا. حولوا إلى لبنان مبلغ 6.61  مليار دولار أميركي خلال عام 2021.

لبنان لم يكن يوما “قطعة من سما” إلا في خيال الشعراء والمطربين، وإلا ما غادره 13 مليونا من أبنائه لينتشروا في أصقاع الأرض، وهذا حسب إحصائيات رسمية. بينما عدد من تبقى في لبنان من أهله لا يتجاوز 4 ملايين لبناني.

الدول الطبيعية تنتعش بالهجرة، هذا ما حصل في دول الخليج وفي أوروبا وفي الأميركيتين وآسيا. لبنان استثناء، لأنه دولة محكومة من قبل الميليشيات والطوائف.

لبنان اليوم لم يعد دولة طبيعية، بل دولة فاشلة، ليس بسبب من السوريين الموجودين هناك، بل بسبب ارتهان البلد لميليشيات حزب الله وإيران

عندما كان لبنان دولة طبيعية لم يضق اللبنانيون ذرعا بأعداد أكبر من السوريين عملوا يوما في لبنان في كل المهن التي كان اللبنانيون يأنفون منها أو يعتبرونها مرهقة.

السؤال الذي يجب أن يطرح، ومع ذلك تلافاه الجميع، هو لماذا أصبح لبنان دولة فاشلة تعجز عن تأمين الخبز لمن تبقى من لبنانيين يقلّ عددهم عن ربع عدد اللبنانيين الذين غادروا لبنان؟

إن لم يكن لدى من نسمّيهم تجاوزا سياسيين لبنانيين جوابا على هذا السؤال، نحيلهم إلى تقرير صادر عن البنك الدولي في خريف عام 2021، معنون بشكل موح جدا: “المرصد الاقتصادي للبنان: الإنكار الكبير”.

يشير التقرير إلى أن “الكساد المتعمّد” في لبنان هو من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة واستأثرت بمنافعها الاقتصادية. وقد استمرّت هذه الهيمنة على الرغم من شدة الأزمة، التي يصفها التقرير بأنها واحدة من أشد عشر أزمات، وربما أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينات القرن التاسع عشر.  نعم، منذ عام 1850.

الأزمة التي يشهدها لبنان سببها فساد النخبة الحاكمة وارتهانها لدول أجنبية، وليس كسرة خبز اشتراها سوري لاجئ ليطعم أبناءه. أزمة باتت تُعرّض للخطر الاستقرار والسلم الاجتماعي في البلاد على المدى الطويل.

ورغم التدفقات الكبيرة لرؤوس الأموال، ورغم الدعم الدولي مقابل وعود أطلقتها النخبة بإجراء إصلاحات عاجلة، أفلس نموذج التنمية الاقتصادية في لبنان. وحدث الانهيار في بيئة جيوسياسية وصفها التقرير بأنها على درجة عالية من عدم الاستقرار.

من يصدّق اللبنانيون اليوم؟ هل يصدقون وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية التي علقت الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان على مشجب اللاجئين السوريين، داعية دول أوروبا إلى تخليص لبنان منهم. أم يصدقون الأرقام التي قدمها تقرير “الإنكار الكبير”.

لا بد من ذكر بعض الأرقام التي قدمها التقرير ومنها، أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي هبط بنسبة 10.5 في المئة في 2021، في أعقاب انكماش نسبته 21.4 في المئة في 2020. وانخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان من قرابة 52 مليار دولار أميركي في 2019 إلى مستوى متوقع قدره 21.8 مليار دولار أميركي في 2021، مسجِّلا انكماشا نسبته 58.1 في المئة، وهو أشد انكماش في قائمة تضم 193 بلدا.

واستمر التدهور الحاد لقيمة الليرة اللبنانية في 2021، إذ هوى سعر الصرف للسحب النقدي مقابل الدولار الأميركي ومتوسط سعر الصرف الذي يحتسبه البنك الدولي بنسبة 211 في المئة و219 في المئة (على أساس سنوي) على الترتيب، خلال الأحد عشر شهرا الأولى من العام. وأدَّى انتقال آثار تغيرات أسعار الصرف على الأسعار إلى قفزة كبيرة للتضخم الذي يُقدَّر أن معدله بلغ في المتوسط 145 في المئة في 2021، ليسجل ثالث أعلى معدل على مستوى العالم بعد فنزويلا والسودان.

الأزمة التي يشهدها لبنان سببها فساد النخبة الحاكمة وارتهانها لدول أجنبية، وليس كسرة خبز اشتراها سوري لاجئ ليطعم أبناءه

ويقول التقرير إن التأثيرات التضخمية تمثل عوامل تنازلية شديدة تُؤثّر على الفقراء والطبقة المتوسطة أكثر من غيرهم، وبوجه أعم على من يعيشون على دخل ثابت مثل أصحاب معاشات التقاعد. ومازال تضخم أسعار المواد الغذائية مبعث قلق كبير لأنها تشكل نسبة أكبر من النفقات التي تتكبدها الأسر الأفقر التي تواجه مصاعب جمّة في تلبية احتياجاتها الأساسية في ظل تدهور قدرتها الشرائية.

وفي ربيع عام 2011، بدأ اعتماد تدابير لإلغاء الدعم عن السلع المستوردة على نحو غير منظَّم، واتسم المسار الذي سلكته السلطات لإلغاء الدعم بالغموض، والنقص في التنسيق، والافتقار إلى اعتماد تدابير وفق  جدول زمني مدروس للتخفيف من آثار رفع الدعم على الفقراء.

المستفيدون الوحيدون من رفع الدعم هم المستوردون والمهرّبون الذين استنزفوا ما تبقى من موارد النقد الأجنبي الثمينة والشحيحة أصلا.

المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي لخّص في تعقيب على التقرير، الانهيار الذي يشهده لبنان بست كلمات: “إنكار متعمد في ظل كساد متعمد”.

هذا الإنكار لن يؤدي سوى إلى أضرار طويلة الأمد على الاقتصاد والمجتمع. فبعد أكثر من عامين على الأزمة المالية، يقول ساروج كومار جاه، إن لبنان لم يحدّد بعد مسارا “يتسم بالمصداقية للوصول إلى التعافي والاستقرار الاقتصادي والمالي، ناهيك عن الشروع في هذا المسار. وعلى الحكومة اللبنانية أن تمضي قدماً بشكل عاجل نحو اعتماد خطة لتحقيق الاستقرار والتعافي المالي الكلي ذات مصداقية شاملة ومنصفة، وتسريع وتيرة تنفيذها إذا كان لها أن تتفادى دمارا كاملا لشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية، وأن توقف على الفور نزيف رأس المال البشري الذي لا يمكن تعويضه. ويُؤكد البنك الدولي مرة أخرى استعداده مواصلة دعم لبنان في تلبية حاجات شعبه الملحّة والحدّ من التحديات التي تُؤثّر على سبل عيشه”.

ما لم يقله التقرير هو أن لبنان اليوم لم يعد دولة طبيعية، بل دولة فاشلة، ليس بسبب من السوريين الموجودين هناك، بل بسبب ارتهان البلد لميليشيات حزب الله وإيران.

نعم اللبنانيون يعيشون اليوم واقعا اقتصاديا سيئا جدا، ولكن لن تُحلّ المشاكل بتجاهل الأسباب الحقيقية لأزماتهم، وتفريغ شحنات غضبهم على لاجئين تصرف عليهم الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني. كان حريّا باللبنانيين امتلاك الشجاعة ومواجهة حكوماتهم الفاشلة، هذا إن كانت هناك حكومة، ورفض هيمنة الميليشيات التي تعمل برعاية حزب الله المدعوم من إيران.

كيف انتهى بكم الحال لتصدقوا ميليشيات تقول لكم إن المعركة الحقيقية في القدس، وهي عاجزة عن تأمين الخبز لكم.

أقول هذا ليس دفاعا عن السوريين، ولكن غيرة على لبنان من أن يعرض نفسه لازدراء العالم.

'